التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٠٨
-المائدة

تفسير كتاب الله العزيز

قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } وفي هذه الآية تقديم يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ }.
قال الحسن أي: من المسلمين، من العشيرة، لأن العشيرة أعلم بالرجل وبولده وماله، وأجدر ألا ينسوا ما يشهدون عليه. فإن لم يكن من العشيرة أحد، فآخران من غيركم، أي من غير العشيرة.
قال: { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } فإن شهدا وهما عدلان مضت شهادتهما، وإن ارتبتم في شهادتهما حبسا بعد صلاة العصر. وفيها تقديم؛ ثم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم. قال الحسن: ولو كانا من غير أهل الصلاة ما حلفا دبر الصلاة.
قال: { فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ } فتمضي شهادتهما.
{ فَإِنْ عُثِرَ } أي اطلع { عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً } أي شهدا بزور، ردت الأشياء على الورثةَ الشاهدين، وهو قوله: { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ } يعني من الورثة { فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }.
قال الله: { ذَلِكَ أَدْنَى } [أي أجدر] { أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }.
قال الحسن: أراد الله أن ينكل الشهود بعضهم على بعض، ولم تكن عند الحسن منسوخة.
ذكر عبد الله بن عون قال: قلت للحسن: هل نسخ من المائدة شيء. قال: لا. ذكروا عن الحسن قال: كان المسلمون أمروا أن يُشهدوا من عشائرهم، ثم رخص لهم بعدُ أن يشهدوا من غير عشائرهم.
قال بعضهم: هذا رجل مات بغربة من الأرض في غير عشيرته، وأوصى بوصية، وأشهد عليها رجلين. فإن ارتيب في شهادتهما استُحْلِفا بعد العصر؛ وكان يقال: وعندها تصير الأَيْمان. { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً } قال: فإن اطُّلِعَ منهما على خائنة أنهما كذبا أو كتما، أو جاء شاهدان يشهدان بغير ما شهدا به. أجيزت شهادة الآخرين وأبطلت شهادة الأولين. قال الله: { ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي ذلك أحرى أن يصدقوا فيها وأن يخافوا العَقِب.
ذكروا عن عطاء بن السائب في قوله: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي من أهل الكتاب.
وقال الكلبي: إن رجلاً لبني سهم انطلق في تجارة ومعه تميم الداري ورجل آخر، وهما نصرانيان يومئذ. فلما حضر الرجلَ الموت كتب وصية ثم جعلها في ماله ومتاعه، ثم دفعه إليهما فقال: أبلغا هذا أهلي: فانطلقا لوجههما الذي توجها إليه. وفتّشا متاع الرجل بعد موته فأخذا ما أعجبهما فيه، ثم رجعا بالمال إلى أهل الميت. فلما فتش القوم المال افتقدوا بعض ما خرج به صاحبهم معه. ونظروا في الوصية فوجدوا المال فيها تاماً. فكلموا تميماً وصاحبه فقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً أو اشترى شيئاً فوُضِعَ فيه؟ قالا: لا. فقالوا: هل مرض فطال مرضه فأنفق على نفسه؟ فقالا: لا. فقالوا: إنا نفتقد بعض ما أبدى به صاحبنا، فقالا: لا علم لنا بالذي أبدى به ولا بما كان في وصيته، ولكنه دفع إلينا المال فبلّغناه كما هو. فرفعوا الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. فقدما فحلفا عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم دبر صلاة العصر، فخلّى سبيلهما. فاطلع على إناء من فضة منقوش مموّه بذهب عند تميم، فقالوا: هذا من آنية صاحبنا التي كانت مع صاحبنا، وقد زعمتما أنه لم يبع شيئاً ولم يشتره. قالا: لا، فإنا كنا قد اشتريناه منه فنسينا أن نخبركم به. فرفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية: { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ }. فقام رجلان من أولياء الميّت، يزعمان أنهما عبد الله بن عمر والمطلب بن أبي رفاعة، فحلفا بالله إن ما في وصيته حق، وإن خيانة بتميم وصاحبه. فأخذ تميم وصاحبه بما وجد في وصيته لما اطلع عليه عندهما من الخيانة لقول الله: { ذَلِكَ أَدْنَى }، أي أجدر، { أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا }... إلى آخر الآية.
وبعضهم يقول: هي منسوخة. لا يحلف الشاهدان اليوم؛ إن كانا عدلين جازت شهادتهما، وإن لم يكونا عدلين لم تجز شهادتهما. قال الله في سورة البقرة:282:
{ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } وقال في سورة الطلاق: 2: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } ولم يجعل على الشاهد أن يحلف. ولا يستوجب المدَّّعي بنفسه الحق، إن شهد له شاهدان ذوا عدل قُضِيَ له، وإن لم تكن له بيّنة استحلِف له المدعى عليه.
ذكروا عن ابن عباس في قوله:
{ وَءَاتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الخِطَابِ } [ص:20] قال: البيّنة على المدَّعِي واليمين على المدَّعَى عليه.
ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المدعى عليه أولى باليمين إذا لم تكن بيّنة" .
ذكروا أن مجاهداً قال: هو أن يموت المؤمن فيحضر موته مؤمنان أو كافران، لا يحضر غير اثنين. فإن رضي ورثته عما غابا عليه من تركته فذاك، وإلا حلف الشاهدان أنهما صادقان، فإن عثر، أي: إن وجد لطخ أو لبس أو سبة، حلف اثنان من الأوْليين من الورثة فاستحقا وأبطلا أيمان الشاهدين.
قال: { وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } أي المشركين الذين يموتون على شركهم.