التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ
٣٥
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ثمَّ } العطف على محذوف أى قالوا ما قالوا ثم { بَدَا } ظهر { لَهم مِنْ بَعْد ما رأوُا الآياتِ ليسْجننَّه حتَّى حِينٍ } أرادوا أولا أن يقتصروا من أمر يوسف بالإعراض وكتم الحال، ثم ظهر لهم أن يسجنوه، وفاعل بدا ضمير مستتر عائد إلى المصدر المفهوم منه، أى بدا لهم بداء كما صرح به الشاعر فى قوله:

* بدا من تلك القلوص بداء
*

وجملة ليسجننه جواب قسم محذوف، ومجموع القسم وجوابه مفسر لذلك البداء، ولا يمنع من هذا كون القسم إنشاء، لأن المفسر هنا المعنى المتحصل من الجواب الذى هو خبر، وهذا المعنى سجنه عليه الصلاة والسلام، وهذا هو البداء الذى بدا لهم، قاله ابن هشام، وقيل: الفاعل ضمير مستتر عائد إلى السجن المدلول عليه بقوله: { ليسجننه } أى بدا لهم السجن بفتح السين، أو عائد إلى السجن المذكور قبل، أى بدا لهم أمر السجن، أو عائد إلى الرأى المدلول عليه بقوله: { ليسجننه } أى بدا لهم رأى ليسجننه، وقال هشام وثعلب: الفاعل القسم وجوابه، قال ابن هشام: المشهور منع كون الفاعل جملة مطلقا، وأجازهما هشام وثعلب مطلقا، والفراء وجماعة بشرط كون الفعل قلبيا معلقا عن العمل، ونسبوه لسيبويه، والأكثر على المنع مطلقا.
وضمائر الجمع عائدة إلى العزيز وأصحابه، أو للعزيز وأهله، أو لكل ذلك، والآيات: بيعه بأعلى ثمن، وشهادة الصبى فى المهد، وقدّ القميص، وخمش فى وجهه، وقطع النساء أيديهن، واستعصامه عنهن، قيل: وسجود صنم زليخا له، ورد الله جل وعلا مثل ما اشتراه به فى الخزائن، وذلك عادة الآدمى، يرى الآيات ويعرض عنهن
{ وكأين من آية فى السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } }. قال الملك ريان: قد صح عندى أن الذنب لزليخا ولكن أضعه عليه لئلا ينكشف سترها، وأسجنه لكى يعذبها بما وجدت عذابا شديدا من حجابها به عنها.
وقرأ الحسن لتسجننه بتاء الخطاب إما خطابا للعزيز وأصحابه، أو له أو لأهله خاطبهم به ببعض أو له وحده تعظيما، وذلك أن واو الجماعة مقدر فى لتسجننه، وكذا فى قراءة الجمهور حذف لإلتقاء الساكنين.
وقرأ ابن مسعود عتَّى حين بالعين على لغة هذيل وأقرأها رجلا وسمعه عمر يقرأ بها فقال له عمر: من أقرأك؟ قال: ابن مسعود، فكتب إليه إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربيا، وأنزله بلغة قريش فأقرئ الناس بلفظ قريش ولاتقرئهم بلغة هذيل والسلام، والخبر مطلق، وقد يرون فيه رأيهم، وقال عطاء، أرادوا حينا تنقطع مقالة الناس فيه، وقال عكرمة: سبع سنين، وقال الكلبى: خمسين سنة، وقضى الله سبحانه بسبع سنين.
قال الكلبى: بلغنا أنها قالت لزوجها: صدقته وكذبتنى وفضحتنى فى المدينة، فأنا ساعية فى رضاك إن لم تسجنه وتسمع به وتعذرنى، فأمر أن يحمل يوسف على حمار، فضرب الطبل أن هذا يوسف العبرانى، راود سيدته على نفسها، وطيف به فى أسواق مصر كلها، ثم أدخل السجن.
قال أبو صالح: لم أر ابن عباس قط يذكر الحديث على يوسف إلا بكى، وذلك ليحسب الناس أنه المجرم ولإياسها من طاعته، ولطمعها أن يذللـه السجن ويسخره لها، وتبصر ما يكون منه.
وروى أنها قالت: إن هذا الغلام العبرانى قد فضحنى فى الناس، وهو يعتذر إليهم، ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة فإما أن تأذن لى فأخرج أعتذر وأكذبه، وإما أن تحبسه كما حبستنى، وإلا لم أطق أن أعتذر بعد، وقد نكس رأسى عند تطايرى، وشاع خبرى وخبره بمصر.
وروى أنها قالت: لا براءة لى عندهم إلا أن أسجنه، فسجنه، وقد علم ببراءته.
وروى أنه قال لها: لا يسجن إلا الملك ريان بن الوليد، وكان مراده فيما قيل أنه يخرج أمره من يدها، لأنها ربما حنت عليه وأخرجته، فإذن لها فى الخروج إلى ريان، فلبست ثيابها وجعلت تاجها على رأسها، وأقبلت حتى أتت ريان بن الوليد، وكان فى بيته الأعظم، وهو من حديد ونحاس مرصع بالدر والجواهر، وكان إذ أراد أحد الدخول عليه نظر إليه الملك قبل الدخول من كوة، ولما رأى زليخا مقبلة استوى جالسا، وأمر الغلمان بفتح الأبواب ففتحوها لها، وكانت ذات قدر عظيم عنده مطاعة إذا أمرت، لأنها كانت من بنات الملوك، فلما دخلت خرت ساجدة له، فقال لها: ارفعى رأسك فأنت المقربة المرضية، وحاجتك عندى مقضية، فرفعت رأسها إليه، وأخذت بالثناء عليه، لأنه من أدب السؤال.
فقالت: أيها الملك دام لك البقاء، وألبست ثوب النعمة والرخاء، لم تزل لى مكرما، وإلى حوائجى مسرعا، وإن عبدى العبرانى قد استعصى علىَّ، وأحب أن تأذن لى فى حبسه فى سجن المجرمين حتى يتأدب ولو بعد حين.
فقال لها: قد جعلت أمر السجن ومن فيه بيدك، فأطلقى من شئت وأقبلت إلى منزلها وأمرت بإحضار حدادين إليها، فمثلوا بين يديها، فقالت: أريد أن تصنعوا لى قيدا محكما لعبدى العبرانى، فقالوا لها: أيتها الملكة المطاعة فى أمرها، والعظيمة فى قدرها، إنا نرى بدناً ناعماً وساقا رقيقا، ووجها أنيقا، ولا يخفى أنه ربى فى نعمة شاملة، وعافية كاملة، وكيف يقوى هذا على ثقل الحديد، وثقاف التقييد؟
قالت: قيدوه ولا بد، فقال: قيدونى فإنى من أهل بيت البلاء، فقيدوه واحتملوه على الاكتاف إلى السجن، وتسامع الناس به، وأقبلوا من كل مكان، وصعدوا على الجدران، وامتلأت الطرق، ولما كثر نظر الناس إليه نكس رأسه، وألقى يده على صدره، والناس يقولون: عصى سيدته الملكة، وهو يقول: هذا خير من عصيان ربى، ومن مقاسات النيران، وسرابيل القطران، بين حميم آن.
والناس يقولون له: يا يوسف تركت بيت الرخاء والسرور والنعمة والحبور، واخترت السجن، ولو اخترت الموت لكان خيرا لك من هذا، وهو يقول: اخترت ما اختار الله لى إذا كان راضيا عنى فلا أبالى، ولما وصلوا السجن قالوا للسجان: خذ هذا الغلام واحبسه، فإن سيدته غضبت عليه، وأمرت أن يحبس فى سجن المجرمين، فأدخله السجان إلى السجن، وأقعده بين أصحاب الكبائر والجنايات.
ودخل العزيز على زليخا فقال لها: ما فعلت بيوسف؟ فقالت: قيدته وسجنته، وكان مرادها أن تخرجه عن قريب، فقال لها العزيز: أقسمت عليك بحرمة الملك ريان بن الوليد ورأسه، ألا ما أبقيته فى السجن مؤبدا ما دام الملك حيا، فلم يمكنها إلا إبرار القسم، وأدركها الندم فلم تجد عذرا تخرج به عن الذى فعلته، فكانت تصعد إذا جنَّ الليل على قصرها، وتنظر إلى السجن وتبكى وتقول: حبيبى يوسف، ليت شعرى أنائم أنت أم يقظان؟ ليت شعرى أجائع أم شبعان؟ وتبكى الليل وتنتحب حتى ينفجر الصبح وجدا عليه، وشوقا إليه، قد أنحلها الغرام، وخالطها الهيام، وداخلها السقام، وهجرها المنام، ولا تسلوا بشئ إلا تذكره، ولا تسأل إلا عن أمره.
قال وهب: مات جماعة منهن يعنى بالعشق لا بقطع الأيدى كما قد يتوهم، وفى زهر الأكمام: مات من النسوة التى رأيته تسع نسوة شوقا إليه، ووجدا عليه، وروى أن زليخا أرسلت إلا السجان تشكو إليه الأشجان.
وفى عرائس القرآن: جعل الله تعالى ذلك السجن تطهيرا ليوسف من همه بها، وكذا عن السدى.