التفاسير

< >
عرض

إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ
١
-النصر

هميان الزاد إلى دار المعاد

بسم الله الرحمن الرحيم
{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ } إياك على أعدائك من قريش وغيرهم وقيل جنس نصر الله للمؤمنين وعن بعضهم أن النصر هو كمال الدين وإظهاره *{ والفَتْحِ } فتح مكة وقيل فتح مكة وفتح سائر البلاد وقيل الإقبال الدنيوي الذي هو تمام النعمة، والمعنى إذا حضر نصر الله والفتح وحصلا ولكن عبر بالمجيء تجوزا للإشعار بأن المقدرات متوجهات من الإزال إلى أوقاتها المعينة فتقرب منها شيئا فشيئا وقد قرب النصر والفتح من وقتهما فكن مترقبا لورودهما مستعدا لشكرهما، وقال ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في أواسط أيام التشريق في حجة الوداع وعاش بعدها ثمانين يوما ونحوها وقرأ ابن عباس إذا جاء فتح الله والنصر.
بيان فتح مكة
من الثعالبي والسهيلي وغيرهما وهو الفتح الذي استبشرت به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس في دين الله أفواجا وأشرق به الهر ضياء وابتهاجا، خرج له صلى الله عليه وسلم بكتائب الإسلام وجنود الرحمن لنقض قريش العهد الذي وقع بالحديبية فإنه كان قد وقع الشرط أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فعل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش فعل، فدخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان بين بني بكر وخزاعة حروب وقتلى في الجاهلية فتشاغلوا عن ذلك لما ظهر الإسلام فلما كانت الهدنة خرج نوفل بن معاوية الدئلي من بني بكر في بني دئل حتى بيت خزاعة وهم على ماء لهم يقال له الوتير فأصاب منهم رجلا يقال له منبه واستيقظت لهم خزاعة فاقتتلوا إلى أن دخلوا الحرم ولم يتركوا القتال ومدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل بعضهم معهم ليلا في خفية وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبا من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بالذي أصابهم ويستنصرونه فقام وهو يجر رداءه وهو يقول لا نصرت إن لم أنصركم بما أنصر منه نفسي.
وعن ميمونة سمعته صلى الله عليه وسلم يقول في متوضاه ليلا لبيك لبيك لبيك ثلاثا نصرت نصرت نصرت ثلاثا فلما خرج قلت يا رسول الله سمعتك تقول في متوضاك كذا وكذا فهل معك أحد وقال صلى الله عليه وسلم هذا رجل من بني كعب يستصرخني ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بني بكر ثم عليه السلام فأمر عائشة أن تجهزه ولا تعلم أحدا قالت فدخل عليها أبو بكر فقال يا بنيتي ما هذا الجهاز فقالت والله ما أدري فقال والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر أي النصارى فأين يريد صلى الله عليه وسلم قالت فأقمنا ثلاثا ثم صلى الصبح بالناس فسمعت الراجز ينشد هذه الأبيات:

يا رب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا فانصر هداك الله نصرا أبدا
وادعو عباد الله باتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا
في عسكر كالبحر يجري مزبدا أبيض مثل الشمس يسموصعدا
إن اسم خسفا وجهه تربدا

أي تغير وزاد ابن اسحاق:

هم بيوتنا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست تدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم فكان ذلك ما أهاج فتح مكة، وقدم أبو سفيان بن حرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يسأله أن يجدد العهد ويزيد في المدة فأبى عليه فانصرف الى مكة فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إعلام أحد بذلك فكتب حاطب كتابا يخبرهم، وقد مضت قصته وأنه كتابه رد من الطريق ولم يصلهم وبعث صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب فجلبهم أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وسليم فمنهم من وافاه بالمدينة ومنهم من لحقه بالطريق.
وكان المسلمون في غزوة الفتح عشرة آلاف وقيل إثني عشر ألفا وجمع بينهما بأنه خرج من المدينة بالعشر ثم تلاحق به الالفان واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وقيل أبا رهم الغفاري، وكان خروجه يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان بعد العصر سنة ثمان من الهجرة.
وقال أبو سعيد خرجنا لليلتين مضتا من رمضان وصحح وقيل لست عشرة وقيل لثماني عشرة وقيل لإثنتي عشرة وقيل لتسع عشرة ولما بلغ صلى الله عليه وسلم الكديد بفتح الكاف ماء بين قديد وعسفان أفطر حتى انسلخ الشهر وكان العباس رضي الله عنه خرج قبل ذلك بأهله مسلما مهاجرا فآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجفة وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض وكان ممن لقيه في الطريق أبو سفيان ابن الحارث ابن عمه عليه السلام وأخوه من رضاع حليمة ومعه ولده جعفر، وكان ابو سفيان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بعث عاداه وهجاه وكان لقاؤهما له عليه السلام بالابواء واسلما قبل دخوله مكة وقيل لقيه هو وعبد الله بن أبي امية بن عمته عاتكة بنت عبد المطلب بين السقيان والعرج فاعرض صلى الله عليه وسلم عنهما لما كان يلقى منهما من شدة الاذى والهجو فقالت له أم سلمة لا يكن ابن عمك وابن عمتك اشقى الناس بك قيل وقال على لابي سفيان رأيت رسول الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال اخوة يوسف ليوسف تالله لقد اثرك الله علينا وان كنا لخاطئين فانه لا يرضى ان يكون احد احسن منه قولا ففعل ذلك ابو سفيان فقال له صلى الله عليه وسلم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين ويقال انه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اسلم حياء منه ولما بلغ قديدا عقد الالوية والرايات ودفعها الى القبائل ثم نزل من الظهران عشاء فامر اصحابه فاوقدوا عشرة الاف نارا ولم يبلغ قريش مسيره وهم مهتمون لما يخافون من غزوه فبعثوا ابا سفيان بن حرب فقالوا ان لقيت محمدا فخذ لنا منه امانا فخرج هو وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء حتى اتوا من الظهران فلما راوا العسكر كان افزعهم كان نيرانهم نيران عرفة فقال ابو سفيان ما هذه النيران لكأنها نيران عرفة بديل نيران بني عمرو فقال ابو سفيان نيرانهم اقل من ذلك فارآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوهم فأتوا بهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ابو سفيان ولما سار قال العباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى ينظر الى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتبت كتيبة على ابي سفيان كلما مرت قبيلة قال يا عباس من هذه قال بنو فلان قال مالي ولهم واقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هذه قال هؤلاء الانصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فقال سعد بن عبادة يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة أي يوم الحرب اليوم تستحل الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس حبذا يوم الذمار بالذال المعجمة المكسورة أي الهلاك قيل تمنى أن تكون له يد يدفع بها عن قومه وقيل هذا الغضب للحرم والأهل وقيل يوم يلزم حفظي من أن ينالي مكروه.
وقيل إن سعدا قال اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة فسمعه رجل من المهاجرين فقال يا رسول الله ما آمن ان تكون لسعد في قريش صولة فقال لعلي أدركه فخذ الراية منه وادخل بها وقيل حاذى أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أمرت بقتل قومك قال لا فذكر له ما قال سعد ثم ناشده الله والرحم فقال يا أبو سفيان اليوم يوم المرحمة اليوم يعز الله قريشا وأرسل إلى سعد فأخذ الراية منه فدفعها إلى ابنه قيس، وعند ابن عساكر من طريق ابي الزبير عن جابر قال لما قال سعد ذلك قال امرأته:

يا نبي الهدى اليك لحاجتي قريش ولات حين لجاء
حين ضاقت عليهم سعة الأرض وعاداهم إله السماء
إن سعدا يريد قاصمة الظهر بأهل الحجون والبطحاء

فدخلته صلى الله عليه وسلم رأفة فأخذت الراية من سعد ودفعت إلى ابنه قيس وعند أبي يعلي من حديث الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم دفعها اليه فدخل مكة بلوائين وهو ضعيف الإسناد وعن الزهري أنه دفعها إلى الزبير بن العوام وجمع بين الأقوال أن عليا أرسل ليأخذها فخشي تغير خاطر سعد فدفعها إلى ابنه قيس وخشي سعد أن يقع من ابنه ما يكره رسول الله عليه وسلم فسأل النبي صل الله عليه وسلم أن يأخذها منه فأخذها الزبير ويرده أنه ما كان علي ليعطيها غيره وقد أمره صلى الله عليه وسلم أن يدخل بها بنفسه وقيل إن رأيته صلى الله عليه وسلم مع الزبير وإن أبا سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد قال ما قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة وأمر صلى الله عليه وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال نافع بن جبير بن مطعم سمعت العباس يقول للزبير بن العوام يا أبا عبد الله ها هنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية قال نعم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء بالفتح والمد ودخل صلى الله عليه وسلم من كدى بالضم والقصر فقتل من خيل خالد رجلان حبيش بن الأشقر وكرز بن جابر الفهري وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم دخل من كداء بالفتح والمد من أعلى مكة وكذا عائشة وغيرها.
وعن ابن عمر دخل على راحلته مردفا أسامة بن زيد وذكروا أنه بعث الزبير على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخلها من أعلى مكة من كداء وأن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه وبعث خالد بن الوليد في قبائل فضاعة وسليم وغيرهم أن يدخلا من أسفل مكة من كدى وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت وبعث سعدا في الأنصار وأمرهم أن يكفوا عن القتال إلا إن قوتلوا، ودخل خالد من أسفل مكة وقد تجمع بها بنو بكر وبنو الحارث بن عبد مناف وناس من هذيل ومن الأحابيش الذين استنصرت بهم قريش فقاتلوا خالدا فقاتلهم فانهزموا وقتل من بني بكر نحو من عشرين رجلا ومن هذيل ثلاثة أو أربعة حتى انتهى بهم القتل إلى الحزورة إلى باب المسجد حتى دخلوا الدور فارتفعت طائفة منهم على الجبال وصاح أبو سفيان من أغلق بابه وكف يده فهو آمن لما اطمأن صلى الله عليه وسلم قال لخالد لم قاتلت وقد نهيتك عن القتال وقال هم بدأونا بالقتال وقد كففت يدي ما استطعت فقال قضاء الله خير.
وعن ابن اسحاق لما نزل صلى الله عليه وسلم من الظهران رقت نفس العباس بأهل مكة فخرج ليلا راكبا بغلة النبي صلى الله عليه سولم لكي يجد أحدا ليعلم أهل مكة بمجيئ النبي صلى الله عليه وسلم ليتأمنوه فسمع صوت أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فأردف أبا سفيان خلقه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف الأخران ليعلما أهل مكة ويمكن الجمع بأن الحرس ملا أخذوه استنفذه العباس، وروي أن عمر لما رأى أبا سفيان رديف العباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان دعني أضرب عنقه فقال العباس يا رسول الله إني قد آجرته فقال صلى الله عليه وسلم اذهب يا عباس به إلى رحلك فإذا أصبحت فاتني به فذهب فلما أصبح غذا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال ويحك يا أبا سفيان ألم يإن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله فقال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك لقد ظننت أنه لو كا مع الله إله غيره أغنى عني شيئا ثم قال ويحك يا أبا سفيان ألم يإن لك أن تعلم أني رسول الله قال بأبي أنت وأمي احلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه ففي النفس منها شيء فقال له العباس ويحك اسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم وشهد شهادة الحق فقال العباس يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم وأمر صلى الله عليه وسلم أن ينادي مناد من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه على نفسه فهو آمن إلا المستثنيين عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم وهلال بن خطل.
وروي عبد الله بن خطل قتله أبو برزة وقينتاه وهما فرنتا بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون وقريبة بالقاف والموحدة مصغرا أسلمت إحداهما وقتلت الأخرى قيل التي أسلمت فرنتا وقتلت قريبة وسارة مولاة لبني عبد المطلب أسلمت وقيل كانت مولاة عمرو بن صيفي بن هشام وأرنب علم امرأة وعكرمة بن أبي جهل أسلم والحارث بن نقيد قتله علي ونقيص بن صبابة بصاد مهملة مضمومة وموحدتين الأولى خفيفة قتله نميلة الليثي وهبار بن الأسود أسلم وهو الذي عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت فنحس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها وكعب بن الزهير أسلم وهند بنت عتبة أسلمت ووحشي بن حرب أسلم وبعث صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة إلى الحراي الذين بغير سلاح فقال لي يا أبا هريرة اهتف لي بالانصار فهتفت بهم فجاؤوا فطافوا به فقال لهم أترون إلي أوباش قريش وأتباعهم ثم قال بإحدى يديه على الأخرى احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا قال أبو هريرة فانطلقنا فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال صلى الله عليه وسلم من أغلق بابه فهو آمن وتمسك بذلك من قال إن مكة فتحت عنوة وهو قول الأكثر، وقال الشافعي إنها فتحت صلحا لما وقع من هذا التأمين ولإضافة الدور إلى أهلها لأنها لم تقسم ولأن الغانمين لم يملكوا دورها وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها وحجة الأولين ما وقع التصريح به من الأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد وبتصريحه عليه السلام بأنها أحلت له ساعة من نهار ونهيه عن التأسي به في ذلك وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم.
واحتج الشافعي بأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة وبحث فيه بأن الذي أشار اليه إذ كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير اليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الأحاديث الصحيحة ظاهر وإن قريشا لم يلتزموا بذلك لأنهم استعدوا للحرب وإن أراد بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينقل ولا أظنه عني إلا الإحتمال وفيه ما ذكرنا ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في كتيبتها الخضراء وهو على ناقته القصوى بين أبي بكر وأسيد بن خدير فرأى أبو سفيان ما لا قبل له به فقال للعباس يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك ملكا عظيما، وروي أنه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه تواضعا لله لما رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن رأسه لتكاد تمس رحله شكرا وخضوعا لعظمته أن أحل له بلده ولم يحله لأحد قبله ولا لأحد بعده.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر وهو بكسر الميم وسكون العين المعجمة وفتح الفاء زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس، وفي المحكم هو ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة فلما نزعه جاء رجل فقال ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتله، وروي أن ابن خطل قتله الزبير، وروي أنه تعلق بأستار الكعبة فاستبق اليه سعيد بن حويرث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب ولعله سبقه ولكن باشر قتله أبو برزة، ونص ابن هشام صاحب السير أن سعيدا وأبا برزة اشتركا في قتله وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلما فبعثه صلى الله عليه وسلم مصدقا وبعث معه رجلا من الأنصار وكان معه مولى يخدمه وكان مسلما ونزل منزلا فأمر المولى أن يذبح تيسا ويصنع طعاما ونام فاستيقظ ولم يصنع له شيئا فقتله وارتد وكانت له قينتان تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلف في اسمه لأنه كان يسمى عبد العزى ولما أسلم سمي عبد الله ومن سماه بهلال فالتبس عليه بأخ له يسمى هلالا واختفى ابن أبي سرح عند عثمان بن عفان فلما دعا الناس صلى الله عليه وسلم إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر اليه ثلاثا كل ذلك بأبى فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على أصحابه فقال ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت عن بيعته فيقتله فقالوا يا رسول الله ما ندري ما في نفسك ألا أومأت الينا قال إنه لا ينبغي للنبي أن تكون له خائنة الأعين وليس صلى الله عليه وسلم محرما يومئذ، قال جابر بن عبد الله دخل صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء بغير إحرام ولم يدخلها غير محرم إلا ذلك اليوم وجمع بين حديث دخوله بالمغفر وحديث دخوله بالعمامة بأنه كان أول دخوله بالمغفر ثم أزاله ولبس العمامة فحكى كل ما رآه وخطب بتلك العمامة وكانت الخطبة عند باب الكعبة وقيل إن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحته وقاية لرأسه من صدى الحديد فذكر أنس وهو صاحب حديث المغفر أنه دخل بالمغفر مريد أن يعلم الناس أنه متأهب للحرب، وأراد جابر بذكر العمامة إعلامهم أنه دخل غير محرم، وقال أسامة ابن زيد أين منزل رسول الله فقال وهل ترك لنا عقيل من منزل وكان عقيل وطالب كافرين فورث عقيل طالبا ولم يرث جعفر ولا علي شيئا فكان عمر يقول لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام منزلنا ان شاء الله إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر يعني به المحصب وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا اليهم النبي صلى الله عليه وسلم، وروي أنه اغتسل يوم الفتح في بيت أم هاني ثم صلى الضحى ثمان ركعات قالت لم أره صلى صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود وأجارت أم هاني حموين لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت يا أم هاني، ورجلان الحارث بن هشام وزهير بن أمية بن المغيرة وقد أراد أخوها علي قتلهما فأغلقت عليهما باب دارها وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولما كان الغد من يوم الفتح قام عليه الصلاة والسلام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله ثم قال أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة فلا يحل لإمرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص فيها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ثم قال يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء أي الذين أطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسروا والطليق الأسير إذا أطلق والساعة المحللة له ما بين أول ذلك النهار ودخول وقت العصر ولما فتح الله تعالى مكة قال الأنصار فيما بينهم أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها وكان صلى الله عليه وسلم يدعو على الصفا رافعا يديه فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى اخبروه فقال صلى الله عليه وسلم معاذ الله المحيي محياكم والممات مماتكم وهم فضالة بن عمير بن الملوح ان يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضالة قال نعم يا رسول الله قال ماذا كنت تحدث به نفسك قال لا شيء كنت اذكر الله فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له استغفر الله ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه وكان فضالة يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب إلي منه، وطاف صلى الله عليه وسلم بالبيت يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان وكان حول البيت ثلاثمائة وستين صنما فكلما مر بصنم أشار اليه بقضيبه وهو يقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فيقع الصنم لوجهه.
وروى أبو نعيم قد ألزقها الشيطان بالرصاص والحديد، وروي أنه أمره سبحانه وتعالى أن يقول إذا دخل مكة وقل جاء الحق وزهق الباطل، فصار يقول ذلك ويطعن الأصنام حول الكعبة بمحجنه فيخر الصنم ساقطا مع إثباتها بالحديد والرصاص والحق القرآن والباطل الشيطان أو الحق الجهاد والباطل الشرك أو الحق عبادة الله والباطل عبادة الشيطان وكانت الثلاثمائة والستين صنما لقبائل العرب يحجون اليها وينحرون لها فشكى البيت أي رب حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله اليه أني سأحدث لك نوبة جديدة يدفون اليك دفيف النسور ويحنون اليك حنين الطير إلى بيضها لهم عجيج حولك بالتلبية ولما نزل قل جاء الحق وزهق الباطل فتح مكة يوم قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خذ محضرتك ثم القها فجعل يأتي صنما صنما ويطعن في بطنه أو عينه بمحضرته ويقول جاء الحق وزهق الباطل فينكب الصنم لوجهه حتى ألقاها جميعا وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر فقال يا علي ارم به فحمله عليه السلام حتى صعد ورمى به وكسره فجعل أهل مكة يتعجبون ولما قدم أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فأخرجت بأمره فأخرجوا صورة ابراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بالأزلام قط فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل وعن ابن عمر دخل مكة مردفا أسامة وأناخ بفناء الكعبة ودعا عثمان بن طلحة فقال آتني بالمفتاح فذهب إلى أمه فأبت أن تعطيه فقال والله لتعطينه أو ليخرجن هذا السيف من صلبي فأعطته إياه فجاء به صلى الله عليه وسلم فدفعه اليه ففتح الباب وكان بنوا أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح ففتحها بيده وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى ويقال له الحجبي بفتح المهملة والجيم ويعرفون بعد ذلك بكثير بالشيبيين نسبة إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عم عثمان وعثمان هذا لا ولد له فيما قيل وله صحبة ورواية واسم أمه سلافة بالضم.
قال عثمان المذكور كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم يريد أن يدخل الكعبة مع الناس فأغلظت له ونلت منه فحلم عني ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت له لقد هلكت قريش يومئذ وذلت قال بل عمرت وعزت يومئذ ودخل الكعبة فوقعت كلمته مني موقعا ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال ولما كان يوم الفتح قال يا عثمان أتني بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه الي وقال خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل اليكم منه بالمعروف فلما وليت ناداني فرجعت فقال ألم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت قلت بلى أشهد أنك رسول الله.
وروي أنه نزل
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } في عثمان بن طلحة الحجبي أمره صلى الله عليه وسلم أن يأتيه مفتاح الكعبة فأبي وأغلق باب البيت وصعد إلى السطح وقال لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه فلوى على يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ودخل ولما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له بين السقاية والسدانة فنزلت إن الله الآية فأمر عليا أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر اليه ففعل فقال عثمان أكرهت وأوذيت ثم جئت ترفق فقال علي لقد أنزل الله في شأنك قرآنا وقرأ عليه الآية وقال عثمان أشهد أن محمدا رسول الله فجاء جبريل عليه السلام فقال ما دام هذا البيت أو لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان ولما مات دفع لأخيه شيبة فهما في أولادهم إلى يوم القيامة واعترض قوله لو علمت أنه رسول لن أمنعه بأنه وهم من الراوي لأنه كان ممن أسلم، فلو قال هذا كان مرتدا ولما طلب قيل المفتاح من عثمان مد يده إليه فقال العباس يا رسول الله اجعله لي مع السقاية فقبض عثمان يده بالمفتاح فقال صلى الله عليه وسلم إن كنت يا عثمان تؤمن بالله واليوم الآخر فهاكه فقال هاته بالأمانة فأعطاه إياه ونزلت الآية، قال ابن ظفر وهذا أولى بالقبول وروي أنه دخل هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي وأغلقوا الباب، قال ابن عمر ولما فتحوا الباب كنت أول من ولج فلقيت بلال فسألته هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم بين العمودين اليمانين وذهب عني أن أسأله كم صلى، وروي أنه جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة وراءه وليس بين الروايتين مخالفة.
وروي أن البيت يومئذ على ستة أعمدة وروي أن عن يمينه عمودين ولعله على خمسة بعد ذلك ويدل له لفظ يومئذ أو الثالث لم يكن على سمت الإثنين في اليمين وروي الإثنين عن يساره وبين موقفه والجدار الذي استقبله نحو ثلاثة أذرع وعن ابن عمر ذراعان أو ثلاثة فمن جعل بينه وبين الجدار ثلاثة وقعت قدماه في مكان قدميه صلى الله عليه وسلم إن كان الثلاثة أو تقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كانت أقل من ثلاثة وعن ابن عباس عن أسامة أنه صلى الله عليه وسلم دعا في نواحيه كلها ولم يصل وخرج وركع في قيل البيت ركعتين وقال هذه القبلة وروي أنه صلى ركعتين داخلا، وروي أنه لم يصل. عن أسامة أيضا فجمع بأنه اعتمد على غيره حيث أثبت وعلى علمه حيث نفي لكونه لم يره صلى لاشتغاله بالدعاء لما رآه صلى الله عليه وسلم يدعو في الأركان ورآه بلال لقربه ولم يره أسامة لاشتغاله وخفة الصلاة وإغلاق الباب وبعده وابن عمر ابتدأ بلال بالسؤال ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصلاة فسأل أسامة أو صلى لما غاب أسامة من الكعبة فلم يره فقد روي أن أسامة دخل عليه صلى الله عليه وسلم صورا، فاعا بدلو من ماء مات له بتله بماء فجعل صلى الله عليه وسلم يمحوها ويقول قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون.
وروي أن خالدا بن الوليد كان على باب الكعبة يذب عنه الناس وأقام خمس عشرة ليلة، وروي تسع عشرة ليلة روي سبع عشرة وروي ثماني عشرة وكان الفتح لعشر بقين من شهر رمضان وكان الصلح قبل الفتح على عشرين سنة وقيل عشر وممن أعان بني بكر على خزاعة ليلة نقض الصلح بكر بن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي لهب وسهل بن عمرو وعبيدهم، وروي أن منشد يا رب إني ناشد محمدا الأبيات أنشد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد بين الناس وبنو كعب الذين شهدت السحابة بنصرهم رهط عمرو بن سالم وروي أن بديلا ونفرا من خزاعة قدموا عليه صلى الله عليه وسلم فأخبروا بما أصيب منهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ورجعوا الى مكة وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه كأنكم بأبي سفيان بعثته قريش يشدد في العقد ويزيد في المدة ولقى بديل بن ورقاء ونفره أبا سفيان فقال من أين يا بديل وهل أتيت محمدا قال لا لكني كنت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن الوادي ولما ذهب مضى إلى مبرك ناقته ففت البعر فرأى النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا ودخل أبو سفيان على بنته أم حبيبة في المدينة وأراد الجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فطوته فقال يا بنيتي أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني فقالت بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس فقال والله لقد أصابك شر بعدي يا بنيتي وخرج، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما أنا بفاعل ثم أتى عمر فقال أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لم أجد إلا الدر لجاهدتكم به وأتى عليا وعند فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن غلاما يدب بين يديها فقال يا علي إنك أمس القوم رحما مني فلا أرجعن خائبا اشفع لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ويحك لقد عزم صلى الله عليه وسلم على أمر لا نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة وقال يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيحجز بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت والله ما بلغ ابني أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أبا الحسن أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني قال والله ما أعلم شيئا يغني عنك ولكنك سير بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك قال وترى ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظن ذلك ولكن لم أجد غير ذلك فقام أبو سفيان في المسجد فقال يا أيها الناس إني قد اجرت بين الناس ثم ركب بعيره فانطلق ولما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد عنده خبرا ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم ثم أتيت علينا فوجدته ألينهم وقد أشار علي بشئ صنعته فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا قالوا وماذا أمرك قال أمرني أن أجير بين الناس ففعلت قالوا فهل أجاز ذلك محمدا قال لا قالوا ويلك لعب بك فما يغني عنك شيء مما قلت قال لا والله ما وجدت غير ذلك وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه فدخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة تصلح بعض جهاز رسول الله صلى ا لله عليه وسلم فقال أي بنيتي أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه قالت نعم قال فأين ترينه يريد قالت والله ما أدري ثم أعلن الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيئ وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها فتجهز الناس واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن عتبة بن خلف الغفاري وخرج لعشر بقينا من رمضان سنة ثمان من الهجرة ولم يتخلف مهاجري ولا أنصاري ونزل من الظهران وقد عميت الأخبار عن قريش وقد خرج في تلك الليالي سفيان وحكيم بن حزام وبدليل يتجسسون الأخبار وقد لقى العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجفة مهاجرا بعياله وكان قبل مقيما على سقايته ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنه ولما نزل من الظهران قال العباس ليلتئذ وأصباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء فوصل الأراك لعله يجد حطايا أو لبانا يدخلها فيخبرهم فيستأمنونه وسمع كلام أبي سفيان وبديل قبل إضاءة الشمس يتواجعان وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط على حد ما مر قال فقلت أبا حنضلة فقال أبا الفضل مالك فذاك أبي وأمي فقلت ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صل الله عليه وسلم جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال وما الحيلة قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب على هذه البغلة حتى آتي لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فستأمنه فردفه ورجع صاحباه فخرجت لركض به كلما مررت بنار من نيران المسلمين نظروا وقالوا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا وقام إلي فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد فخرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وركضت فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيئ فاقتحمت عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عمر عليه فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت يا رسول الله إني آجرته ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت والله لا يناجيك أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه من عبد مناف ولو كان من عدي ما قلت فقال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فإت به قال فذهبت به إلى رحلي وبات عندي فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يئن لك إلى آخر ما مر إلا أن في هذه الرواية في المرة الثانية أن أبا سفيان لما أمر بالإسلام قال أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا وفيها أن كتيبته صلى الله عليه وسلم الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يرى منهم الا الحدق من الحديد ثم جاء حكيم وبديل فاسلما وارسلهما الى مكة يدعوان الى الاسلام وان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في ذي طوى على راحلته معتجرا سيفه يرد عليه الخبر وضرب قبته بأعلى مكة وقتل من المشركين اثنا عشر او ثلاثة عشر وثلاثة من المسلمين من خيل خالد وممن أمر صلى الله عليه وسلم بقتله سارة مولاة لبني عبد المطلب فتغيبت حتى استومن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها وعاشت إلى خلافة عمر فوطأها رجل بالأبطح فرسا له فماتت وفي قصة إجارة أم هاني الرجلين أنها وجدته صلى الله عليه وسلم يغتسل من جفنه وأن فيها لأثر العجين وأن فاطمة بنته تستره بثوبه ولما اغتسل توشح بثوبه وصلى ثمان ركعات الضحى وانصرف وقال لها مرحبا بأم هاني ما جاء بك فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي فقال قد أجرنا من أجرت وآمنا من أمنت فلا تقتلهما فلما دخل الكعبة وجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده وطرحا ووقف بباب الكعبة وقد استكف له الناس في المسجد فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده إلى كل مآثره أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين الأسد إنه البيت وسقاية الحاج إلى وقتل الخطأ شبيه العمد بالسوط والعصى فيه الدية كاملة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله تعالى أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالأباء، الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلى
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية ثم قال يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء يعني أعتقهم فأهل مكة يسمون الطلقاء وقام اليه في المسجد علي وفي يده مفتاح الكعبة فقال اجمع لنا بين الحجابة والسقاية فقال صلى الله عليه وسلم أين عثمان بن طلحة فدعا به فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء ويروى اجتمع الناس بالبيعة وهو على الصفا وعمر أسفل منه يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا وبايعته النساء بعد الرجال.
وخرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب البحر منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله إن صفوان بن أمية سيد قومه وقد هرب ليقذف نفسه في البحر فأمنه صلى الله عليه وسلم قال اعطني ما يعرف به أمانك فأعطاه عمامته التي دخل بها مكة فخرج بها وأدركه بجدة يريد ركوب البحر فقال يا صفوان فذاك أبي وأمي أذكر الله في نفسك إن تهلكها فهذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك به فقال ويلك أغرب عني ولا تكلمني قال أي صفوان فداك أبي وأمي أفضل الناس واعلم الناس وخير الناس ابن عمتك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك قال أخاف على نفسي قال هو زعلى من ذلك وأكرم فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان هذا يزعم أنك آمنتني قال صدق قال فاجعلني في الخيار شهرين قال أنت فيه أربعة أشهر وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة في أيام إقامته بمكة وقتل خزاعة لليلتا عام الفتح بقتيل في الجاهلية فقام صلى الله عليه وسلم وأثنى على الله سبحانه وقال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنما أحلت لي ساعة ولا يفر صيدها ولا يحل شوكها ولا ساقطتها إلا لمنشدها ومن قتل له قتيل فهو مخير يفتدي أو يقيد فقال العباس إلا الأذخر بأنه لا بد منه لقبورنا وبيوتنا فقال إلا الأدخر فقال أبو شاة رجل من اليمن اكتبوا الى يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم اكتبو لأبو شاة يعني الخطبة المذكورة وفي رواية لما قال أبو سفيان يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به الخ أخذت هند بشاربه فقالت اقتلوا الحمية الدسم قبح من ضليعه قوم قال ويلكم لا تغرنكم هذه فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به ولما قال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن قالوا قاتلك الله وما تغني عنا دارك، وروي أنه وقف على راحلته بذي طوى متعرجا بشقة برد حمراء وأنه لما قال للأنصار معاذ الله المحي محياكم والممات مماتكم أقبلوا اليه يبكون ويقولون والله ما قلنا ذلك إلا الظن بالله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم والحمية الرق نسبته الضخامة والدسم السمين.
وروي أنها قالت يا آل غالب اقتلوا الأحمق فقال لها أبو سفيان والله لتسلمن أو لأضربن عنقك وأمر صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن اسيد والحارث بن هشام بفناء الكعبة فقال عتاب لقد أكرم أسيد أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو علم أنه محق لا تبعته فقال أبو سفيان لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرته عني هذه الحصاة فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال قد علمت الذي قلتم وذكر لهم ذلك وقال الحارث وعتاب نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك وخرج على أبي سفيان في المسجد فقال في نفسه ليت شعري بأي شيء غلبتني فأقبل اليه حتى ضرب بيده بين كتفيه وقال بالله غلبنك يا أبا سفيان فقال أبو سفيان أشهد أنك رسول الله وسمع أبو محذورة الجمحي الأذان واسمه سلمة وهو في فتية من قريش خارج مكة وأقبل هو وهم مستهزئين حاكين صوت المؤذن حزنا وغيظا وأبو محذورة أحسنهم صوتا وقد رفعه صوته بالآذان مستهزئا فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به فجاء يظن أنه مقتول فمسح صلى الله عليه وسلم رأسه وناصيته وصدره بيده قال فامتلأ قلبي إيمانا ويقينا وألقى عليه الآذان وعلمه وأمره أن يؤذن لأهل مكة وهو ابن ست عشرة سنة وكان يؤذن حتى مات وتوارث عقبه الآذان ولما سمعت بنت أبي جهل قول المؤذن على الكعبة أشهد أن محمدا رسول الله قالت لعمري قد أكرمك الله ورفع ذكرك وسمعت حي على الصلاة فقالت فأما الصلاة فسنؤديها ثم قالت إن هذا الأمر لحق ولقد جاء به الملك أبى ولكن كره مخالفة قومه ودين أبائه، ولما فتح صلى الله عليه وسلم مكة أتى حرم قبر فجلس وجلس الناس حوله كالمخاطب وقام يبكي فاستقبله عمر رضي الله عنه وهو من أجرأ الناس عليه فقال بأبي أنتا وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك قال هذا قبر أمي سألت ربي عز وجل الزيارة فأذن لي وسألته الإستغفار ولم يأذن لي فذكرتها وبكيت، فلم ير أكثر باكيا من يومئذ.
وروي أنه قال ذكرت ضعفها وشدة عذاب الله فبكيت وروي أنه زار قبرها في ألف مقنع ولما فرغ من بدر أمر ذا الجوشن بالإسلام فقال لا لأني رأيت قومك أولعوا بك قال وكيف بلغك عن مصارعهم ببدر قال قد بلغني قال صلى الله عليه وسلم فإني مهد لك قال إن تغلب على الكعبة وتقطعنيها قال لعلك إن عشت ترذلك ثم قال لبلال خذ حقيبته وزوده من العجوة قال فوالله إني بموضع إذا أقبل فارس فقلت من أين قال من مكة قلت ما فعل الناس قال والله لقد غلب عليها محمد فقال ثقلتني امي لو أسلمت يومئذ ثم سألته الحيرة لأقطعنيها والله أعلم.