التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَرْكَنُوۤاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
١١٣
وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ
١١٤
-هود

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ولا تَرْكنُوا } لا تميلوا بقلوبكم محبة، وقرئ بضم الكاف، وقرئ تركنوا بكسر التاء وفتح الكاف على لغة تميم فى كسر حرف المضارعة غير الياء فيما كان من باب علم يعلم، وهو رواية عن أبى عمرو وقرأ ابن أبى عبلة بالبناء للمفعول من أركنه إذا أماله، أى احذروا أن يميلكم أحد أو أمر.
{ إلَى الَّذينَ ظَلمُوا } ظلم شرك أو نفاق، وقيل: ظلم شرك، ويدخل النفاق بالحمد والمعنى، وقال ابن العالية: الركون إليهم الرضا بأعمالهم، وقال السدى، وابن زيد: مداهنتهم، وقال عكرمة: طاعتهم.
والتحقيق أن النهى متناول للانحطاط فى هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيى بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل كيف عظم أمر الركون إذ قال: { ولا تركنوا } فإن أدنى ميل يسمى ركونا، وإذ قال: { إلى الذين ظلموا } فعبر بالفعل ولم يقل الظالمين ليدل على أدنى ظلم صدر من الإنسان ولو مرة واحدة، ولو عبر بالظالمين لتبادر الرسوخ فى الظلم، فإذا كان الركون إلى من وجد منه أدنى ظلم ولو مرة حراما، فكيف الركون إلى الراسخ فى الظلم؟ وكيف الميل إليه كل الميل؟ فكيف الظلم الراسخ نفسه.
صلى الموفق خلف إمام فقرأ هذه الآية فغشى عليه، ثم أفاق فقيل له، فقال: هذا فى من ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم، وعن الحسن: جعل الله الدين بين لاءين: لا تطغوا، ولا تركنوا، ولا يبعد أن الآنة أبلغ نهى فى الظلم إذ حرم أدنى ميل إلى أدنى ظلم، وأوجب عليه النار إذ قال:
{ فتمسَّكُم } تصيبكم وقرأ أبو عمرو فى رواية بكسر التاء { النَّارُ } والنهى عنه تثبيت على الاستقامة، قال ابن مسعود رضى الله عنه: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ولا دين له، لأنه يرضيه بسخط الله. قال بعضهم: ما دخلت أبداً على السلطان إلا وحاسبت نفسى بعد الخروج، فأرى عليها الدرك، وأنا أغلظ عليه وأخالف هواه، ولوددت أنى أنجو من الدخول كفافا، مع أنى لا آخذ منهم شيئا، ولا أشرب لهم شربة ماء.
وأول من خالط السلاطين من العلماء الزهرى، وكتب إليه أخ له فى الدين: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغى لمن عرفك أن يدعو لك الله أن يرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك من كتابه، وعلمك من سنة نبيِّه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه وتعالى لنبيه:
{ { لتبيننه للناس ولا تكتمونه } }. لو أعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك آنست وحشة الظالم، وسهلت سبيل الغنى بذنوبك ممن لم يؤد حقا، ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك فى جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله فيهم: { { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلٰوة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًّا } }. فإنك تعامل من لا يجهل، ويحفظ عليك من لا يغفل، فداو دينك فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شئ فى الأرض ولا فى السماء، والسلام. انتهى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"العلماء أمناء الرسل على عباد الله تعالى ما لم يخالطوا السلاطين، فإذا خالطوهم فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلواهم" وعن عبادة بن الصامت: حب القراء الناسك للأمراء نفاق، وحبه للأغنياء رياء، وعن الأوزاعى: ما من شئ أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا.
وعنه صلى الله عليه وسلم:
"شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء" وعن مكحول: من تعلم القرآن وتفقه فى الدين، ثم صحب لسلطان تملقا إليه وطمعا لما فى يده، خاض فى جهنم بعدد خطاه.
قال بعض: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد، فيسأل عنه فيقال: إنه عند الأمير، وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قراء على باب هؤلاء، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله فى أرضه" .
وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك فى برية: هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموت؟ فقال: دعه يمت، وذكر بعضهم: أن الراكن يهلك قبل المركون إليه، ووجهه أنه إذا أراد باطلا فسوغه له وأعانه فقد كفر بذلك، بخلاف المركون إليه فإنه لا يكفر بالإرادة، بل بالفعل فلا يكفر حتى يفعل، أو معنى القبلية أن ذنب الراكن أعظم إذا كان سببا لذنب المركون إليه وعمدة له.
{ ومَا لكُم مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أولياءَ } أنصار يمنعونكم من النار، والجملة حال من كاف تمسكم { ثمَّ لا تُنْصرونَ } أى لا ينصركم الله إذ قضى بتعذيبكم، والعطف على الحال، وثم لبعد النصر، شبه امتناعه بشئ بعيد لا يتوصل إليه، وأجاز بعضهم أن تكون ثم للسببية والترتيب باتصال، لأنه يتولد من كونهم لا يقدر على نصرهم إلا الله، وهو قضى بعدم نصرهم أنهم لا ينصرون أصلا.
ذكر بعض أن أبا اليسر كعب بن عمرو بن غزية الأنصارى قال:
"أتتنى امرأة تبتاع منى تمرا بدرهم فاعجبتنى، فقلت: إن فى البيت تمرا أطيب من هذا، فدخلت معى البيت، فقبلتها وضممتها إلى نفسى، فقالت لى: اتق الله فتركتها وندمت، فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب، ولا تخبر أحدا، فلم أصبر، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال كذلك سواء، فلم أصبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أخلفت غازيا فى سبيل الله فى أهله بمثل هذا؟ وأطرف عنى وظننت أنى من أهل النار، وأن الله لا يغفر لى أبدا، وتمنيت لو أسلمت حينئذ، فنزل بعد الإطراق الطويل.
{ وأقِم الصَّلاةَ } إلى قوله: { للذاكرين }"
.
وروى أنه صلى الله عليه وسلم [صلى] العصر فنزلت، قال: فأتيته فقرأها علىَّ، وروى أن عمر، وقيل: معاذ بن جبل [قال:] ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ فقال: "بل للناس عامة"
وقيل: فاعل ذلك رجل اسمه عباد، وقيل: [إن] فاعل ذلك قال: يا رسول الله ألَى هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لأمتى كافة".
"وروى عن معاذ بن جبل: أنه أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قاعد عنده فقال: يا رسول الله أريت رجلا لقى امرأة ليس بينهما معرفة، فأتى منها كل ما يأتى الرجل امرأته إلا الجماع، فنزلت وأمره أن يتوضأ وضوءاً حسنا، ويصلى ركعتين، فقال معاذ: يا رسول الله أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة" .
وفى رواية "أن فاعل ذلك أتى عمر أولا فقال له: استر على نفسك، فقلق فجاء أبا بكر فقال له كذلك، فقلق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه ثم أخبره وقال: اقض فىَّ ما شئت، فقال: لعلها زوجة غاز فى سبيل الله؟ قال: نعم: فوبخه النبى صلى الله عليه وسلم وقال: ما أدرى فنزلت فدعاه فتلاها عليه" .
وفى رواية ابن عباس: "أنه أتى عمر فقال: ان امرأة جاءتنى تبايعنى فأدخلتها فأصبت منها كل شئ إلا الجماع، فقال: ويحك، بعلها مغيب فى سبيل الله؟ قال: أجل، قال: أتيتَ أبا بكر؟ فأتاه وقال له مثل عمر وقال: أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأتاه فقال له مثلهما، ولما قال: بعلها مغيب فى سبيل الله؟ سكت فنزلت، فقال الرجل: ألى خاصة يا رسول الله أم للناس عامة؟ فضرب به عمر فى صدره فقال: لا ولانعمت عين، ولكن للناس عامة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدق عمر" وانظر كيف اعتبر عمر عموم اللفظ لا خصوص السبب كما هو مذهبنا فى مثل ذلك، وقيل: نزلت الآية قبل فعله الرجل واستعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
{ طَرَفىِ النَّهارِ } طرفى ظرف زمان لإضافته لاسم الزمان، والطرفان الغدوة والغشية، وصلاتهما الفجر وهو فى الطرف الأول، والظهر والعصر وهما فى الطرف الثانى، لأن ما بعد الزوال عشى.
{ وزُلَفاً } جمع زلفة كغرفة وغرف، وقرأ أبو جعفر بضم الراء واللام كبسرة وبسر بضمتين، ويقال: بسر بالإسكان وقرأ بإسكان اللام كبسر بالإسكان، والمراد ساعات متقاربة بعضها إلى بعض، أو متقاربة إلى النهار، وقرأ زلفى كقربى، وبمعنى زلفة كقربة وهو مصدر مؤنث بالألف.
{ مِنَ اللَّيلِ } وصلاة زلف من الليل المغرب والعشاء، لتقارب ساعاتهما بعضهما إلى بعض، أو قربهما من النهار، وذلك هو الذى ظهر لى فى تفسير الآية، وبه قال مجاهد، وفى الحديث،
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى المغرب والعشاء: إنهما زلفتا الليل" واستحسنه عياض، وقال الحسن، وقتادة: طرف الأول الصبح، والثانى العصر، والزلف المغرب والعشاء، واختاره الفخر.
وقال ابن عباس وغيره: طرف الأول الصبح، والثانى المغرب، والزلف العشاء، وفى هذين القولين ضعف لعدم عمومهما الصلوات ولأن المغرب ليس من النهار، واختار الطبرى قول ابن عباس، وقال مقاتل: الطرف الأول الصبح والظهر، والطرف الثانى العصر والمغرب، والزلف العشاء، وفيه ما مر فى قول ابن عباس أن المغرب ليس من النهار، إلا أن يقال فيهما: إنه طرف لتلوه للنهار.
{ إنَّ الحَسَناتِ } الفرائض والنوافل من الصلاة والصدقة، والصوم والاستغفار وغير ذلك { يُذْهِبْنَ } يكفرن ويمحون { السَّيئاتِ } الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وثبت فى الحديث:
"الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارات لما بين ذلك لمن اجتنب الكبائر" وفى رواية: "إذا اجتنب الكبائر" وفى رواية: "ما لم تغش الكبائر" وفى الكبائر وفى الحديث: "إن الصلوات الخمس كنهر جار عم على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، أيبقى من درنه، أى وسخه، شئ؟ قالوا: لا" وكنى به عن الصغائر.
وذكر أبو عثمان النهرى،
"أنه كان مع سلمان الفارسى تحت شجرة، فأخذ غصنا منها فهزه حتى تساقط ورقه: أنى كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة: فأخذ غصنا منها فهزه حتى تساقط ورقه، ثم قال: إن الرجل المسلم إذا توضأ ثم صلى صلاة الخمس، تحاتت عنه ذنوبه كما تحاتت هذا الورق ثم تلى هذه الآية" على سبيل التمثيل، وذلك هو الذى ظهر عندى.
وقال الجمهور من الصحابة والتابعين: المراد فى الآية الصلوات الخمس، وبه قال عثمان، ومالك، وابن المسيب، ومجاهد فى رواية عنه، والضحاك، ونسب لابن مسعود، وابن عباس، والقرطبى، وقال مجاهد فى رواية: هن سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وعن عياض أن هذا وقول الجمهور تمثيل.
{ ذَلكَ } إشارة إلى قوله: { استقم } وما بعده، وقال الطبرى: ما ذكر فى السورة من الأوامر والنواهى والقصص، وقيل: القرآن، وقيل: الصلوات المشار إليها بالحسنات، فإن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى الإخبار بالحسنات يذهبن السيئات.
{ ذِكْرى للذَّاكرينَ } وعظ وتنبيه لمن سبق العلم أنه يتذكر، وخص لأنه المنتفع، أو وعظ وتنبيه متأثر فيمن رأيتموه قد اتعظ وتنبه، يعنى أن تذكره من ذلك.