التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وما أبِّرئ نفسى } من كل سوء على الإطلاق، ولو برئت من هذا يمن الله تعالى علىّ بالعصمة، وهذا منه هضم لنفسه، وتواضع لله عز وجل، وسكن غير نافع، وأبى عمرو الياء، ويجوز أن يكون المعنى لا أبرئ نفسى فى هذه الحادثة لميل نفسه ميلا طبيعيا أنه مؤاخذ عليه لعدم القصد والعزم عليه، ولأنه ضرورى إلى ما أحبت زليخا.
{ إنَّ النَّفْسَ } جنس النفوس، وهذا استئناف للتعليل أو المجرد بيان أمر النفس، كأنه قيل: هل النفس أمارة بالسوء؟ فقال: { إن النفس } { لأمارة بالسوء } بدليل التأكيد، فإنه حسن إذا كان المخاطب طالبا متردد جنس السوء، أكد أمر النفس بالجملة الاسمية وبأن وبلام التأكيد وبصفة المبالغة، وذلك أنها تميل بالطبع إلى الشهوة وتستغرق فيها، وتستعمل القوى والجوارح فيها ما وجت، ولا تقول قطنى.
والتحقيق عندى أن النفس واحدة تميل بالطبع إلى الشهوات، وتميل بالطبع أيضا عما يضرها، ولكنها لا تتمالك عن اللذة بالعاجلة، فإذا تمكنت منها وثبت إليها، فمن ذلك وصفت بأنها أمارة بالسوء، فإن كانت مما يترتب عليه ضرر دنيوى أو أخروى ندمت، فمن هذا توصف بأنها لوَّامة، وإذا غلبها نور العقل وجبرها على الامتثال والاجتناب لم تفعل السوء وسكنت العقل، وخضعت فانها من ثم توصف بأنها مطمئنة كذا ظهر لى.
{ إلاَّ ما رَحم ربِّى } مصدرية، والمصدر نائب عن اسم الزمان، أى إلا رحمة ربى، أى إلا وقت رحمة ربى، وهذا جار على القليل من وقوع التفريغ فى الإثبات نحو: زيد يقرأ إلا يوم السبت، أى يقرى فى كل وقت إلى يوم السبت، والتقدير فى الآية: إن النفس لأمارة بالسوء فى كل وقت إلا وقت رحمة ربِّى، وقد أجاز بعضهم قياس ذلك، وذلك الوقت الذى لا تأمر فيه بالسوء، هو وقت غلبة العقل عليها، والوقت الذى لا تجد فيه سبيلا إلى شر، أو ما مصدرية والاستثناء منقطع، أى ما أبرئ نفسى، لكن رحمة ربى تمنع من السوء.
ويجوز أن يكون ما اسما موصولا بمعنى من والاستثناء أيضا منقطع أى إلا من رحم ربى بالعصمة كما قال ابن عباس، وإنما قلت: منقطع لأن الإنسان مثلا ليس من جنس النفس، أو ما واقعه على أنواع من يعقل، فالاستثناء أيضا منقطع، ويحتمله كلام ابن عباس، وذلك المرحوم كالملائكة، ويجوز كون ما على أصلها لغير العاقل فى اصطلاح لنحو واقعة على النفس، فيكون الاستثناء متصلا، أى إلا النفس التى رحمها ربى بأن يعصهما أصلا عن الأمر بالسوء، كنفس الملائكة، فإن أنفسهم لا تأمرهم بالسوء، وإنما قلت: إن النفس غير عاقلة فى الاصطلاح، لأن العاقل فى الاصطلاح الإنسان يحملنه، والملك والجنى مثلا، فلو عبر عن العقل والنفس لعبر عنها بما لا يمن، والمنصوص عن ورش تحقيق همزة السوء وهمزة إلا، والمشهور عنه فى الأداء أنه يجعل الثانية من همزتين مكسورتين، إحداهما آخر كلمة، وأخرى أول كلمة كالياء الساكنة وكذا يفعل قليل.
وعن على بن خاقان، عن ورش أنه يحمل الثانية ياء مكسورة فى البقرة فى قوله: { هؤلاء إن كنتم } وفى النور على البناء: { إن أردن } وقرأ قالون والبزى بالسوّ بتشديد الواو إبدالا لهمزة السوء واواً وإدغام الواو فى الواو، وتحقيق همزة إلا، وأبو عمرو يسقط الثانية على أصله والباقون يحققون الهمزتين.
{ إنَّ ربِّى غَفورٌ } للذنوب، من استغفره منها واعترف بها كهم النفس غير الضرورى { رَحِيمٌ } بالعصمة لمن يشاء وبالتوبة على من استرحمه مما ارتكب، وروى أنه لما قال ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب قال له جبريل: ولا حين هممت بها، فقال:{ وما أبرئ نفسى } الآية، وقيل: لما قال ذلك قال له الملك الذى معه: اذكر ما هممت به، فقال: { وما أبرئ نفسى } الآية، وقيل: لما قال ذلك قال له جبريل: فما فعلت السراويل؟ فقال: { وما أبرئ نفسى } الآية.
وروى أنه لما قال ذلك قال له الملك الذى تشبه بيعقوب منفرجا عن السقف: حين راودته ولا حين حللت سراويلك؟ فقال: { وما أبرئ نفسى } الآية وأثبت بكل تلك الروايات الشيخ هود، وأنكرهن الزمخشرى، وخطأ من قال بهن قال.
ولقد لفتت المبطلة روايات مصنوعة، فزعموا أن يوسف حين قال:
{ إنى لم أخنه بالغيب } قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت بها، قالت له امرأة العزيز: ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسوله أ هـ.
وما تقدم من كون قوله:
{ ذلك ليعلم أنى لم أخنه } إلى { رحيم } من كلام يوسف هو قول الأكثرين، ولو وقع الفصل بكلامها لظهور المراد كما قيل فى قوله تعالى: { بماذا تأمرون } إنه من كلام فرعون مستشيرا بعد قول الملأ: { إن هذا لساحر عليم يريد } الخ ومثل: { وكذلك يفعلون } فإنه قيل: من كلام الله لأمر كلام بلقيس، ولم يميز بشىء، وقيل: إن قوله: { ذلك ليعلم } إلى { رحيم } من قول المرأة أيضا متصلا بكلامها فيكون المعنى أن ذلك الذى قلت على نفسى من مراودتى له ليعلم يوسف أنى لم أخنه بالكذب حال الغيبة، وجبت بالصحيح من القول حين سئلت، وذلك على أنها سئلت وهو فى السجن بحضرة الملك [فقالت:] وما أبرئ نفسى فإنى قد خنته حين بهتنه وقلت لزوجى: { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم } وحين سجنته وإن النفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها ربى بالعصمة كنفس يوسف، واستنفرت واسترحمت الله مما ارتكب.