التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ
٥٤
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وقَالَ الملِكَ } عطف على محذوف، أى ورجع الساقى مرة ثانية أو ثالثة من السجن على ما مر، وقال الملك: أرسله أولا ليعبر له، ثم ثانيا ليخرج فلم يخرج، ثم ثالثا ليخبره بما قالت النسوة، ثم طلبت الآن أن يؤتى به بلا معاودة { ائتُونى } بيوسف.
من كتب هذا إلى قوله: { المحسنين } وقد عطل عن التصرف والعمل، وصام الخميس والجمعة أول الشهر، وقرأ ذلك ليلة الجمعة عند دخول فراشه للنوم، وكتبه يوم الجمعة بين الظهر والعصر، وإذا أفطر قرأه ثم صلى العشاء، ثم قرأه ودخل الفراش، وقرأه أيضا وهلل مائة تهليلة، وكبر مائة تكبيرة، وحمد الله سبحانه وتعالى مائة حمدة، وسبحه مائة تسبيحة، واستغفر مائة استغفار، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة مرة ثم نام وإذا أصبح نوى ألا يظلم أحدا ولا يتعدى الحق، ثم علق الكتاب خارج داره على نفسه فإنه يتصرف ويعلن من جمعته تلك أو قريب منها، ولم يحسن أو يقرأ الآيات جعلها تحت رأسه وفعل ما مر.
{ أسْتخلِصْه } السين والتاء للمبالغة، أى أبالغ فى اختصاصى به، وفى جعله خالصا لنفسى، ومن عادة الملوك الانفراد بالأشياء النفسية، قال ذلك لما رأى من براءته وأمانته وعلمه، وتعبير رؤياه كما روى الخباز والساقى، وصبره وإحسانه إلى أهل السجن، وأدبه وثباته فى المحن، فذهب الساقى وغيره ليأتوا بيوسف.
روى أنه أرسل إليه عجلته التى كان يركبها، وهى من ذهب وشدت، فى أعناق الفيلة بسلاسل الذهب، وأحاطت الفرسان بها، واصطفت الرجال خلف الفرسان، وضربوا له سماطا من باب السجن إلى باب الملك، وأمر أن تزين مصر بأنواع الزينة، وأن ترخى الستور على الحيطان، وأرسل حوارى مكشوفات الوجوه بالمجامير فى أيديهن، وعليهن أنواع الحرير والديباج، وأرسل العسكر كله لاستقبال يوسف عليه السلام، قيل: كان بين السجن ومصر أربعة فراسخ، وبعث إليه خلعة عظيمة وقال: لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد، فأمر الملك بإطلاق جميع ما فيه فقال: بسم الله الرحمن الرحيم ثم ركب.
وروى أنه لما أراد الخروج دعا لأهل السجون: اللهم عطِّف عليهم قلوب الأخيار ولا تُعمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخيار فى كل بلد، ولما خرج كتب بباب السجن: هذا بيت البلوى، وقبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء. وإنما خرج بعد ما غسل نفسه من درن السجن، ولبس الثياب الضيقة الجديدة، ولما وقف على باب الملك قال: حسبى ربى من دنياى وحسبى ربى من خلقه، عز جاره، وجل ثناؤه، ولا إله غيره، ولما أبصر الملك قال: اللهم إنى أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بك من شره وشر غيره، قاله وهب بن منبه، ولما نظر إليه الملك سلم عليه يوسف بالعبرية، ودعا له بها، فقال له: ما هذا اللسان؟ أى ما هذه اللغة؟ فقال: لسان آبائى وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، وكلما كلمه بلسان أجابه يوسف به، وزاد عليه بالعربية والعبرية، وكان الملك لا يعرفهما، وأعجب الملك ما رأى منه مع حداثة سنه، كان ابن ثلاثين سنة.
ولما نظر إليه الملك ألقيت الهيبة عليه، فتزحزح عن مكانه تعظيما له، ولم يتزحزح لأحد قط، فأقعده معه على سريره، وقال له: إنى أريد أن أسمع تأويل رؤياى منك مشافهة، فقصها عليه على حد ما مر، فتعجب وقال: من أخبرك بها، قال: أمين يأتينى من ربى يقال له جبريل، وقيل: ذكر ذلك لى وللملك أن الملك رأى أن الريح هبت فذرت أوراق السنبلات اليابسات على الخضر، فاشتعلت فيهن النار فاحترقن فصرن سوداً.
{ فَلمَّا كلَّمه } الملك بعد دخوله عليه ورأى منه ما رأى من تبين الرؤيا وغيره، أو لما كلم يوسف الملك فى أمر الرؤيا { قال إنَّكَ اليوْمَ لدَيْنا } عندنا وهما متعلقان بقوله: { مَكينٌ } أى ذو مكانة ومنزلة، وجاء لا يرد أمرك { أمينٌ } مؤتمن على كل شئ، لا تطرقك تهمة، قال له الملك: فما ترى فى أمر الزراعة؟ قال: تجتهد فى الحرث، ويرفع الناس من طعامهم الخمس فقط، ويكفى الباقى لأهل مصر ومن حولها ممن يصبك ليمتاروا، لقحط يعم الأرض كلها، وإذا فعلت ذلك لم يوجد الطعام إلا عندك، ويجتمع لك من الأموال مالم يجتمع لغيرك، فقال: يا يوسف، وكيف هذا؟ ومن القائم عليه، ومن يديره ويجمعه؟ ويحصيه ويبيعه؟ ولو جمعت أهل مصر كلهم ما أطاقوه ولا بلغوا منه ما تقول؟ قال: فوض إلىّ ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قضى ذلك على يدى، فإنى كافيك ذلك كما قال الله جل وعلا { قالَ اجْعَلنى... }.