التفاسير

< >
عرض

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٩
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وجَاءتْ سيَّارةٌ } رفقه من الأعراب يسيرون من مدين إلى مصر، وقيل مسافرون من مدين إلى مصر، فأخطئوا الطريق، ونزلوا قريبا من الجب، وكان فى قفره بعيدة من العمران، لم يكن ألا للرعاة، وكان ماؤه ملحا فعذب حين ألقى فيه يوسف، وقد مر غير ذلك: وقيل: إن ذلك فى اليوم الذى ألقى فيه كما مر، وقيل فى الثانى.
{ فأرْسَلوا } حين نزلوا، وقيل: قبل النزول { وَارِدَهُم } الذى يرد الماء ليستقى لهم، والمشهور أنه الذى يتقدم الرفقة للماء، ويطلق على الواحد والجمع، وهو هنا رجل من أهل مدين، وقيل: من أعرابها يسمى مالك بن ذعر الخزاعى، وقيل: الوارد الرسول، لأنه يرد الموضع الذى أرسل إليه: قيل: المعنى فأرسوا رسولهم.
{ فأدْلَى } أنزل فى الجب { دَلْوه } ليأخذ بها الماء، فتعلق يوسف بالحبل، فلما رآه إذا هو بغلام أحسن ما يكون { قالَ يا بُشْرَى } أى يا بشارتى هذا أوانك فاحضرى، ونداءها مجاز بإضافة البشرى إلى نفسه، وفتح الياء عند نافع، وعنه يا بشرى بإسكانها بنية الوقف، وكذا فتح الياء، وأثبت الفاء قبلها غير حمزة والكسائى، وقرأ ورش الراء بين إخلاص الفتح وإمالته، وعامة أهل الأداء على إخلاص الفتح فى مذهب أبى عمرو، وهو قول ابن مجاهد، وبذلك ورد النص عنه من طريق السوسى، عن اليزيدى وغيره.
وقرأ الحسن يا بشراى بقلب الألف ياء وإغامها فى الياء، وكذا قرأ غيره وهو لغة هذيل، قال جار الله: سمعت أهل السرور، وهو محلة حمير يقولون فى دعائهم: يا سيدى ويا مولاى، وقرأ الكوفيون: يا بشرى بألف التأنيث دون إضافة، إلا أن حمزة والكسائى يميلون، وذلك أيضاً نداء للبشرى، أى احضرى فهذا أوانك بشارة لنفسه أو لقومه أو سيده وقيل: اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، وقيل: ذهب به فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم.
{ هَذا غلامٌ } ولما خرج بكى عليه الجب، وفى رواية: أن مالك ابن ذعر كان يسكن بمصر، فرأى فى منامه حال صغره كأنه فى أرض كنعان، فنزلت الشمس من السماء فدخلت فى كمه، ثم أخرجها فأقامها بين يديه، فأتت سحابة بيضاء فنثرت عليه الدر وهو يلتقطه ويجمعه فى صندوق له، فذهب إلى المعبر ليسمع تأويل رؤياه، فقال له: لا أعبر لك إلا ببذل وإحسان، فقال المعبر: خذ دينارين وفسر لى رؤياى، فقال له: تصيب عبدا وليس بعبد، وتصيب به الغنى، ويبقى الغنى فى أولادك إلى يوم القيامة، وتنجوا من النار ببركته، وتصير لك أولاد، ويبقى اسمك وذكرك أبدا.
فانصرف وتجهز للسفر طمعا فى أن يراه، وقصد دمشق فاجتاز بأرض كنعان، فبقى تارة ينظر إلى السماء، وتارة ينظر إلى الأرض، ينتظر ذلك، فهتف به هاتف: هيهات بينك وبين ذلك خمسون سنة، وكان يختلف إلى أرض الشام مرتين فى كل عام طمعا فى لقائه.
ولما كان بعد خمسين سنة قال لغلامه: إن وجدت هذا الغلام الذى أطلبه أعتقك وأعطيتك نصف مالى، وكان فى دمشق حين ألقى يوسف فى الجب، وانصر وبلغ أرض كنعان، فرأى طيورا تطير حول الجب، وتطوف كما يطوف الحاج بالبيت، وكانوا ملائكة أرسلهم الله تعالى إكراما ليوسف عليه السلام، فظن أنها طيور، ولم يظن أن لله ملائكة، لأنه كان يعبد الأصنام، فقال للسيارة تعالوا نمضى إلى الجب لعل الماء قد نبع فيه، فلما دنوا من الجب تسابقت الحمر، وألقت ما عليها من الأحمال، وقصدت نحو الجب حتى تشم رائحة يوسف، وتمرغت فى التراب حين وصلت قرب الجب، فنزل فأرسل عبده بشرى وخادمه ماملا، ولما أخرجه نادى ذلك العبد المخرج له المسمى بشرى: يا بشراى نادى بشارته فإن له عتقا ونصف مال سيده على ذلك.
وقيل: قيل لمالك بن ذعر فى منامه: لا بد أن تجد غلاما فى جب بين مدين ومصر، تنال به مالا عظيما، ورفعة وجاها، وكان له غلام اسمه بشرى، فقال، إن قصدت هذا الغلام فأنت حر، فجعل يتردد إلى مصر ليجد هذا الغلام، وأدلى دلوه بنفسه، فتعلق بحبله فرآه كما وصف له فى النوم، فصاح لغلامه: يا بشراى هذا غلام، فعلى هذا يكون بشراى من إضافة العلم كقوله:

* ليلاى منكن أم ليلى من البشر *

ومن قرأ يا بشرى لم يضفه فهو كيازيد، وقيل: إنما أخرجه الخادم فنادى الغلام المسى بشرى باسمه.
وعن السدى: كان [من] أصحاب هذا الوارد رجل يسمى بشرى، قيل: لم يره على صورته التى هو عليها، وإلا لم يقدر أن يشتريه، ولما أراد الوارد إدلاء الدلو نزل جبريل فقال: قم يا يوسف، فقال: إلى أين؟ قال: تذكر يوما نظرت فى المرآة فقلت فى نفسك: لو كنت مملوكا ما قام أحد بثمنى؟ قال: نعم، فقال له: اطلع حتى ترى ثمنك، فكان بخسا دراهم معدودة.
قيل ليوسف: بأى كلمة تخلصت من أيدى إخوتك ومن الجب؟ قال: بكلمة تفرد بها من قال أنا أضحكت وأبكيت، من سمعها ألفها، وإذا ألفها عشقها: وإذا عشقها لم يخالفها، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهى مكتوبة فى التوارة بالعبرانية، ثم إن مالكا قال له: من أنت؟ قال: أنا عبد أى عبد الله.
{ وأسرُّوه بِضاعةً } أى أخفاه الوارد ومن معه، وهم مالك ابن ذعر وخادمه وعبده عن التجار الذين معهم، وقالوا: هو بضاعتنا استنبطناها من بعض آل مصر، قال مجاهد: وذلك لئلا يطلب فيه الشركة إن علموا حاله، أى لئلا يأخذه جبار إن كان معهم، وقيل: استبضعها لنا أهل الماء لنبيعها بمصر، وقيل: أخفوه عن أعينهم، أو كانت الرفقة كثيرا يمكن أن لا يعلموا بحدوثه فيهم إلا بإخبار فلم يخبروهم.
وقيل عن ابن عباس: الواو لإخوة يوسف، أى استكتموه وتوعده سرا من مالك بن ذعر إن لم تقر لهم بأنك عبدنا قتلناك: فأقر بأنه عبد بتعريض أن مالكه الله، أو بتقية، أو أخفوا كونه أخاهم حرا فباعوه، وسكت خوفا منهم، والصحيح خلافه، ذلك لقوله: بضاعة إنهم قالوا عبد لنا أتينا به بضاعة نتجر به لأنفسنا، مع أن الضمائر السابقة الجمعية لهم إلا واو أرسلوا، ولا يتوهم أن المسرين هم الذين أرسلوا الوارد، وبضاعة حال أى متاعا للتجارة من البضع بمعنى القطع، وهى جملة من المال قطعت للتجارة.
{ واللّهُ عليمٌ بما يعْمَلُونَ } أى بما يعمل الوارد ومن معه من الإسرار بيوسف بكسر الهمزة، أو بما يعمل إخوة يوسف بيوسف وأبيه، أو بإسرارهم إياه، وجعلهم إياه بضاعة حتى باعوه لمالك بن ذعر بعد ما أخرجه من الجب.
روى أن يهودا أتى إلى الجب على عادته بالطعام فلم يجد فيه يوسف، فنظر فإذا هو بمالك بن ذعر وأصحابه نزولا، ورأى يوسف معهم فأخبر إخوته، فجاءوا فقالوا: هذا عبدنا أبق منا، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتلوه، فقال مالك بن ذعر: أنا أشتريه منكم، فاشتراه كما قال الله سبحانه وتعالى: { وَشَروهُ بِثَمَنٍ... }