التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ
٧٠
-يوسف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فلمَّا جهَّزهم بجِهازهم جَعَل } أسند التجهيز والفعل إليه، لأنه الآمر بهما، وإلا فالفاعل لهما الغلمان والخدمة { السِّقايةَ فى رَحْل أخيه } وكانت مشربة يشرب بها من ذهب مكلل بالجواهر. انتهى كلام عرائس القرآن.
وروى أنه أمر الغلمان أن يكيلوا لهم، ويكيلوا للصغير آخرا، وأن يجعلوا الصواع فى رحله وهو لا يعلم، ولم يكن شئ أحب إلى يوسف منه، ولا أكثر قيمة، وكان يشرب بها فهو السقاية يكيل بها الطعام لشرفه وغلاه، قيل: إنها من ياقوت أحمر، فقيمتها مائتا ألف دينار، وصححه بعضهم، وعن الحسن أنها من فضة، وكذا قال ابن إسحاق، وجمهور الناس، وقيل: من البلور، وقيل: من الزمرد الأخضر، وقال عكرمة: من فضة مرصَّعة بالجواهر، ولم يزد ابن عباس فى جمهور المفسرين على أنها صاع، وقيل عنه: إنها من زبرجد، وقيل: من فضة مموهة بالذهب، وقيل: كانت مشربة للملك ثم جعلت مكيلا للطعام، وقيل كانت الدواب تسقى بها ويكال بها، وقيل كان إناء مستطيلا شبه الملوك، وقيل: هى الملوك الفارس الذى يلتقى طرفاه، تشرب به الأعاجم.
وعلى كل حال قد جعل الله عز وجل فيه معجزة، وهى أن يعلمه إذا نقره بالصادق من الكاذب، وجعلوا الغلمان وسط رحل بنيامين، وشد رءوس الأوعية وسلموها لهم، وهكذا يفعلون مع غيرهم، يكيلون ويشدون رءوس الأوعية ثم يسلمونها لأهلها فخرجوا، ولما وصلوا مرحلة أرسل إليهم خمسمائة فارس، وذلك على يوم وليلة، وبلغوا قرية يقال لها بسر، وقيل أمهلهم حتى خرجوا من العمارة، وقيل حتى انفصلوا من مجلس يوسف، فأرسل إليهم من استوقفهم وحبسهم.
{ ثمَّ أذَّن مُؤذِّنُ } نادى منادٍ والعطف على قوله: { جعل } ومن قرأ وجعل بالواو قدر للما جوابا وعطف عليه، وهى قراءة ابن مسعود، أى أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن، والأذان لغة: الإعلام والتشديد للمبالغة، وفى ندائهم إعلام، أو يفسر التأذين فى الآية بالإعلام.
{ أيَّتها العِيرُ } يعنى يا أصحاب العير، ولما حذف المضاف نودى المضاف إليه بواسطة أيتها لاقترانه بأل، والعير اسم للقافلة التى فيها الأحمال من الإبل، سميت بها لأنها تعبر أى تجئ وتذهب، وقال مجاهد: العير الحمير، وقال أبو الهيثم: كل ما سير عليه من الإبل والبغال والحمير عير، وأن القول بأنها الإبل خاصة باطن ا هـ.
وقيل: هو جمع عير بفتح العين وإسكان الياء، وأصل الجمع عير بضم أوله وإسكان ثانيه، كسَقْفٍ وسقف، قلبت الضمة كسرة لئلا تقلب الياء واوا، والعير بالفتح الحمير المقفل بها، وكثر حتى قيل: لكل قافلة عير، وعلى كل حال يقدر المضاف كما علمت، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم:
"يا خيل الله اركبى" الأصل يا أصحاب خيل الله اركبوا، ولما حذف المضاف أنث الضمير لعوده على المؤنث، كما أنث أيها الآية. والأصيل يا أصحاب العير قفوا تفتشوا.
{ إنَّكم لسارقُونَ } إن كان يوسف لم يظهر للمؤذن ومن معه، إلا أن السقاية غير موجودة فلا إشكال، لأنهم قالوا ذلك على العادة فى التهمة، ولم يكن هناك سوى القوم، وإن كان النداء عليهم بالسرقة بأمر يوسف، فالمراد أن فيكم سارقا وهو بنيامين، فأسند السرقة إليهم، حكم على المجموع لا على الجميع، وهذا فى علم يوسف، وأما المنادى ومن معه فيحتمل عندهم اتفاق الإخوة على السرقة، واختصاص واحد بها، وكذا فى الوجه الأول، وجاز ليوسف وصف بنيامين بالسرقة وهو برئ، لأن بنيامين قد رضى بذلك، وقال: افعل مابدا لك كما مر، واجاز الله له ذلك.
وإلا فما هو فى الظاهر بهتان لا يسوغ الوصف به، ولو رضى الموصوف والظلم لا تبيحه إباحة المظلوم والمعصية لا يبيحها رضا الموقعة فى حقه، فلو قال لك إنسان: اقطع عضوى لغير ضرورة لم يجز لك قطعه، ويحتمل أن يريد إنه بصورة السارق، إذ مضى بالسقاية خفية عن نحو إخوته وجل أهل بيته من سائر الخدمة غير من جعلها فى رحله. أو أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه، أى متلفونه عن أبيه بعد تحيل ومكر فى إرساله إياه معهم، فذلك معرضة، وفيها مندوحة عن الكذب، أو قيل ذلك على الاستفهام، وهذه الأوجه عندى أيضا غير سائغة بأنفسها، بل بإجازة الله سبحانه له ذلك، لأنها فى الظاهر غير سائغة لإيقاعها السامع فى التهمة، بل يقطع إذا أخرجت من رحله بأنه سارق والمعرضة لما تباح، حيث لا أضرار فيها بأحد.
ولما انتهى إليهم الرسل بعد النداء عليهم بالسرقة قالوا: ألم نحسن إليكم؟ ألم نكرم ضيافتكم؟ ألم نوف كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل لغيركم؟ قالوا: بلى وما ذاك؟ قالوا: سقاية الملك فقدناها، وما اتهمنا عليها غيركم، كما قال الله جل وعلا { قَالُوا وأقْبلُوا عليْهم... }.