التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٦
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وكذلِكَ } أى كما اجتباك ربك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرفك وعزك { يجْتَبيكَ } يختارك { ربُّكَ } للنبوة أو الملك، أو الأمور العظام، أو يجتبيك ربك لما ذكر على طبق ما تضمنته الرؤيا من الإشارة والاحتباء فى الأصل، من جبيت الشئ إذا حصلته لنفسك، ولا مانع من بقائه فى الآية على هذا المعنى.
ويجوز أن يكون بمعنى تخصيص الله لعبده بفيض إلهى، تحصل منه أنواع المكرمات بلا سعى منه، وذلك مختص بالأنبياء، وبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
{ ويُعلِّمكَ } مستأنف غير باق فى حين التشبيه، كأنه قيل: وهو يعلمك كذا، قالوا قلت: يجوز كونه فى حيرة فيعطف على يجتبيك، فيكون المعنى يجتبيك للأمور العظام، أو للنبوة والملك وللتعليم لك، كما اجتباك لمثل هذه الرؤيا، أو كما اجتباك لهذه الرؤيا يجتبيك لما ذكر، ولتعليم تأويل الرؤى جمع رأى كهدى.
{ مِنْ تأويلِ } تعبير أى شيئا من تأويل، أو من اسم بمعنى بعض على ما قيل، أو أغنى الجار والمجرور عن تقدير مفعول (الأحَادِيثِ) أى الرؤى، وكان أعلم الناس بتأويلها ذكر ذلك مجاهد وغيره، وقال الحسن: هى عواقب الأمور، وقيل: تعم ذلك وغيره من المغيبات، وقال الزجاج: معانى كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من مقاصدها، وعليه فإنما سميت أحاديث لأنه يحدث بها عن الله ورسوله.
وعن ابن عباس: يعلمك العلم والحكمة، وهو اسم جمع الحديث، وقيل: جمع أحدوثة، فانظر المرادى وحاشيتى عليه، والصحيح أن بالأحاديث الرؤى، وسمى تفسيرها تأويلا لأن الأمر يكون يئول إلى ما رأى النائم، والرؤيا إما حديث نفس أو ملك أو شيطان.
قال على بن أبى طالب: ما بال الإنسان يرى الشئ فى النوم فيكون، ويريد الشئ فلا يكون؟ فقال القوم: ما سمعنا فى ذلك شيئا، فقال عمر: أنا أخبركم، إن الإنسان إذا نام عرج روحه إلى السماء، فما رأى قبل أن تصل السماء فذلكم حلم يعنى من الشيطان، وكذا ما يرى بعد رجوعها وخروجها من السماء، وما يرى فى السماء فذلك الذى يكون.
وعنه صلى الله عليه وسلم:
"أصدقكم رؤياه أصدقكم حديثا" . وعن أبى قتادة: "كنت أرى الرؤيا يمرضنى حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا الصالحة من الله، والرؤيا السيئة من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتفل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويسترها فإنها لا تضره"
وعن أبى سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله تعالى فليحمد الله وليحدث، وإذا رأى غير ذلك مام يكرهه فإنما هى من الشيطان فليستعذ بالله من الشيطان ومن نشرها ولا ذكرها لأحد، فإنها لن تفيده شيئا" وذلك لأن الرؤيا الصالحة إنما هى من الله والرؤيا غير الصالحة إنما هى من الشيطان ومنها الضرر، وأن يوسف عليه السلام أراه الله الرؤية الحسنة لأنه ابن الكريم يعقوب ولأنه يورثه زيادة المحبة والشفقة لصغره، ولما يرى فيه من المخايل، وضاعفت محبته لما رأى الرؤيا فكان يضمه كل ساعة إلى صدره، ولا يصبر عنه، فاشتد حسدهم، ولما قص رؤياه على يعقوب قال: هذا أمر مشتت، يجمع الله لك بعد دهر طويل، وقيل: يتم النعمة عليه بأن وصل له نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، وقيل: بالنبوة والملك وغيرهما.
{ ويتم نعمته عليك وعَلى آلِ يعْقُوبَ } أهله وعبر بالآل تشريفا لأنه لا يقال إلا لمن له شأن وخطر، والأهل يقال مطلقا ولى فيهما فى النحو مباحث، وأراد بالآل إخوة يوسف، وإتمام النعمة عليهم بالنبوة، أو بها وبكونهم ملوكا، فإن عظم أجسامهم وقوتها، وجمالهم وشجاعتهم ملك، حيث لا يغلبهم أحد عما أرادوا، بأن يصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، والأصل وعلى آلى، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة الإيضاح، ويجوز أن يريد بآل يعقوب نسله الوالد ووالد الولد، وهكذا إلا خصوص إخوة يوسف، لكن قيل لم يترك يوسف ولد لدعوة أبيه بذلك، وقيل: ترك اثنى عشر.
{ كَما أتمهَّا عَلى أبوْكَ }: جدك وهو إسحاق، وأبى جدك وهو إبراهيم، والجد وما فوقه آباء، ولذلك تراهم يقولون: ابن فلان، ولو كان بينهما عدة آباء { مِنْ قَبلُ } من قبلك أو من قبل هذا الوقت.
{ إبْراهِيمَ } بالخلة والإنجاء من النار، وتسليم ولده من الذبح بالفداء بكبش عظيم، وهو إسماعيل على الصحيح الأشهر، وقيل: إسحاق ونسبه بعض للأكثر.
{ وإسْحاقَ } بالنبوة وإخراج يعقوب والأسباط وهذا ايضا من الإنعام على إبراهيم وبانجائه من الذبح على أحد القولين، أو أتمها عليهما بوصل نعم الدنيا بنعم الآخرة وبالملك، فإنهما فى شهرتهما ونفاذ حكمهما وقبولهما ورغبتهما الراسخة فى القلوب كالملوك، وإبراهيم عطف بيان لأبويك، وكذا إسحاق بواسطة العطف.
{ إنَّ ربَّكَ عَليمٌ } بمن يستحق الاجتباء أو بمصالح خلقه أو بخلقه { حَكيمٌ } يفعل الأشياء على ما ينبغى فلا يتم نعمته إلا على من يستحقها، أو حكيم فى وضع النبوة فى بيت إبراهيم عليه السلام.