التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
٩٠
وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
٩١
-النحل

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } الإِتيان بالقدر الواجب من الطاعات فإِن نقص منه كان النقص جورا وهو ضد العدل والجور الميل عن الحق { وَالإِحْسَانِ } التأَنق فى الواجب والاجتهاد فى تصفيته والنفل هذا ما ظهر لى فى العدل والإِحسان. وقال ابن عيينة العدل استواء السر والعلانية والإِحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته وقيل العدل الإِنصاف والمساواة فى الأَقوال والأَفعال والإِحسان أن تعفو عمن ظلمك وتحسن إِلى من أساء إِليك والمنكر أن تسىء إِلى من أحسن إِليك وقيل العدل التوسط فى الأُمور اعتقادا وعملا وخلقا فالاعتقاد كالتوحيد فإِنه متوسط بين جحود الله وإِشراك غيره به تعالى، وكقولنا بأَن المخلوق كاسب لأَفعاله والله مقدر وخالق لها فإِنه متوسط بين القول بأَن المخلوق مجبر على فعله والقول بأَنه خالق له والعمل كالتعبد بآداء الواجبات وهو متوسط بين البطالة والترهب وهو خروجك عن المباحات كلها إِلا القدر الذى لابد منه خوفا من الله جل جلاله وهذا لا يحسن لهذه الأُمة بل لا يجوز لأَن منها ترك التزوج اللهم إِلا إِن جاز لمن قدر عليه فى مثل هذا الزمان والخلق كالجحود فإِنه متوسط بين البخل والإِسراف وأما الإِحسان فاحسان الطاعات بالعدد كإِكثار أعدادها كإِكثار النفل وكالتقليل منه والتوسط فإِنهما زيادة على الفرض فكانا إِحسانا من حيث أنهما مزيدان على الواجب وإِحسان للطاعة بحسب الإِتيان بها على الوجه الأَكمل كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "اعبد الله كأَنك تراه فإِن لم تكن تراه فإِنه يراك" والآية دليل على أن النفل مأمور به لكن أمر ندب والمراد مطلق الأَمر فى الآية لا يقيد وجوبه ولا يقيد عدمه فلا يلزم استعمال الكلمة فى معنييها أو حقيقتها ومجازها وهو لفظ يأمر وإِنما علق الأَمر بالفرض والنفل معا المعبر عنهما بالعدل والإِحسان لأَن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب ولذلك قال الربيع عن أبى عبيدة عن جابر بن زيد بلغنى عن طلحة ابن عبيد الله "جاء رجل إِلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى إِذا دنا فإِذا هو يسأل عن الإِسلام فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمس صلوات فى اليوم والليلة قال هل غيرهن؟ قال: لا إِلا أن تطوع فقال رسول الله ـ صلى الله عيه وسلم ـ وصيام شهر رمضان ثم قال هل على غيره؟ قال: لا إِلا أن تطوع ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والزكاة قال: هل على غيرها؟ قال: لا إلآ أن تطوع. فأَدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفلح الرجل إِن صدق" . فقيد الفلاح بشرط الصدق والسلامة من التفريط وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "استقيموا ولن تحصوا" أى لن تطيقوا حق الفرض فما ينبغى أن يترك ما يجبر كسر التفريط من النوافل. وعن ابن عباس رضى الله عنهما العدل التوحيد والإِحسان أداء الفرائض وعنه الإِحسان أن تعبد الله كأَنك تراه وأن تحب للناس ما تحب لنفسك إِن كان مؤمنا تحب أن يزداد إِيماناً وإِن كان كافراً تحب أن يكون أخاك فى الإِسلام وعنه الإِحسان الإِخلاص وقيل العدل الإِنصاف والإِنصاف أعظم من الاعتراف للمنعم بإِنعامه والإِحسان أن تحسن إِلى من أساء إِليك، وقيل العدل فى الفعل والإِحسان فى القول فلا تفعل إِلا ما هو عدل ولا تقل إِلا ما هو حسن { وَإِيتاءِ ذِى الْقُرْبَى } أى وإِعطاء ذى القربى حقه وما يحتاج إِليه والمرد صلة الرحم القريبة والبعيدة تصلها بمالك وإِن لم يكن فدعاء حسن وتودد بالقول والإِعانة قال الحسن حق الرحم أن لا تحرمها ولا تهجر. وذكر بعض أنه كان يقال إِن لم يكن لك ما تعطيه فامش إِليه برجلك وعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "أن الرحم معلق بالعرش وليس الواصل بالمكافىء ولكن من إِذا انقطعت رحمه وصلها" . والقربى مصدر يعنى القرابة وألفه للتأنيث وعطف إِيتاء ذى القربى على ما قبله عطف خاص على عام لتَأكيد ذلك الخاص، وحذف المفعول الثانى لإِيتاء للتعميم، أى إِيتاء ذى القربى حقه أو ما يحتاج إِليه كما مر، وهذا على تضمين الإِيتاء معنى الأَخطاء وإِما على إِبقائه على معناه من أنه جعل الشىء إِيتاء كذا وبالغا إِياه فالمحذوف المقدر هو المفعول الأَول، وعل كل حال فالمفعول الآخر بفتح الحاء هو ذى أُضيف إِليه المصدر { وَيَنْهَى عَن الْفَحْشَاءِ } المبالغة فى اتباع الشهوة وذلك فعل المعصية التى هى أكبر كبار الذنوب كالزنى وقتل الإِنسان المحرم القتل والبهتان وأما المبالغة فى الشهوة المباحة فلا تسمى فحشاء وكذا فعل المعاصى الصغار والكبار التى ليست بأكبر لا يسمى فحشاء إِلا إِن أكثر منها، ولو كان كل ذلك محرما معاقبا عليه والمبالغة فى الشهوة إِذا كانت حراما هى أقبح أحوال الإِنسان وأشنعها وقيل الفحشاء كل ما قبح من قول وفعل. وقال ابن عباس الزنى { وَالْمُنكَرِ } ما لا يعرف فى الشريعة ولا فى السنة فالعقول السليمة يكون عندها غير مألوف وتنفر منه. وعن ابن عباس هو الشرك وقيل الكذب وقيل ما ينكر على متعاطيه فى إِثارة القوة الغضبية وما ذكرته أولى فعطفه عطف عام على خاص على ما ذكرته وهو شامل للصغيرة فإِنها منكر { وَالْبَغْىِ } الاستعلاء على الناس والتجبر عليهم وهى الشيطنة التى هى مقتضى القوة الوهمية فإِن المخلوق ضعيف ولا سيما الإِنسان، والقوة التى يعتقدها التوهم فقد يقع منها بعض وقد لا يقع قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "ما من ذنب أجدر أن يحمل لصاحبه العقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الآخرة من البغى وقطيعة الرحم" ، رواه الشيخ هود وأحمد والبخارى فى الأَدب، وأبو داود والترمذى وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن أبى بكرة زاد الطبرانى عنه فى كبيره والكذب وإِن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم حتى أن أهل البيت ليكونون فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إِذا تواصلوا. وعن مجاهد عن ابن عباس لو أن جبلا بغى على جبل لدك الباغى منهما، وروى ابن لآل عن أبى هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "لو بغى جبل على جبل لدك الباغى منهما والبغى يكون فى البدن والمال والعرض" ، وعطفه عطف خاص على عام لزيادة التغير عنه ولا يوجد شر من الإِنسان إِلا تولد من أحد الثلاثة؛ الفحشاء والمنكر والبغى، ولذلك قال ابن مسعود: هذه الآية أجمع آية فى القرآن للخير والشر وقيل البغى الشرك والظلم. قال ابن عيينة الفحشاء والمنكر والبغى أن تكون علانيته أحسن من سريرته { يَعِظُكُمْ } يأْمركم وينهاكم ويميز لكم بين الخير والشر { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } تتعظون وكانت هذه الآية أن الله يَأْمر بالعدل الخ، سبب إِسلام عثمان بن مظعون حين سمعها رضى الله عنه، وروى أنه لما آمن قالها على أبى طالب فعجب أبو طالب وقال: يا آل غالب يعنى قريشاً ابتعوه تفلحوا فوالله أن الله أرسله ليأْمر بمكارم الأَخلاق، وروى عكرمة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالها على الوليد بن المغيرة فقال له: يا ابن أخى أعد على فأعادها. فقال له الوليد: والله إِن له حلاوة وإِن عليه لطلاوة وإِن أعلاه بمثمر وإِن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. قال القاضى ما معناه إِنه ما من شىء يحتاج الناس إِليه فى أمر دينهم مما يجب أن يؤتى أو يترك إِلا وقد اشتملت عليه هذه الآية ولذلك أوردت عقب قوله تعالى: { { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شىء } لو لم يكن فى القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شىء وهدى ورحمة للعالمين وكان على بن أبى طالب يلعن على المنابر ولما انقضت دولة لاعنيه وزالت أقيمت هذه الآية على المنابر مقام اللعنة. { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ } ما جعله الإِنسان على نفسه من طاعة أو أمر مباح عقده على نفسه لأَحد قصد به التقرب فيدخل فى الطاعة أو لم يقصد الطاعة وكل من الطاعة والمباح ينسبان لله عز وجل إِذ لم يمنعهما بخلاف ولذا أضافهما الله بخلاف المعصية والمباح المقصود به ما لا يجوز فلا يجوز الإِبقاء بهما، وقيل عهد الله مبايعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الإِسلام لقوله سبحانه وتعالى: { { إِن الذين يبايعونك إِنما يبايعون الله } ويدخل به كل مبايعة للإِمام العدل والقائم بأَمر الإسلام على الأَمر الدينى وقيل العهد الإِيمان بالله تعالى الذى عاهدوا الله عليه إِذ كانوا ذرا وقيل النذر وقيل اليمين وإِن كفارته كفارة يمين وقيل مغلظة وإِنما يجب الوفاء به إِذا كان صلاحاً أما إِذا كان فساداً دينياً أو دنيوياً فيجب عليه تركه ولا تلزمه الكفارة وقيل تلزمه وإِن لم يكن كذلك، لكنه ظهر له ما هو خير منه فليتركه ويفعل ما هو خير منه ويكفر يمينه وعلى هذا يكون تخصيص العهد بذلك من تخصيص الكتاب بالكتاب لأَنه قد نهى فى جل القرآن على المعاصى فلا يتوهم أحد أنه يجوز أو يجب الوفاء بعهد المعصية وأما إِذا ظهر ما هو خير منه فتخصيص بالسنة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليأْت الذى هو خير وليكفر عن يمينه، رواه أحمد ومسلم والترمذى عن أبى هريرة ومثله عنه للربيع عن أبى عبيدة عن جابر بن زيد وقيل أيضاً فى اليمين على المعصية أنه مخصوص من إِطلاق الوفى فى الآية بالسنة، وقد يقال إِن التخصيص فى الآية نفسها لإِخافة العهد لله وعهد المعصية لا يضاف إِليه تعالى اللهم إِلا أن يقال إِنه يضاف إِليه من حيث أنه يحلف به الحالف وأوفيها، وقيل العهد حلف الجاهلية قال: صلى الله عليه وسلم ـ "كل حلف فى الجاهلية لم يزده الإِسلام إِلا شدة" ، وقيل كل ما وجب على الإِنسان من الفرائض ويرده قوله تعالى: { إِذَا عَاهَدتُّمْ } لأَن ما وجب عليه لا يشترط فيه معاهدته بل لزمه فعله عاهد أو لم يعاهد لكنه يصح أن يقال إِذا دخلتم فى الدين فدوموا فيه ولا تخرجوا منه ولا من جزء آياته فيصح معنى الآية ولو فسر بذلك القول: { وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ } جمع يمين وهو الحلف، { بَعْد تَوْكِيدِهَا } أى توثيقها بالله وتشديدها والمراد مطلق اليمين أو يمين البيعة ونقضها تركها والحنث فيها وهذا يشير إِلى أن العهد غير اليمين وإِلا كان هذا تأْكيداً لذاك وتأْسيس أولى من التأْكيد ووكد وأكد نعتان، الأَصل الواو والهمزة بدل منها. { وَقَدْ جَعَلتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا } مشاهداً على يمينكم وعهدكم فإِن الكفيل مراع الحال المكفول به رقيب عليه ومعنى جعلهم إِياه كفيلا حلفهم به ومعاهدتهم به والجملة حال من واو أوفوا أو واو وتنقضوا وقيل جعلتم الله كفيلا لكم بالجنة إِن تمسكتم بعهده الذى هو دينه وباليمين عليه، { إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } فى نقض اليمين والعهد وفى غيره وذلك تهديد لهم.