التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ
١
-الكوثر

هميان الزاد إلى دار المعاد

بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ } يا محمد وروي أنه قرئ أنا انطيناك بابدال العين نونا وروي أنها قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهي لغة اليمن *{ الكَوْثَرَ } فوعل من الكثرة للافراط في الكثرة قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر بم آب ابنك فقالت آب بكوثر.
قال الشاعر:

وأنت كبير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

فقيل المراد القرآن العظيم وهو مذهب الحسن وقيل هو والنبوة والحكمة وقيل كثرة اتباعه وقيل علماء أمه اللهم برحمتك اجعلنا منهم، وقيل أولاده واتباع أمته وقيل حوض في الجنة وقيل نهر فيها وقيل الخير الكثير ذلك وغيره النبوة والقرآن والحكمة والعلم والشفاعة والحوض وكثرة الإتباع والإظهار على الأديان والنصر وكثرة الفتوح في زمانه وبعده والنهر في الجنة وغير ذلك.
قال ابن عباس الكوثر الخير الكثير فقال له سعيد بن جبير فإن ناسا يقولون إنه نهر في الجنة فقال هو خير كثير من الخير الكثير، وقال الجمهور أنه نهر في الجنة قال صلى الله عليه وسلم
"بينما أنا في الجنة إذ أنا بنهر حافتاه اللؤلؤ فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا مشربه مسك أذفر فقلت ما هذا يا جبريل فقال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك" ، وذكر في حديث الإسراء أنه زاده الله شرفا قال "انفجر لي من السلسبيل نهر الكوثر ونهر الرحمة فاغتسلت في نهر الرحمة فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وسلكت الكوثر حتى انفجر لي في الجنة" .
وعن أنس "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ غفا غفوة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله عليه وسلم قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } ثم قال أتدرون ما الكوثر قلنا الله ورسوله أعلم قال نهر في الجنة وعدنيه ربي عز وجل فيه خير كثير وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" وفي الحديث دلالة على أن البسملة من السورة لأنه قال أنزلت علي سورة فقرأ البسملة وما بعدها ودلالة على أن السورة مدنية فإن أنسا في المدينة وعن ثوبان عنه صلى الله عليه وسلم "أول من يرد على الحوض فقراء المهاجرين" الدنس ثيابا الشعث رؤوسا الذين لا ينكحون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد ويموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ولو أقسم على الله لأبره وحكى ذلك لعمر بن عبد العزيز فبكى حتى خضل لحيته بالدموع وقال لا جرم أني لا أغسل ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ ولا أدهن رأسي حتى يشعث والأشعث المغبر الرأس والسدد جمع سدة وهي عتبة باب الدار وروى أنس أول من يرد الحوض على الدابلون الناحلون السائحون الذين إذا جنهم الليل استقبلوه بالحزن والدابل الذي جسده غير ذي وضاة لجوع أو عطش أو تعب أو نحو ذلك والناحل الهزيل، " وعن زيد بن أرقم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلا ما فقال أنتم جزء من مائة ألف جزء ممن يريد الحوض قيل كم كنتم يومئذ قال سبعمائة أو ثمان مائة" قيل هذا مثال للكثرة والمراد أكثر قلت الحديث نص في الأكثر أو كالنص وجاء أنه أحلى من العسل وأشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد حافتاه من الزبرجد وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء وأن من شرب منه لا يضمأ أبدا وجاء أن حافتيه قباب من لؤلؤ أجوف وأن طينه مسك أذفر أي شديد الرائحة وجاء أن فيه طيرا أعناقها كأعناق الجزر، وأن عمر قال له ألعامتنا هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم وجاء أن حصباه الياقوت وجاء عن ابن عمر أن حافية من ذهب وأنه يجري على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أبيض من الثلج وجاء عن عمرو بن العاص أنه مسيرة شهر وريحه أطيب من المسك وعن ابن عمر أمامكم حوضي ما بين جنبيه كما بين جرباء وأدرح وهما قريتان بالشام بينهما ثلاثة أيام والأخيرة في طرف الشام والأولى بجيم فراء ساكنة فباء فألف مقصورة وتمد أيضا والآخرة بهمزة فبدال فراء فجاء مهملة، وعن أنس ما بين صنعاء والمدينة، وفي رواية ما بين آيلة وصنعاء اليمن وعن أبي ذر آنيته أكثر من عدد نجوم السماء في الليلة المظلمة الصاحية فيه ميزبان من الجنة عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى آيلة وعمان بفتح العين وتشديد الميم بلدة بالبلقاء من أرض الشام وآيلة بفتح فإسكان مدينة في طرف الشام على ساحل البحر بين دمشق ومصر آخر الحجاز وأول الشام بينها وبين المدينة خمس عشرة مرحلة أو نحو ذلك وإلى مصر ثمان مراحل وإلى دمشق إثنتا عشرة واحترز بصنعاء اليمن من صنعاء دمشق "وعن ثوبان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أرضه فقال من مقامي إلى عمان وإن الميزانين أحدهما من ذهب والآخر من ورق" وروي ميزبان يمدانه من الجنة وروي يشخبان بالإعجام أي يسيلان وروي يغشبان بالإعجام والتشديد وكسر الغين وفتحها أي يتتابع دفعهما ويشتد وجاء أنه يرده أمتي فيختلج العبد منه أي يجذب فأقول يا رب إنه من أمتي فقال ما تدري ما أحدث بعدك.
وعن ابن مسعود أنا فرطكم على الحوض وليرفعن إلى رجال منكم حتى إذا هويت لأناولهم اختلجوا دوني فأقول أي ربي أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وفي رواية عن أنس ليردن على الحوض رجال من صحابتي فيختلجوا دوني فلأقولن رب أصحابي فليقالن إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك وفي رواية فأقول سحقا لمن بدل بعدي، والفرط بفتحتين الذي يتقدم للماء ويهيأ الدلو والحوض ونحوهما وروي أني عند عقدي حوضي أذوذ الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرقص عليهم والعقد ضم العين المهملة وإسكان القاف موقف الإبل من الحوض وقيل مؤخر الحوض وأذوذ أضرب ويرقص يسيل وهذه منقبة عظيمة لأهل اليمن وعن أبي هريرة يرد على الحوض رهطان من أصحابي وقال من أمتي يختلجون عن الحوض فأقول أي ربي أصحابي فيقال لا علم لك بما أحدثوا ارتدوا علي أدبارهم القهقرى وفي رواية أذوذ غير أمتي فقيل لي هل تعرفنا قال تردون غرا محجلين من الوضوء وتصد طائفة منكم فأقول أي رب من أصحابي فيجيبني ملك بقول وهل تدري ما أحدثوا بعدك.
وعن حذيفة وأبي هريرة أن حوضي لأبعد من آيلة إلى عدن ولا أذودن رجالا كما يذاذ البعير لغير صاحب الحوض، وتلك الأحاديث صحيحة قريبة من التواتر، قال عياض يجب الإيمان بها ومسافة طول الحوض وقربه مختلفة في الروايات السابقة والوقوف على أبعدها ولما القريبة فتمثيل كما يضرب المثل بالسبعين عن الألف وأكثر والذين يختلجون المرتدون وأصحاب الكبائر غير التائبين وهم أهل السحق والخلود في النار هذا مذهبنا معشر الأباضية واختلف قومنا فقيل المراد المنافقون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وقيل المرتدون في زمان أبي بكر رضي الله عنه حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب مسيلمة الكذاب، وقيل أصحاب الكبائر من أهل التوحيد قالوا يجوز أن يزادوا عنه عقوبة ثم يدخلوا الجنة بلا عذاب في النار قال عياض منهم ظاهر حديث من شرب منه لم يظمأ أبدا إن الشرب بعد الحساب والنجاة من النار وإنه يحتمل أن من شرب منه ولو دخل النار لا يعذب فيها بالظمأ وبعض الأحاديث يدل على أن الحوض من الجنة إلى خارجها ويشربون منه خارجها ثم يدخلونها، وبعضها علي أنه فيها وذكر الشنواني أن الأظهر عند المحققين وقيل المعجزات الكثيرة وقيل المعرفة وأن في رواية ماؤه أبيض من الورق وفي رواية ولا يسود وجهه أبدا وإنه قيل لا يشرب منه إلا من قدرت له السلامة من النار وإن المراد بالسدد أبواب السلاتين وقيل الحوض في المحشر والكوثر في الجنة يصب في الحوض.
قال الشهبلي ومما جاء في معنى الكوثر ما رواه ابن أبي تجيش عن عائشة رضي الله عنها الكوثر نهر في الجنة لا يدخل أحد أصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر وفي رواية عنها قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن الله أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء أحد من أمتي أن يسمع خريره إلا سمعه قلت يا رسول الله وكيف ذلك قال ادخلي اصبعيك في أذنيك فالذي تسمعين فيها هو من خرير الكوثر" .