التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ
١
-الفيل

هميان الزاد إلى دار المعاد

بسم الله الرحمن الرحيم
{ أَلَمْ تَرَ } يا محمد لما شهد أثار القصة وتواترت عنده أخبارها جعله كأنه رأها فأنكر عليه عدم الرؤية بالهمزة أو قرره بها أو عجبه بها أو المعنى ألم تعلم.
*{ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ } عدى الرؤية إى جملة فعل ربك معلقة بالإستفهام ولم يعدها إلى ما أي ألم تر ما فعل ربك بهم لأن المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله عز وجل وقدرته وعزة نبيه وشرفه كأنه قيل ألم تر كيف فعل ربك بأعدائك وأنت لم تظهر في الدنيا فإنه يفعل بأعدائك من الإهلاك وذلك أن ملك الحبشة النجاشي وكل ملك لهم يسمى النجاشي بعث أرياط إلى اليمن فغلب عليها فقام حبشي يقال له أبرهة بن الصباح بن كيسوم فساخط أرياط في أمر الحبشة فكانت طائفة معه وطائفة مع أرياط وتقاتلوا وقتل أبرهة أرياط واجتمعت له الحبشة وأقره النجاشي ثم رأى أبرهة الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله عز وجل فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي إني بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ولست منتهيا حتى أصرف اليها حج العرب فسمع به مالك بن كنانة من قريش فدخلها وتغوط بها ليلا ولطخ بالغذرة قبلتها فبلغ ذلك أبرهة فقال من فعل ذلك فقيل رجل من العرب من أهل ذلك البيت فحلف ليسيرن إلى الكعبة فيهدمها فكتب إلى النجاش يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله المسمى محمودا ولم يوجد مثله قط قوة وعظما فبعثه إليه فخرج أبرهة بالحبشة سائرا إلى مكة بالفيل فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقا عليهم فخرج إليه ملك من ملوك اليمن يقال له ذونفر بمن أطاعه من قومه فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذونفر فقال له استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي فاستبقاه وأوثقه وكان أبرهة حليما ولما دنا من بلاد خثعم خرج اليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع اليه من اليمن فهزمهم أبرهة فأخذ نفيلا فقال له إني دليل بأرض العرب وأطيعك أنا وقومي فاستبقني فاستبقاه وخرج معه يدله ومر بالطائف فخرج اليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال أيها الملك نحن عبيدك لا نخالفك نبعث معك من يدلك فبعثوا معه أبا رغال موالي لهم فخرج فمات في المغمس فقيل هو الذي يرجم قبره وبعث أبرهة رجلا من الحبشية يقال له الأسود ابن مسعود على مقدمة خيله وأمره بالغارة على نعم الناس فجمع أموال الحرم وأصاب مائتي بعير لعبد المطلب ثم أن أبرهة بعث خماط الحمير إلى أهل مكة وقال له سل عن شريفها وقل له إني لم أت لقتال بل لهدم البيت فدخل مكة فلقي عبد المطلب فقال له أرسلني اليك الملك ليخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه وإنما جاء لهدم البيت ثم الإنصراف فقال عبد المطلب ما لنا عنده قتال ولا لنا يدان بينه وبين ما جاء اليه فان هذا بيت الله الحرام وبيت خليله ابراهيم عليه الصلاة والسلام فإن يمنعه فهو بيته وحرمه قال فانطلق معي الى الملك فقيل اردفه على بغلة وركب بعض بنيه حتى قدم العسكر وكان ذو نفر صديقا لعبد المطلب فأتاه فقال له يا ذونفر هل عندك من غنى فيما نزل فقال غنى رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشية ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل فإنه لي صديق فأسأله أن يضع لك من عند الملك ما استطاع من خير ويعظم منزلتك عنده فأرسل اليه فأتاه فقال له إن هذا سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس في السهال والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت فانفعه فإني أحب له الخير فدخل أنيس على أبرهة فذكر ذلك كله له و أنه قد جاء يكلمك غير مخالف لك فأذن له وكان جسيما فأعظمه وأكرمه وكره الجلوس معه على السرير فنزل إلى البساط وقال لترجمانه قل له ما حاجتك عند الملك فقال له أن يرد لي إبلي فقال أبرهة لترجمانه قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك وزهدت الآن فيك قال لم قال جئت لبيت هو دينك ودين أبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه ولم تكلمني فيه وكلمتني في مائتي بعير أصبتها لك فقال عبد المطلب إنا رب هذه الإبل ولهذا البيت رب يمنعه منك قال ما كان يمنعه مني قال فأنت وذاك فأمر بإبله فردت إليه فخرج بها فأخبر قريش الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفا من معرفة الجيش ففعلوا وأتى عبد المطلب البيت وأخذ بحلقة الباب فقال:

يا رب لا أرجو لهم سواك يا رب فامنع منهم حماك
إن عدو البيت من عاداك امنعهم أن يخربوا قراك

ومضى مع قومه وأصبح أبرهة للمغمس وتهيأ للدخول بالجيش والفيل المذكور ومعه إثنا عشر فيلا فأقبل نفيل إلى الفيل وأخذ بأذنه وقال له أبرك محمود وارجع رشيدا فإنك ببلد الله الحرام فبرك فبعثوه فأبى فضربوه بالمعول في رأسه فأدخلوا محاجنهم تحت مرافقه ففزعوه ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام فهرول وكذا الى كل جهة إلا مكة وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة ولما غشينا القوم أرسلتها عليهم ولم تصب تلك الحجارة إلا أهلكته وليس إصابة كل القوم وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق يتسائلون عن نفيل لديهم على الطريق ونفيل ينظر اليهم من جبل وتساقطوا في الطريق وبعث الله على أبرهة داء في جسده فجعل تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة تبعثها أخرى من قيح ودم فانتهى إلى صنعاء كالفرخ وما مات حتى انصدع قلبه وخرج من صدره وقيل أصابت الحجارة الجميع والإثني عشر فيلا ولم تصب الفيل العظيم لأنه أبى التوجه إلى الكعبة ولم يتوجه وذكر بعضهم أن أبا يكسوم انفلت وهو وزير أبرهة وتبعه طائر حتى قص القصة على النجاشي فأوقع عليه حجرا فمات قال أمية بن أبي الصلت:

إن آيات ربنا ساطعات ما يماري فيهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى ظل يعوي كأنه معقور

وقيل ما كان معهم إلا هذا الفيل العظيم وقيل معه ثمانية وروي أنه لما بنى الكنيسة بصنعاء سماها القليس بضم القاف وفتح اللام مشددة وإسكان الياء المثناة التحتية بعدها سنين وقيل بتخفيف اللام وقيل بفتح القاف وكسر اللام مخففة سمي لإرتفاعه ومنه القلاليس لأنها في أعلى الرأس، وقيل سمت العرب ما علا القليس لأن الناظر اليه يكاد تسقط قلنسوته وروي أنه لما بلغ المغمس عرض عليه ثلث مال مكة ليرجع بقومه وفيله فأبى والمغمس بفتح الميم الثانية مشددة وبكسرها مشددة موضع بطريق الطائف فيه قبر أبي رغال.
وعن ابن عباس أنه رأى عند أم هاني من تلك الحجارة نحو قفيز مخططة بجمرة كالجزع الظفاري والجزع الخرز وظفار بلدة باليمن وكان يقع الحجر على رأس واحد ويخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه وروي أن أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين سنة وعن عائشة رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
وروي أن عبد المطلب دعا عند حلقة الباب بالأبيان المذكورة وبهذه:

لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحالهم عددا محالك
جروا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم بغيا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعبتنا فامر ما بدا لك

وروي أنه التفت نحو اليمن وهو يدعوا فرأى الطير وقيل إنما ظهرت له وهو فوق جبل من جهة جدة وقيل إن طائفة من العرب أججوا نارا فهبت ريح فأحرقت بها كنيسة ابرهة بن الصباح الأشرم وهو المذكور سمي أشرم لأنه مشقوق الأنف، وقيل ضربوه بحربة فشرم أنفه وجبينه فذلك السبب، وقال مقاتل إن فئة من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي فنزلوا ساحل البحر قرب بيعة للنصارى هنالك تسميها قريش الهيكل فأججوا واشتووا ورحلوا والريح عاصف فأحرقت البيعة فانطلق الصريح الى النجاشي فأسف غضبا للبيعة فبعث أبرهة لهدم الكعبة وكان بمكة وقتئذ أبو مسعود الثقفي مكفوف البصر يضيف بالطائف ويشتووا بمكة وكان نبيها نبيلا تستقيم الأمور برأيه وكان خليلا لعبد المطلب فقال له عبد المطلب ماذا عندك؟ فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك فقال له أبو مسعود اصعد بنا إلى حراء فصعد به فقال لعبد المطلب اعمد إلى مائة من الإبل فقلدها لله ثم أثبتها في الحرم فلعل بعض السواد أن يعقر منها شيئا فيغضب رب البيت فيأخذهم ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم اليها وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود إن لهذا البيت ربا يحميه فقد نزل تبع ملك اليمن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام فلما رأى تبع ذلك كساه القياطي البيض وعظمه ونحر له جزورا فأنظر نحو البحر فنظر عبد المطلب فقال أرى طيورا ابيضا نشأت من شاطئ البحر فقال أرمقها ببصرك اين قرارها فقال أراها قد دارت على رؤسنا قال هل تعرفها؟ قال والله ما أعرفها ما هي بتجدية ولا تهامية ولا غربية ولا شامية قال ما قدرها قال أشباه اليعاسيب في منافيرها حصي كأنها حصي الخذف قد أقبلت كالليل يتبع بعضها بعضا أمام كل رفقة طائر يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق فجاءت حتى حادت العسكر من فوقهم أهالت ما في مناقرها مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ثم رجعت من حيث جاءت فلما اصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا حتى صعدا ربوة فلم يريا أحدا ودنوا فلم يسمعا حسا فقالا بات القوم سمامدين فأصبحوا نياما وزادا دنوا فأذاهم خامدون وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيحرقها ويحرق دماغه ويحرق الفيل والدابة ويغيب في الأرض من شدة الواقع فأخذ عبد المطلب فأسا من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجواهر وحفر لصاحبه مثلها فملأها فقال له اختر حفرتي أو حفرتك أو خذهما معا فقال له اختر لي عن نفسك فقال عبد المطلب إني لم أر أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهي لك وجلس كل منهما في حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فرجعوا فأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به وساد عبدالمطلب قريشا وأعطته القادة ولم يزل هو وابو مسعود في غنى ورفع الله البأس عن كعبته، وقيل جاء ابرهة لعنه الله بفيل وفيلة وروي ان الطير جاءتهم عشية ثم صحبتهم فساء صباح المنذرين وعن عكرمة من اصابه حجر جدره فهو اول جدري ظهر.
وروي ان ابرهة لعنه الله ركب على ذلك الفيل ولما برك بالمغمس ضربوا رأسه بالمعاويل ليقوم فأبى وروي انه استاق ابل قريش وفيها اربعمائة ناقة لعبد المطلب وان عبد المطلب ركب في قريش حتى بلغ جبل ثبير فاستدارت دائرة غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبينه كالهلال واشتد شعاعها على الكعبة مثل السراج فقال ارجعوا فقد كفيتم فوالله ما استدار هذا النور مني الا ان يكون الفضل لنا فرجعوا وان رسول ابرهة لما راى وجه عبد المطلب في مكة خضع وتلجلج لسانه وخر مغشيا عليه وخار كما يغور الثور عند ذبحه ولما افاق خر ساجدا لعبد المطلب وقال اشهد انك سيد قريش حقا وان عبد المطلب لما ذهب الى ابرهة احضر فيله العظيم وهو المذكور فلما راى عبد المطلب خر ساجدا وقال السلام على النور الذي في وجهك يا عبد المطلب واعترض وجود نور النبي صلى الله عليه وسلم في وجه عبد المطلب في ذلك الوقت مع ان الاشهر أن ولادة صلى الله عليه وسلم بعد الفيل بخمسين يوما فقد انتقل النور منه الى عبد الله ومن عبد الله الى امنة وقربت ولادة النور صلى الله عليه وسلم واجيب بانه نورا احدثه الله فيه ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم كرامة تخلصه ممن اراد هدم البيت الذي هو في منعة من حين خلق واخذ ماله ومال الناس وخراب الحرام واشعارا بان دينه صلى الله عليه وسلم يعلو الاديان وانه لا يوذي به احدا الا اهلكه الله وقيل لم يبرك الفيل بالمغمس بل دخل الحرم وبرك في واد اسمه محسر لان الفيل حسر فيه أي أعيا وقيل في صفة الحجارة أنها كالعدس، وقيل كانت قصة الفيل قبل مولده صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين وقيل بخمس عشرة وقيل بعشر والمشهور وعليه أكثر أنه ولد عام الفيل فقيل بعد الفيل بخمسين يوما وقيل بخمس وخمسين يوما وروي أن ذلك الفيل الأعظم الذكور في الاية قد علموه السجود لأبرهة يجاء به صباحا حتى يسجد له، قيل وكذا الملوك يعلمون السجود للفيل ليسجد لهم وقيل الذي في الآية المراد به جميع الاثني عشر فيلا أو الثمانية التي حاء بها أبرهة، فال للجنس وفي التعبير به موافقة لرؤوس الاي بخلاف ما لو جمعه وفي قصة الفيل دلالة عظيمة على قدرة الله إذ يستحيل أو يبعد أن تأتي طير من قبل البحر تحمل حجارة ترمي بها ناسا مخصوصين وذكر بعضهم ما يشعر أن تلك الحجارة وقع بعضها بالرأس وبعضها بالرجل وغير ذلك وكل ما وقعت عليه خرقته إلى الأرض.
وقرئ ألم تر بإسكان الراء حرصا على ظهور أثر الجازم أي إعلاما به وليس يجزم وكيف حال من ربك مع وجوب الإعتقاد أن ربنا لا تجري حال من الأحوال عليه فافهم، وقال ابن هشام ليس حالا بل مفعول مطلق اي فعل فعل رب.