التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً
٤٥
وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً
٤٦
-الإسراء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاخِرَةِ } وهم منكرو البعث { حِجَاباً } ساتراً يستر عن فهم ما تقرأ فلا يفهمونه فهماً معتبراً وهو الحقيقى المتبوع بالعمل ولو فهموه بعض فهم، إِذ كان بلغتهم، وذلك الجعل ليس جبراً تعالى الله عنه ولكن تخليتهم وأنفسهم وما يختارون. { مَّسْتُوراً } عن الأَعين أى لا تراه الأَعين لأَنه حجاب غير حسى أو مستور بحجاب آخر، وذلك أن اختيارهم الضلالة حجاب ساتر لهم عن فهم ما يقرأه عليهم، فهم لا يفهمونه، وهذا الحجاب أحاط به حجاب آخر هو أنهم لا يعلمون أنهم غير فاهمين ولو علموا أن الحق فيما يقرأ وأنهم لم يفهموا لالقوا أفهامهم إِليه لعلهم يفهمون أو حجاباً مستوراً ما جعل حجاباً عنه عن أن يدرك فكأَنه قيل حجباً مستوراً محجوبه فحذف المضاف، ومستوراً فى ذلك كله اسم مفعول ويجوز أن يكون المعنى حجاباً ساتراً فيكون النعت للتوكيد، ومستور على هذا إِما مجاز مرسل لعلاقة الاشتقاق وإِن شئت فقل لعلاقة التعلق إِذ أطلق اسم مفعول على معنى فاعل لاجتماعهما فى مادة واحدة فى الاشتقاق أو تعلق الحجب بالمحجوب كتعلقه بالحاجب، وإما مجاز فى الإسناد حيث أسند للمفعول وهو المحجوب عنه والذى له هو كونه مستوراً إِلى الفاعل وهو الحجاب، رويت فى التلخيص سيل مفعم بفتح العين أى مملوء وإِنما المملوء الوادى لا السيل وإِما للنسب أى ذا ستر، كما قيل فى قوله عز وعلا: وعده مأتيا فإِن مأَتيا اسم مفعول أصله مأتوى كمنصور ومرحوم اجتمعت الواو والياء وسكنت السابقة فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فى الياء وقلبت الضمة كسرة أى ذا إتيان فكأَنه قيل إتياء، ويأْتى كلام فيه إِن شاء الله وقيل الآية فى حفظ الله سبحانه وتعالى نبيه عمن أراد به سوءاً من قتل أو جرح، إِذا قرأ القرآن منعه الله به من ذلك وجعل بينه وبين مريد ذلك حجاباً مستوراً، أى حجاباً محجوباً عن الأَعين أو حاجباً ونحو ذلك مما أمكن من الأَوجه السابقة. "روى سعيد بن جبير أنه قال: لما نزلت { تبت يدا أبى لهب } جاءت امرأة أبى لهب ومعها حجر والنبى - صلى الله عليه وسلم - مع أبى بكر فلم تره. فقال له: أين صاحبك، لقد بلغنى أنه هجانى. فقال أبو بكر: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فرجعت تقول كنت جئت بهذا الحجر لأُرضخ رأْسه، فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله. فقال: لم يزل ملك بينى وبينها" ، والحديث مذكور فى سير الغزوات وغيرها وفى الهمزية وشروحها ذكره، وقد توجه أناس للفتك به فمنعهم الله وكان يقرأ فى المسجد الحرام ويصلى فيه ظاهراً محفوظاً بحفظ الله جل جلاله ويؤيد التفسير الأَول قوله عز وعلا: { وَجَعَلْنَا عَلىَ قُلُوبِهِمْ } الخ.. فيكون هذا وذلك فى معنى واحد وعلى التفسير الثانى يختلف هذا مع ما قبله فيكون مستأْنفاً أو عطف قصة على أخرى، وذكر الواحدى أن الآية نزلت فى قوم يؤذون النبى - صلى الله عليه وسلم - وإِذا قرأ القرآن فحجبه الله جل وعلا عن أعينهم عند قراءة القرآن حتى كانوا يمرون به ولا يرونه، وهذا من القول الثانى { أكِنَّةَّ } جمع كنان وهو الغطاء والستر ووزنه أفعله أصله كننة بإِسكان الكاف وكسر النون الأُولى نقل كسرها للكاف وأدغمت فى الثانية. { أن يَفْقَهُوهُ } أى لئلا يفقهوه أو كراهة أن يفقهوه أى جعلنا على قلوبهم أغطية تحول بينها وبين إِدراك الحق وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون مفعولا لمحذوف دلت عليه جملة جعلنا على قلوبهم أكنة أى منعناهم أن يفقهوه. { وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً } ثقل سمع يمنعهم عن استماعه لما كان القرآن معجزاً من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى وهو أكنة على قلوبهم وما يمنع عن إِدراك اللفظ وهو الوقر فى آذانهم، وهذا كناية عن أنهم لا يسمعون أصلا بأَن لا يجمعهم الله مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال قراءته وذلك بعد قيام الحجة عليهم وسماعهم منه ومن غيره أو كناية عن أنهم ولو سمعوا، لكنهم لا يتأَثر فيهم السماع فكأَنهم لم يسمعوا وقوله تعالى: { وإِذا قرأت القرآن } إِلى قوله: { نفوراً } لطرد المردة والشياطين إِذا تلاها الإِنسان الخائف والذى تتخيل إِليه الخيالات الفاسدات زال ذلك عند بإِذن الله تعالى، وإِذا كتبت فى خرقة صوف أو ورق وعلق على عضد من تبعه الجن زال عنه بإِذن الله تعالى، ومن كتب عشر قافات وثلاث ميمات والآية وحمل ذلك انتصر بإِذن الله تعالى على أعدائه، وفى آذانهم معطوف على قوله على قلوبهم وقراً معطوف على أكنة.
{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ } مثل أن تتلو لا إِله إِلا الله أو لا إِله إِلا هو أو إِنما الله إِله واحد وإِنما إِلهكم إِله واحد، ونحو ذلك مما هو فى إِثبات الوحدانية لله سبحانه، ويحتمل أن يكون المراد إِذا ذكرت الله ولم تذكر معه آلهتهم، ووحده مصدر كالوعد وقع حالا يقال وحد يحد حدة ووحد كوعد يعد عدة ووعداً { وَلَّوْا عَلَى أدْبَارِهِمْ نُفُوراً } أى هرباً عن التوحيد وسماعه، كما هو شأْن من بالغ فى إِنكار شئ وهو مفعول لأَجله، ويجوز أن يكون بمعنى تولية فيكون مفعولا مطلقاً كقعدت جلوساً وهو مصدر على الوجهين، ويجوز كونه وصفاً جمع نافر بمعنى هارب كرجل قاعد ورجال قعود فيكون حالا والمراد النفور بالقلب ولو لم يزولوا عن أماكنهم فكنى عن إعراض قلوبهم وإِنكارها بذهاب الرجل إِلى خلفه وعلى بمعنى إِلى ويجوز إِبقاؤها على أصلها لأَن التولية مشى إِلى خلف والمشى يتعدى بعلى وغيره يقال مشى على كذا.