التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلْسُّوۤءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٩٤
وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٩٥
مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٦
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٩٧
-النحل

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } كرر النهى عن اتخاذ الإِيمان تأْكيدا عليهم ومبالغة فى تقبيح ذلك وتعظيم أمره ولكن بين النهيين مخالفة فالأَول بالتضمين والعرض لأَنه ذكر اتخاذ الإِيمان دخلا فى الكلام الأَول بعبارة تجعل حالا مما تسلط عليه النهى كما مر والثانى بالتصريح والذات لإِدخال ذات النهى على مادة الاتخاذ وذلك من باب الترقى فمن لم ينتبه بالأَول تنبه بالثانى ومن تنبه به ازداد بالثانى ورسخ فيه وقيل الأَول فى نقض مطلق العهد والإِيمان والثانى فى نقض بيعة الإِسلام بعد الدخول فيه والسياق اللاحق أنسب به وهو زلل القدم بعد الثبوت وذوق السواء بالصد عن سبيل الله عز وجل وثبوت العذاب العظيم كما قال. { فَتَزِلَّ } تزلق { قَدَمٌ } عن طريقة الإِسلام الواضحة والمراد فتزل أقدامكم بالجمع والتعريف بالإِضافة ولكن أفرد ونكر للدلالة على أن زلل قدم واحدة عظيم فكيف بزلق قدمى الإِنسان معاً أو على أن من زلقت له قدم واحدة لا ينتفع بالأُخرى فى نفس ذلك الزلق فكيف يزلق قدمين أو على أن هلاك الإِنسان واحد أمر عظيم فكيف بجمع عظيم. { بَعْدَ ثُبُوتهَا } على طريقة الإِسلام الواضحة شبه الخروج إِلى النفاق والشرك عن الإِسلام بزلق القدم فى نحو الأَرض المبتلة التى تزلق الأَقدام والعرب تقول لمن وقع فى بلاء بعد عافية زلت قدمه { وَتَذُوقُوا السُّوءَ } وقرىء بفتح السين وإِسكان الواو حياً أى العذاب فى الدنيا بالقتل والسلب والغنيمة، { بِمَا صَدَدتُّمْ } ما مصدرية أى بصدكم أى بإِعراضكم وبمنعكم غيركم { عَن سَبِيلِ اللهِ } الذى هو الإِسلام أو الوفاء بالعهد والإِيمان ومن نقض عهد الإِسلام فقد جعل النقض سنة لغيره { وَلَكُمْ } فى الآخرة، { عَذَابٌ عَظِيمٌ } على زلل القدم زين الشيطان نعوذ بالله منه لقوم أسلموا بمكة أن ينقضوا عهد الإِسلام لجزعهم من غلبة قريش واستضعاف المسلمين وإِيذائهم ولما يعدهم قريش على النقض ويوعدونهم على الوفاء فثبتهم الله عز وجل بذلك والله أعلم. قدم وفد كنده وحضرموت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبايعوه على الإِسلام وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة ولم يهاجروا فيما قيل ولعله قبل نزول فرض الهجرة لما ظهر أن المراد لم يهاجروا من بلادهم ثم "إِن رجلا من حضرموت قام فتعلق برجل من كندة يقال له امرؤ القيس. فقال يا رسول الله: إِن هذا جاورنى فى أرضى فقطع طائفة منها فأدخلها فى أرضه. فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هل لك بينة على ما تزعم. فقال له: القوم كلهم يعلمون أنى صادق وأنه كاذب ولكنه أكرم عندهم عنى. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا امرؤ القيس ما يقول هذا. قال: ما يقول إلا الباطل. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقم فاحلف بالله الذى لا إِله إِلا هو، ما له قبلك شىء مما يقال وإِنه لكاذب فيما يقول. قال: نعم. قال الحضرمى: يا رسول الله إِنه رجل فاجر لا يبالى بما حلف عليه. فقال: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِنه من قطع مال رجل مسلم بيمين كاذبة أتى الله وهو عليه ساخط، فقام امرؤ القيس يحلف فنزل قوله تعالى:
{ وَلاَ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ }"
أى بالحلف بالله جل جلاله، { ثَمَناً } عرضاً محرما من الدنيا وسماه ثمناً لأَنه يكون فى الجملة ثمناً وأشار به إِلى الأَرض التى اقتطعها امرؤ القيس إِشارة وشمل غيرها وفى الآية دلالة على أن كل ثمن يصح تسميته مثمناً من حيث أنه أطلق فى الآية الشراء عليه. { قَلِيلاً } أشار إِلى أن الدنيا كلها قيل فأَيا ما اشترى أحد منها بالعهد فقد اشترى قليلا ولو عظم فى العيون القلوب، { إِنَّمَا عِندَ اللهِ } من الخير فى الآخرة لمن اتقى الله وفى الدنيا { هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } مما تتوصلون إِليه باليمين أو غيرها وهو حرام، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } تميزون المصالح من المضار وفضل ما بين العوضين.
{ مَا عِندَكُمْ } من أموال الدنيا. { يَنفَدُ } ينقضى، { وَمَا عِنْدَ اللهِ } فى الآخرة، { بَاقٍ } لا ينقضى أو ما عنده فى الدنيا باق بمعنى أن خزائنه لا تنفد والجملتان تعليل للحكم السابق، { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا } على طاعة الله والمصائب من ضيق العيش وغيره وعن المعاصى وقرأ أبو كثير وعاصم بالنون وكذا روى النقاش عن الأَخفش عن ابن ذكوان قال أبو عمرو الدانى هو وهم لأَن الأَخفش ذكر ذلك عنه فى كتابه بالياء { أَجْرَهُم } مفعول ثان على تقدير الباء أو تضمين يجزى معنى يوفى أو يعطى { بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أى بحسنه ويعفو عن قبيحه أو يجزيه بأَحسنه الذى يكون جزاؤه أعظم شىء فكيف لا يجازيه بحسنه الذى هو دون ذلك فى الجزاء أو يجازيه على حسناته كلها بجزاء أحسنها قيل أو بجزاء أحسن من أعمالهم فقام الأَشعث بن قيس فأَخذ بمنكب امرىء القيس فقال ويلك يا امرؤ القيس إِنه قد نزلت آيتان فيك وفى صاحبك خيرهما له والأُخرى لك وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
"من قطع مال رجل مسلم بيمين كاذبة لقى الله وهو عليه ساخط" ، فأَقبل امرؤ القيس فقال: يا رسول الله ما أنزل فى؟ فتلا عليه الآيتين، فقال امرؤ القيس: أما ما عندى فينفد، وأما صاحبى فيجازى بأَحسن ما كان يعمل، اللهم إِنه لصادق فإِنى أشهد الله أنه صادق ولكنى والله ما أدرى ما بلغ ما يدعى من أرضه فى أرضى قد أصبتها منذ زمان فله ما أدعى فى أرضى ومثله معه فنزل قوله تعالى:
{ منْ عَمِلَ صَالِحاً } يتناول الذكر والأُنثى وإِنما ذكرها بقوله: { مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } دفعاً لتخصيص الذكر لأَنه المطابق للفظ ومبالغة فى تقرير الوعد وتعميمه، { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مخرج للكافر فإِنه لا يثاب على عمله الصالح فى الآخرة بل فى الدنيا فقط ويخفف عنه العذاب به فى الآخرة بعض تخفيف فيما قيل فدركات الكفار مختلفة كما روى قومنا من تخفيف عذاب أى طلب بالنسبة إِلى غيره أنه فى النار إِلى كعبه أو أن نعليه من ناراً أو أن تحت رجليه جمرتين. وروى أن أبا لهب أثيب بأَن يسقى فى النار بنقرة الأَيهم لعتقه أمة لما بشر بولادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولعل مثل هذه الإِثابة للمشرك مختصة به ـ صلى الله عليه وسلم ـ { فَلَنُحْيِيَنَّهُ } الفاء رابطة لجواب الشرط ولنحيينه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه جواب الشرط أى فو الله لنحيينه { حَيَٰوةً طَيِّبَةً } فى الدنيا بالقناعة وذهاب ضيق الصدر وبالرزق الحلال كثيراً وقل { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } فى الآخرة عطف على لنحيينه واختار أبو حبان أنه جواب قسم مقدر والقسم المقدر معطوفان على القسم المقدر وجوابه لأَنه بالياء التفاتاً ونحيينه بالنون وقرأ عاصم وابن كثير ولنجزينه بالنون أيضاً { أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فقال امرؤ القيس: إِلى هذه يا رسول الله، فكبر وحمد الله وشكره، وقيل إِن الآيات الثلاث متصلات بما قبلهن من النهى عن نقض العهد واليمين على العموم أى لا تشتروا بنقض عهد الله أو لا تستبدلوا بعهد الله ثمناً قليلا، مثل ما كانت قريش تعده لمن نقض بيعة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِنما عند الله من نصر وتغنيم فى الدنيا وثواب فى الآخرة خير لكم مما تعده على النقض وعرض الدنيا فإِن بأسره وليجزين الله من صبر على أذى الكفار ومشاق التكليف. قال سعيد بن جبير، وعطاء وابن عباس فى رواية عنه: الحياة الطيبة الرزق الحلال، وقال الحسن وعلى بن أبى طالب: القناعة، وقال مجاهد وقتادة: حياة الجنة، ورواه عوف عن الحسن، وقال لا تطيب حياة إِلا فيها غنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلاك وسعادة بلا شقاوة، وقال السدى: حياة القبر، لأَن المؤمن يستريح فيه من نكد الدنيا، وقال مقاتل: العيش فى الطاعة، وقيل: حلاوة الطاعة والتوفيق فى قلبه، وقيل رزق يوم بيوم، واعلم أن طيب حياة الصالحين إِنما هو بنشاط نفوسهم ونبلهم وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، فبهذا طابت حياتهم وأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم ولو كانوا فقراء لرضاهم بالقسم وقناعتهم ورجاؤهم ثواب الآخرة فإِن كانوا أغنياء زاد طيب إِلى طيب، بخلاف الكافر فإِنه لا يرجو ثواب الآخرة، ولا يرضى بالقسم فإِن كان غنياً لم يتركه حرصه أن يتهنا بعيشه، وإِن كان فقيراً ازداد تنغصاً إِلى تنغص، روى أحمد والحاكم عن أبى موسى الأَشعرى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
"من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه، فآثروا ما يبقى على ما يفنى" ، ولما كانت القراءة من العمل الصالح بل أعظمه، ذكرها عقب ذكر العمل الصالح وذكر الاستعاذة عقبه أيضاً، بذلك ولتسلم القراءة من الوساوس بأن أمر نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسأَل الله أن يمنعه من وسواس الشيطان وذلك السؤال هو معنى الاستعاذة فقال: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ }.