التفاسير

< >
عرض

وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
٢٦
وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً
٢٧
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلَبِثُوا فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ } بدل من ثلاث لا من مائة لأنه لو أسقط مائة لبقى ثلاث سنين فيفسد المعنى وقد يقال: إنه تصح البدلية مع ذلك فإن كثيرا من الأبدال لا يصح إسقاط مبدلاتها فإن معنى قولهم البدل فى نية طرح المبدل منه أن الأبدال منهُ سيق تمهيدا للبدل لا قصدا بالذات وأن المقصود بالذات البدل هذا ما ظهر ثم رأيت الأخفش أجاز كون سنين بدلا من مائة ورد عليه ابن هشام بما ذكر من أنه لا يصح أن يقال ثلاث سنين لفساد المعنى هنا فيجاب عنه بما ذكرت وقرأ حمزة والكسائى بإضافة مائة لسنين فلا تنون لفظة مائة بخلافها على قراءة الجمهور فإنها منونة.
وإن قلت: الألف والمائة يضافان للواحد؟
قلت: أضيف مائة هنا للجمع لأنه منزل منزلة الواحد لأن الياء والنون فيه عوض عن لام سنة وهى واو أو هاء أن الأصل فى العدد أن يضاف للجمع وقرأ أبىّ ثلثمائة سنة إفراد سنة وإضافة مائة إليها.
{ وَازْدَادُوا تِسْعاً } أى تسع سنين لبثا مضروبا فيه على آذانهم ثم بعثهم الله لأهل زمانهم وهذا بيان لما أجمل فى قوله وضربنا على آذانهم فى الكهف سنين عدداً.
وإن قلت: إذا كان هذا إخبار من الله عز وجل فما وجه قوله: { قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَٰواتِ وَالأَرْضِ } أى له علم ما غاب عن الخلق من السماوات والأرض وما فيهن وأحوالهن أو عنده غيبهن فهو عالم به؟
قلت وجهه: أن المتنازعين لم يقولوا: إن مدة لبثهم ثلاث مائة سنين وتسع بل منهم من قال: ثلثمائة، ومنهم من قال أقلّ فأجابهم الله بأنها ثلثمائة وتسع وأنه تعالى أعلم منكم بما لبثوا كما أنه اختص بعلم الغيب على الإطلاق وأن الحق ما قاله. وقد قيل: إنه لما نزل: ولبثوا فى كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا قالت نصارى نجران: أما ثلاث المائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها فنزل قل الله أعلم بما لبثوا الخ فلذك غيّر الأسلوب إذ قال: وازدادوا تسعا ولم يقل وتسعا وعلى الوجه قبل هذا فإنما غيَّر الأسلوب تكثيرا أو تقليلا بلفظ تسع منعوتا بلفظ الزيادة كأنه قال: ولبثوا مع ذلك أيضا تسعا. أو قال لم يلبثوا فوق ذلك إلا قليلا هو تسع.
وقيل: إن مدة لبثهم تسعمائة بحساب العجم على سير الشمس وبه حسب أهل الكتاب كنصارى نجران وثلثمائة وتسع بحساب العرب على سير القمر والتفاوت بين مائة سنة عجمية ومائة عربية ثلاث سنين فذلك تسع سنين والسنون فى الآية عربية.
وإن قلت: فلم قال: قل الله أعلم بما لبثوا مع أنهم قد وافقوا؟
قلت: لأنهم ولو وافقوا لكن لا يقين لهم ولأنهم لما ذكر لهم التسع أنكروها فقال: إن الله أعلم بالحساب فإنه أنزل القرآن على كيفية تعرفها العرب وكأن الحساب بزيادة التسع ولا معرفة لكم بوجه التفاوت بين الثلاث المائة التى علمتم ثلاث المائة والتسع التى لم تعلموا.
وقال قتادة: إن قوله: ولبثوا فى كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا من كلام أهل الكتاب فرد الله عليهم بقوله: قل الله أعلم بما لبثوا الخ. ويدل له ما فى مصحف ابن مسعود: وقالوا لبثوا فى كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا.
وقيل: إنهم قالوا هذا باعتبار دخول الفتية الكهف إلى مدة الاجتماع بالنبى صلى الله عليه وسلم فرد الله عليهم بأنه لا علم لأحد بمدة دخولهم الكهف إلى وقتك هذا والصحيح أن ذلك إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم إلى أن أيقظهم الله فى زمانهم.
{ أَبْصِرْ بِهِ } أى بالله. أبصر: فعل ماض على صورة الأمر مبنى على فتح مقدر منع من ظهوره سكون صورة الأمر والهاء فى محل جر بالباء وفى محل رفع على أنها فاعل لأبصر ودخلت عليه الباء للتأكيد ولإزالة صورة إسناد صورة فعل الأمر إلى اسم غيبة وذلك هو العلة فى مثل أحسن بزيد مع زيادة أن فعل الأمر لا يراع الظاهر وإنما صح كون الهاء فاعلا مع أنها ضمير نصب أو جر بواسطة دخول الباء وذلك ما كنت أقوله، وهو الصواب إن شاء الله فاحفظه.
وقال الأخفش: الفاعل ضمير مستتر عائد إلى كل أحد على سبيل البدلية لا الشمول ولفظ الهاء مفعول به إما صريح على أن الهمزة للتعدية والباء صلة للتأكيد. وإما مقيد بالجار المذكور على أن الهمزة للصيرورة فالجار للتعدية.
{ وَأَسْمِعْ } أى وأسمع به فحذف لدلالة الأول. والمعنى: عظم بصره وسمعه جدا كما يقال ما أبصر زيدا وما أسمعه وذلك تلويح إلى إبصاره الذى هو إدراك الأجسام وسمعه الذى هو إدراك الأصوات خارجان عن حد سمع الحادث وإبصاره لأنهما لا يشذ عنهما شئ ما وقد ورد مثل ما أفعله فى حق الله وهو فى صحيح الربيع ابن حبيب وهو مجاز.
{ مَا لَهُمْ } أى لأهل السماوات والأرض { مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ } يتولى أمورهم { وَلاَ يُشْرِكُ } أى الله { فىِ حُكْمِهِ } أى فى قضائه. وقيل: فى غيبه { أَحَداً } من أهل السماوات والأرض لا يجعل لأحد منهم مدخلا فى قضائه لأنه غنى عن الشريك ولأن غيره لا يتأَهل لذلك.
وقرأ ابن عامر ويعقوب فى رواية قالون ولا يشرك بالمثناة التحتية وإسكان الكاف ورفع أحد على نهى كل أحد عن الإشراك فى حكمه أى لا يدّع أحد شاركة.
وقرأ الحسن بالتاء المثناة الفوقية وإسكان الكاف على النهى ونصب أحد والخطاب لكل أحد على سبيل البدلية أو للنبى والمقصود سواه. والله أعلم.
قال بعضهم: حدثنا ابن أبى إسحاق البصرى عن عبد الرحمن بن مزاحم أنه قال: دخلت مسجد النبى صلى الله عليه وسلم ونظرت فإذا أنا بحلقة عظيمة فنظرت فإذا أنا بابن عباس رضى الله عنه فجلست أمامه فقلت له: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لا تحدثنا بقصة أهل الكهف والرقيم أين كانوا أو كيف كانت مسألهم؟ وما كان صفة الكلب ولونه؟ وما اسمه؟
فقال ابن عباس رضى الله عنه: يا عبد الله سألتنى عن أمر عظيم وحديث طريف. كان فى زمان بنى إسرائيل رجل يقال له: دقيوس، وكان راعيا يرعى غنما له فلما كان ذات يوم استحرت عليه الشمس فأوى إلى بئر فى فلاة يريد أن يحيل حولها ويسقى غنمه فأدلى دلوه إذ لاح له لوح من الذهب الأحمر وفيه أسطار مكتوبة بالعبرانية فأَخذه وترك غنمه وسار إلى الكوفة فلم يجد فيها صغيرا ولا كبيرا يحسن قراءته فسار إلى بيت المقدس فلم يلق فى بيت المقدس من يحسن قراءته إلا رجلا من بنى إسرائيل شيخا كبيرا انحنى ظهره وسقط حاجباه على عينيه له من العمر ثلاثمائة سنة سمع باللوح فقال: علىَّ به فاستخرج عصابة فعصب حواجبه فلم يزل ينظر فيه وفى وجه دقيوس ويبكى. فقال: ما يبكيك يا شيخ؟ فقال: هذا اللوح يدل أنك تدعى الربوبية من دون الله وهذه الأسطار تدل على كنز من كنوز الأرض فيه من الأموال ما لا يحصى عدده إلا الله.
فقال له دقيوس: دلنى عليه.
فقال: نعم إن أعطيتنى الميثاق والعهد أن لا تغدر بى ولا تقتلنى وتجعلنى وزيرك.
فأعطاه العهد والميثاق على ذلك وأوقفه على حربة قديمة فضرب فيها بالمعول فانفتح باب المغارة.
فلما رأى دقيوس كثرة المال والسلاح غدر بالشيخ فضربه بالمعول فقتله واشترى دقيوس الخيل والعبيد وجيش الجيوش والناس يتطايرون عليه رغبة لما عنده من الأموال حتى جيَّش جيوشا عظيمة.
ثم أخذ المال وسار بالجيوش يطلب موضعاً يتخذه منزلا فكان يجول فى الأرض فانتهى إلى رومة فبادر إليه ملكها بالجيش فلم يزالوا يقاتلون حتى انتصف النهار فهزم دقيوس ملك رومة وقتل رجاله ودخل المدينة فسباها وأخذ أهلها ودخل الكنيسة العظمى التى كان بها صنم من الذهب الأحمر وعيناه من ياقوت وعلى رأسه ثلاثمائة وصيف يزيحون عنه الذباب ويمسحون عنه الغبار وكان أهل رومة يسجدون له من دون الله فأخذ دقيوس ما فى الكنيسة ما لا يحصى من الأموال وأخذ أموال رومة.
ثم سار يطلب موضعا يسكنه حتى انتهى إلى موضع كثير الأشجار أرضه بيضاء معتدلة فأمر أن تبنى فيها مدينة وسماها أفسوس وجعل لها ثلاثة أسوار وجعل فيها قصراً من الرخام الأحمر، له من الأبواب والطاقات عدد أيام السنة وجعل فيها مجلسا وأقام فى المجلس قبة من الذهب الأحمر وكوكبها بكواكب الدر والياقوت والجوهر.
واتخذ لنفسه سبع فتيان من خيار قومه وألبسهم الحلى وجعلهم وزراءه وأمرهم بالوقوف بين يديه ووضع الكراسى على يمين القبة وشمالها وأرسل إلى الملوك وأقعدهم عليها وأحضر لهم الطعام والشراب وقال لهم: كلوا واشربوا ووضع لهم الصنم على سرير القبة البيضاء وأمرهم بالسجود له من دون الله سبحانه ثم أتوه يوما فسجدوا له فقال: ارفعوا رءوسكم ليس هذا وقت سجود ما الذى دهاكم؟
فقالوا له: دهانا عساكر الفرس فى ثلاثة آلاف فاصفر لونه ووقع مغشيا عليه وسقط التاج عن رأْسه فطيبوه بالطيب ورشوه بالمسك وقالوا: لا يهولنك هذا. ولما أفاق احتجب ثلاثة أيام فى قصره فاجتمع الفتيان فى ليلة عند أكبرهم سنا وقد مر اسمه.
وقيل: إن أكبرهم سنا هو تمليخا اجتمعوا عنده وكان أفصحهم لسانا فى مجلس رخام وأحضر طعاما وشرابا فأكلوا وشربوا وناموا فخرج تمليخا إلى وسط الدار فكبر ورفع رأْسه إلى السماء فرآها مشتبكة بالنجوم وليس فى وسط الدار إلا الحى القيوم.
فقال تمليخا: ليت شعرى من كوكب هذه الكواكب، يا ليت شعرى مَن خلق الليل والنهار والشمس والقمر، يا ليت شعرى مَن أمطر الأمطار وأنبت أوراق الأشجار، يا ليت شعرى من أرسل الريح وسخر البحر. أعلمى يا نفسى أن لهذه خالقا خلقها وصانعا صنعها ومدبراً دبرها فبكى بكاء شديداً وخرّ ساجداً لمن خلق السماء والأرض ودخل المسجد باكيا وأيقظ أصحابه وقالوا له: يا حبيبنا تمليخا ما الذى يبكيك؟
فقال لهم: إنى تفكرت فى الذى كان من الملك دقيوس حين اصفر لونه وسقط التاج عن رأْسه من الفزع فلو كان إلها كما زعم ما فزع وما هذا شأن إله يُعبد ولكن يا أصحابى خرجت إلى وسط الدار فرأيت السماء مشتكبة بالنجوم فعلمت أن لها خالقا خلقها وصانعا صنعها ومدبرا دبرها بقدرته فهل يقدر دقيوس أن يخلق الليل والنهار والشمس والقمر؟! ولكن يا أصحابى تعالوا نعبد الله الذى هو على العرش استوى.
فقالوا له: كيف السبيل إلى عبادة هذا الإله.
فقال لهم: تعالوا نقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له وما جاءت به الأنبياء حق.
فقالوا بأَجمعهم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
فقال لهم تمليخا: إذا جَنَّ الليل نخرج إلى هذا الجبل الذى كان حولنا نعبد إلهنا فعسى ربنا أن يغفر لنا ما سلف من ذنوبنا.
فقالوا: نعم إلى ماذا نقيم على الكفر!
فكانوا إذا جَنَّ الليل خرجوا عن منازلهم إلى ذلك الجبل فاشتغلوا فيه بعبادة الله عز وجل إلى طلوع الفجر ورجعوا إلى منازلهم.
فأقاموا على ذلك مدة طويلة حتى نحلت أجسامهم واصفرت ألوانهم وسارت الدموع فى خدودهم طرقات من كثرة بكائهم على ما مضى من كثرة عصيانهم لربهم فكانوا يقومون الليل وإذا أقبل النهار يلبسون الحلى والحلل والتيجان ويقومون بين يدى الملك.
فأقاموا على ذلك زمانا طويلا حتى اطلع عليهم رجل من أعوان الملك فعلم أنهم يعبدون الله عز وجل فانطلق من ساعته حتى دخل عَلَى الملك وخرّ بين يديه ساجدا، لعنهما الله. فقال له الملك: ارفع رأْسك ليس هذا وقت ركوع ولا سجود الذى جاء بك؟
فقال له: وزراؤك كرهوا صحبتك يأكلون رزقك ويتقلبون فى نعمتك ويعبدون إلها غيرك.
فبعث إليهم الملك رسوله فبادر لتمليخا رجل فقال: يا تمليخا اعلم أن الملك علم أنكم تعبدون إله السماء وقد أرسل رسوله نحوكم فاثبتوا عند سؤال الملك.
ولما ورد عليهم رسول الملك قاموا وركبوا الخيل ولبسوا الحلى وتطيبوا بالطيب ولما دخلوا عليه وضع لهم الصنم على سرير من الذهب الأحمر وأمرهم بالسجود وسجدوا لله رب العالمين وقالوا: ربنا إليك سجدنا وما عندك طلبنا يا إله السماء نجنا من عدونا وأغثنا بغيثك يا من لا يحول ولا يزول فظن دقيوس أنهم سجدوا له وأنهم يبكون من خوفه. فقال للرجل الذى جاءه بخبرهم: ويحك أنت نمام. فقال لبعض عبيده: اضربوا عنقه فعجل الله بروحه إلى النار وأقاموا يعبدون الله تعالى ويصومون النهار ويقومون الليل حتى اطلع عليهم دقيوس بنفسه، وظن أنهم يعبدون إله السماء فكتم ذلك عليهم ولم يبده لأحد منهم وحضر له عيد يقوم فيه أربعين يوما بلياليها يذبحون الذبائح ويأمرون الناس بالسجود للأصنام من دون رب العالمين، وأمر الناس بالخروج إلى العيد وأمر البوابين بالعود على أبواب المدينة لئلا يخرج الفتية. وقال لهم: إن خرجوا ليلا أو نهارا ضربت أعناقكم وأعناق أهلكم حتى أرجع من عيدى فأحرقهم بالنار أو أذرى رمادهم على الجبال العالية تهوى بها الريح فسار إلى عيده فاجتمع الفتية إلى تمليخا فى مجلس لهم وقد أدركه تعب العبادة فنامت عيناه وأصحابه ينظرون وإذا به قد قام فزعا مرعوبا فقالوا له: ما الذى روعك يا حبيبنا يا تمليخا؟
فقال لهم: إنى رأيت فى منامى هذا شابين أمردين عليهما ثياب من نور وأردية من نور راكبين على فرسين لا يشبهان خيلنا بأيديهما صوالج من الذهب وكورة من الفضة البيضاء وهم يلعبون بها فى المدينة فسمعت واحدا يقول: اضرب الكورة يا جبريل فضربها بالصالجة فطارت فى الهواء وهما على آثارها فسمعت قائلا يقول: اضربها أنت يا ميكائيل فلم يزالا يضربانها حتى سارا بها إلى باب المدينة فانفتح الباب بقدرة من يقول للشئ: كن فيكون فخرجا قائلين: نخرج إلى الله رب العالمين فهذا يا أصحابى إلهام من الله كيف نخرج من هذه المدينة تعالوا نصنع صوالج وكورة.
فقالوا: لا نعرف ذلك.
فقال: ولا أنا ولكن أمثلها كما رأيت فى المنام فجمعوا دنانير ودراهم وساروا إلى صائغ فى المدينة فقالوا له: اصنع لنا صوالج وكورة من هذه الدنانير والدراهم.
فقال لهم: لا أعرف ذلك يا وزراء الملك ولقد جازت علىَّ مائة وخمسون سنة ما سمعت أحدا فى المدينة يقول الصوالج ولا الكورة فقال له تمليخا: ولا نحن نعرفها ولكن أمثِّلها لك كما رأيت فى منامى فمثَّلها له فقال لهم: إنى أصنعها لكم فدفعوا إليه الدنانير والدراهم. فقالوا له: متى نرجع إليك؟
فقال لهم: إذا نامت العيون فتعالوا إلىَّ ندفعها إليكم.
فانصرف تمليخا وأصحابه إلى منازلهم وكان لتمليخا كرْم مثمر فباعه بخمسة وثمانين درهما من الدراهم دقيوس وكان الدراهم مثل حافر البغل مكتوبا عليه بالعبرانية لا إله إلا دقيوس فأخذها فى كيس وأخذ زاده ومشى مع أصحابه وأتوا الصائغ فى الوقت الذى وعدهم بعد أن لبسوا الحلى وجعلوا التيجان على رءوسهم وتطيبوا بالطيب وركبوا الخيل ثم وصلوا إلى الصائغ ندفع لهم الصوالج والكورة ووضعها بين أيديهم فى الأرض وجعلوا يضربونها بالصوالج وكان لها دوى عظيم فجعل الناس يتعجبون ويضحكون ويقولون: إن هذا اللعب ظريف ما رأينا مثله قط وأقبل البوابون والعبيد يتعجبون ويضحكون. وأنساهم الله سبحانه ما أوصاهم دقيوس به. ولما انتهت إلى باب المدينة ضربها تمليخا فخرجت إلى الباب ففتحه البوابون فردها أحد الفتية بالضرب إلى المدينة ثم ضربها تمليخا فخرجت.
فقال الجليل جل جلاله لجبريل عليه السلام: اهبط إلى الكورة واحملها بريشة من جناحك فهبط إليها جبريل عليه السلام أسرع من طرف العين فحملها بريشة يستدرجها من أرض إلى أرض وهم على أثرها يضحكون ويضربها الفتية حتى بلغت خمسة وثلاثين ميلا فى وقت قريب فنظر تمليخا نحو المدينة فلم يرها ولا أحدا من أهلها فقال: يا أصحابى ما فعلت المدينة؟
فقالوا له: لا علم عندنا الله أعلم ولا نعلم إلا ما علمنا.
فقال لهم: يا أصحابى اسمعوا منى فأنا أكبر منكم سنا، وإنى عرفت الله قبلكم فأخلصوا قلوبكم إلى ما كان لله انزلوا على الخيل، واتركوا التيجان والإكليل، والبسوا ثياب الصوف، وتحزموا بالحبال، وخذوا زادكم نهرب بديننا إِلى إله السماء.
فقالوا له: كيف نطيق المشى حفاة ونحن أبناء الملوك تربينا على النعمة ولا نعرف المشى؟
فقال لهم تمليخا: يا أصحابى افعلوا ما أمرتكم به لعل إله السماء يغيثنا وينجينا من عدونا.
قال: ففعلوا ما أمرهم فبينما هم يمشون إذ براع يرعى غنما على ربوة له كلب عظيم مجترئ ولما رآهم بادر إليهم ووضع لهم خده إلى الأرض وعيناه ناظرتان إلى السماء وبسط لهم ذراعيه وأخرج لهم لسانه وجعل يحرك ذَنَبه وعيناه تذرفان بالدموع.
فقال الراعى: الله أكبر ما رأيته خضع لأحد إلا لهؤلاء وكان الكلب قبل يعقر الفارس.
فقال الراعى: إن لهؤلاء عند الله منزلة رفيعة فترك غنمه وسار إليهم فوقف لهم على قارعة الطريق وركز ما يتكئ عليه فلما رآه تمليخا قال: ما شاء الله كان لا قوة إلا بالله ولا معبود سواه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
فقال له: السلام عليك يا راعى.
قال له الراعى: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أين تريدون؟ وما أظنكم إلا هاربين من الملك أتقرب بكم إلى الملك أردكم إليه فيطعمنى ويسقينى وأكون عنده بالمنزلة الرفيعة.
فقال له: لا تفعل يا راعى بل نحن من وزراء الملك هربنا إلى إله السماء.
فلما سمع الراعى ذلك رفع عينيه إلى السماء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وما جاءت به الرسل حق يا أصحابى لى فى هذه البلاء مائة سنة أرعى الغنم والله ما سمعت أحدا يذكر الله بلسانه إلا أنتم ولكن أين تريديون؟
فقالوا له: نريد الهروب إلى ربنا يديننا.
فقال لهم: أنا صاحبكم فى الله ولكن اسمعوا منى أنا أكبر منكم سنا وأنا عرفت الله قبلكم وليس فى هذه الأرض طريق أو شجرة إلا عرفتها وأنتم غرباء ارجونى حتى أصرف الغنم إلى أربابها لئلا أتركها تأكلها الذئاب ويسألنى عنها علام الغيوب وآخذ زادى وأعود إليكم نهرب بديننا إلى إله السماء.
فقال له تمليخا: لا سبيل إلى مضيك معنا.
فقال له: لِمَ ذلك؟
قال: خفنا أن تكون عدوا من أعداء الله تعالى تخبر بنا وتدل علينا فيردونا إلى الملك الكافر دقيوس فيقتلنا أو يردنا عن عبادة الله.
فقال لهم: كيف يكون ذلك وأنا عرفت الله قبلكم فخذوا علىَّ عهد الله وميثاقه.
فقال له تمليخا: اصرف الغنم إلى أربابها وعد إلينا ولا تدل علينا بحق إله السماء.
فانطلق بالغنم إلى أربابها وأخذ زاده سبعة أقراص من خبر الشعير وشيئاً من الزبيب ورجع فلما التحق بالفتية تقدم أمامهم وهم يتبعونه فبينما هم يسيرون إذ نظر نحو المدينة وإذا بكلب الراعى يتبعهم. فقال تمليخا له: انصرف عنا فما فى صحبتك خير.
قال: ولِمَ ذلك؟
قال: إن هذا الكلب ينبح فيدل الناس علينا.
فقال لهم: اتركوه يمضى معنا يحرسكم إذا نمتم من عدوكم ومن السباع والهوام ولا يصل إليكم أحد لا يجئ فارس إلا قتله.
فقالوا له: إلينا.
فقال لهم: يا أصحابى إن هذا الكلب له معى مائة سنة إذا صليت يصلى معى بصلاتى وإذا دعوت الله رأيته رافعا عينيه إلى السماء يدعو بدعائى وإذا بكيت يبكى ببكائى فاتركوه يمضى فوالله ما رأيت منه إلا الخير.
فقالوا له: لا؟
فقال: ارجموه وأنا والله لا أفعل ذلك فطردوه بالحجارة.
فلما تكاثرت عليه الحجارة قعد على ذَنَبه ورفع عينيه إلى السماء فأَنطق الله لسانه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وما جاءت به الرسل حق يا أصحابى ما لكم ترجموننى بالحجارة وأنا عرفت الله قبلكم لى مائة سنة أعبد الله فاتركونى معكم وهكذا قضى علام الغيوب.
فبادروا إليه وحملوه على أعناقهم بالدولة ويمسحون عن وجهه الغبار ويقبلونه بين عينيه ويقولون: مرحباً بمن أنطقه لنا علام الغيوب.
فبينما هم سائرون إذ لاح لهم ماء جارٍ وكرْم مثمر وأشجار عالية وهو عظيم فقال لهم أحدهم - قيل فطاطايس -: مسنا الكلل والجوع اقعدوا تأكلوا من الزاد ونشرب من هذا الماء ونستظل فى هذا الكهف هربنا بديننا إلى إله السماء ففعلوا ذلك وتوسدوا ونامت أعينهم وعلق الله أرواحهم فى قناديل من نور تحت العرش ووكل ملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.
فلما رجع دقيوس من عيده إلى المدينة سأل عن تمليخا وأصحابه فقالوا له: صنعوا لِعباً ظريفاً خيلوا به على أعين الناس وهربوا بدينهم إلى إله السماء فأرسل إلى العبيد والبوابين وضرب أعناقهم وقال لأهل المدينة: اركبوا الخيل السباق والنجب الرفاق فركبوا وخرجوا وليس فيهم من يقول: لا إله إلا الله لعنهم الله فقاموا على البحث عنهم حتى وصلوا إلى باب الكهف فاجتمع العساكر عند باب الكهف.
فقال دقيوس لرجل من أعوانه: ادخل الكهف وانظر ما فعلوا وما فعل بهم إلههم الذى هربوا إليه فلما دخل الرجل رأى أعينهم يقظانة والملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فولى هارباً وقلبه يخفق كالطائر فى الهواء.
فقال له دقيوس: ما الذى دهاك؟
فقال له: لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً. فدخل عليهم فرآهم كذلك فولى فراراً وملئ رعبا كذلك وهو يقول: يا أهل أفسوس ما كنت أعذبهم بالذى عذبهم به إلههم الذى هربوا إليه ناولونى الحجارة فبنى عليهم باب الكهف.
فلما تم البغاء ناداهم بأعلى صوته: قولوا لإلهكم الذى هربتم إليه ينجيكم من وراء هذا البناء الذى بنيت عليكم وسار إلى المدينة وقام فيها ما شاء الله فلما أراد الله هلاكه زعم أن له فى السماء شريكا فقال لقومه: إنى أُريد أن أمضى للذى فى السماء وأكلمه ويكلمنى تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً فجيَّش جيشاً عظيما وسار إلى الجبل وقال لأهله: امكثوا حتى أُكلم شريكى على هذا الجبل تعالى الله عن ذلك فلما استوى على الجبل أخرج الله إليه جراداً فلما رآه قال: هل رأيتم قط مثل هذا الجراد الذى أرسل إلىّ شريكى فتراكم من جوانبه حتى استوى عليه فأكله.
ثم أرسل الله سبحانه عيسى بن مريم عليه السلام فآمن به أهل المدينة وكان باب المدينة مكتوباً عليه لا إله غير دقيوس فمحاه وكتب فى موضعه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن عيسى روح الله فاستخلف عيسى على المدينة ملكا مؤمناً ليقضى بين الناس بالحق.
ولما أراد الله إخراج أهل الكهف آية أرسل إليهم إسرافيل فجر يده على أجسامهم فأول من استيقظ تمليخا فنفض التراب عن رأْسه واستيقظوا بعده. وقيل: لما استيقظ وجد نفسه عطشان فسار إلى باب الكهف وإذا بالحجارة لما جاز عليها من السنين تهدمت وسار إلى العين يشرب فوجدها قد غارت فقال: ما شاء الله أين الماء الجارى هنا شربنا منه بالأمس والتفت إلى الكلب فظن أنه نائم فجعل يحرك عينيه ورجع إلى أصحابه وأيقظهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء أُمهاتهم فاستيقظوا كلهم بقدرة الله عز وجل. فقال لهم: كم لبثتم فى كهفكم هذا؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم وقال لهم: من بنى هذا البنيان الذى تهدم وما فعل الماء الجارى والشجر والكرم؟ فقالوا: لا علم لنا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً فأخذ تمليخا الدراهم وقال للراعى: خذ هذه الدراهم واذهب بها إلى المدينة واشتر لنا خبزاً وزيتوناً أو زبيباً وارجع إلينا فقال له الراعى: أنت تربيت فى المدينة وأنت عارف بها وبأسواقها وأنا راع لا أعرف فيها شيئاً خذ عصاى فاذهب أنت إلى المدينة فقال: نعم فلبس ثياب الراعى وأخذ العصى بيده وودع أصحابه ولما خرج من الكهف تغيرت عليه الأرض ولم يعرف الطرقات وتحيَّر وظن أنه نائم ونظر إلى السماء وبكى بكاء شديداً وقال: يا غياث أغثنى بغيثك يا من لا يحول ولا يزول فبينما هو يدعو الله فإذا هو براع فتى من بنى إسرائيل لا نبات بأرضه فقال فى نفسه: هذا الراعى ما أوقفه هنا إلا دقيوس فقال: السلام عليك يا راعى فقال له: وعليك السلام ورحمة الله. فقال تمليخا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. فقال الراعى: نعم لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. فقال تمليخا: يا راعى بحق من تعبد إلا أعلمتنى هل رجع دقيوس من عيده أم لا؟ فقال: أنا ولدت فى هذه المدينة وفيها تربيت ما سمعت قط من يقول دقيوس ولا أظن هذا إلا من أسماء الجن فنعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال تمليخا: إن كان الحق ما تقول فدلنى على المدينة. فقال له: أى مدينة تريد؟ فقال: أفسوس فقال له هى: أمامك فسار تمليخا حتى وصل إى بابها فإذا مكتوب عليه لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن عيسى روح الله فقال تمليخا: يا ليت شعرى أنا نائم أم يقظان مَن كتب هذا بباب المدينة وبالأمس كان مكتوبا عليه لا إله غير دقيوس فجعل يتفكر فى نفسه وإذا بفتى من بنى إسرائيل دخل المدينة فقال له: يا فتى قف فوقف فقال له: بحق مَن تعبد إلا ما أخبرتنى هل رجع دقيوس من عيده أم لا. فقال له: فى هذه المدينة ولدت وفيها تربيت وفيها قرأت التوراة والإنجيل والله ما سمعت أحدا يذكر دقيوس. فقال له: إن كان الحق ما تقول فدلنى على سوق الخبازين فسار به إلى السوق فإذا هو سوق من رخام مشبك بالحرير وعلى الخبازين الثياب الحسنة وعمائم متطيبين بأيديهم مراويح وعلى تلك الألواح الخبز وعلى الخبز مناديل الديباج فقال لفتى منهم: السلام عليك يا خباز فقال له: وعليك السلام ورحمة الله تعالى وبركاته فقال تمليخا: اشهد أن لا إله إلا الله فقال الخباز: نعم أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن عيس روح الله ورسوله. فقال له تمليخا: سألتك بالله العظيم انظر فى وجهى هل كنت نائما أو يقظان فقال: كيف تكون نائما وأنت تكلمنى وأكلمك. فقال له تمليخا: إن كان الحق ما تقول فما الذى فى يدى فقال الخباز: إن بيديك درهمين صحيحين. فقال تمليخا: إن كنت يقظان فخذ هذين الدرهمين وأعطنى ما أتزود به أنا وأصحابى تركتهم جياعا عطاشا فوضع الدرهمين فى يد الخباز فأنكرها الخباز وقال: يا فتى الصدق أمانة والكذب خيانة إن كنت أصبت كنزا من كنوز الأرض فاذهب به إلى الملك وأعطه منه خمسة كما أمر به رسول الله عيسى بن مريم عليه السلام وينزل الله البركة فى الباقى ولا تحرم الكثير بالقليل واعلم أن إله السماء لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء فقال له تمليخا: وحق إله السماء ما أصبت كنزاً وهذه الدراهم إنما هى من ثمن كرْم بعته بالأمس فى هذه المدينة سألتك بالله العظيم أرَجع دقيوس من عيده أَم لا؟ فقال له الخباز: والله ما سمعت أحدا يذكر دقيوس إلا أنت ولا أظنه إلا من أسماء الجن وأنكر الناس الدرهمين ووصل الخبر إلى الملك وقال الملك: أين صاحبهما فجئ بتمليخا إليه فقال له: إن أصبت كنزا فأعطنى منه الخمس الذى هو حق الله تعالى كما أمر به عيسى بن مريم عليه السلام فقال له تمليخا: ألست بالكافر دقيوس وحق إله السماء ما أصبت كنزا وإنما الدرهمان من ثمن كرم بعته بالأمس وخرجت أنا وأصحابى هاربين بديننا إلى إله السماء وخليتك فى عيدك يا عدو الله ألست وزيرك تمليخا فقال له الملك: وكان شبيها بدقيوس: أنا مؤمن ولست بدقيوس لا تحلف بالله كان يا ليتنى خرجت من هذه المدينة؟ فقال له: بالأمس فقال: هل تركت فيها دارا وأولادا فقال: نعم ولى فى الدار علامات فقال له: ما علاماتك؟ فقال: فيها مجلس من الرخام وعلى بابها سرية من الرخام الأبيض ولى تحتها كنز من الدراهم فقال له الملك: إن كان الحق ما تقول فأرنا دارك فقال له: سر أنت ومن معك من أهل المدينة فسار تمليخا والناس خلفه كالجراد المنتشر فأنكر الطرق وتغيرت عليه وتحيَّر ونظر نظرة إلى السماء وقال: يا غياث المستغيثين سألتك باسمك العظيم أن تبعث لى رجلا من جيرانى يجمع بينى وبين دارى فإنى لا أعرفها ولا تفضحنى على رءوس الخلائق يا من لا يخلف الميعاد فلم يزل يدعو والملائكة يؤمِّنون على دعائه فأمر الله جبريل أن اهبط لعبدى تمليخا فى صفة رجل من جيرانه فنزل فقال: الله أكبر هذا جارى فلان دلنى على دارى فدله عليها فقال: الله أكبر هذه دارى وحق إله السماء فحمد الله وأثنى عليه وصعد جبريل إلى السماء ودنا تمليخا من الباب فقرع الباب فأجابه شيخ كبير عليه جبة صوف قد انحنى ظهره من الكِبَر فقال له: السلام عليك يا شيخ ما الذى أدخلك دارى؟ فقال له الشيخ: وحق إله السماء ما هذه الدار إلا دارى ورثتها عن أبى وأبى عن جدى فقال له تمليخا: كذبت يا شيخ الدار دارى وأنا بنيتها ولى فيها علامات فقال له: ما علامتك؟ فقال: إن فيها مجلساً من الرخام الأحمر وفى بابه سارية من الرخام الأسود وتحت السارية لوح من الرخام الأبيض وتحته دهليز من الفضة البيضاء فلما سمع الشيخ الأمارة قال لأهله: ناولينى الكتاب الذى فى التابوت فأخرجت إليه الكتاب وفيه سطور مكتوبة بالذهب الأحمر فيه صفة أهل الكهف وقصتهم فلم يزل الشيخ ينظر فى الكتاب وينظر فى وجه تمليخا وعيناه تذرف بالدموع فلم يزل يقرأ ويبكى حتى بلغت دموعه الأرض فقال له تمليخا: ما يبكيك شيخ؟ فقال الشيخ: أنت تمليخا؟ فقال له: نعم. فقال له: أنت والله جدى ولكن ما فعل أصحابك المؤمنون؟ فقال: تركتهم فى الكهف جياعا عطاشا فبادر إليه الشيخ وعانقه وقبله بين عينيه وضمه إلى صدره وهو يبكى فقال الشيخ: أيها الملك ترجل عن جوارك هذه آية بعثها الله إلينا لم نسمع مثلها فى الأولين هذا جدى وهو تمليخا أحد الفتية الذين قبض الله أرواحهم وعلقت فى قناديل من نور تحت ساق العرش وهؤلاء الذين أنطق الله إليهم الكلب بالحق والإيمان وهؤلاء الذين هربوا بدينهم لإله السماء فى زمان دقيوس وقد رد الله أرواحهم فى أجسادهم وبعثهم إلينا آية فلما سمع الملك ذلك ترحل عن جواده وترجل الوزراء كلهم وبادر الملك إليه وعانقه وضمه إلى صدره وقبَّله بين عينيه وأقبل الناس كلهم يسلمون عليه ومَن كان على غير طهارة تطهر ومن كان على غير وضوء توضأ فلم يزالوا يسلمون عليه ويبكون حتى سلم عليه كل من كان فى المدينة وقال له الشيخ: يا تمليخا كم لك من خروجك من هذه المدينة؟ فقال له: يوم أو بعض يوم فقال له: لك والله ثلاثمائة سنة وتسع ثم قال له الشيخ: اجمع بيننا وبين أصحابك المؤمنين فعسى أن يدعوا لنا فخرج تمليخا والملك يتبعه والناس من وراء الملك ولما وصلوا إلى باب الكهف قال تمليخا: قفوا مكانكم فإن أصحابى يظنون أن الملك دقيوس حى فيفزعون فإنى أدخل عليهم وأبشرهم بعيسى بن مريم عليه السلام وهلاك الكافر دقيوس فتطمئن قلوبهم فيخرجون إليكم فوقفوا ودخل تمليخا على أصحابه فقال السلام عليكم.
فقالوا له: وعليك السلام يا حبيبنا أبطأت عنا وروعتنا.
فقال لهم: كم لبثتم فى كهفكم؟
قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.
قال: لبثتهم والله ثلاثمائة سنة وتسعا وقد مات الكافر دقيوس وبعث الله عيسى بن مريم عليه السلام بعده وآمن أهل المدينة بإله السماء وهؤلاء إخوانكم المؤمنون يريدون أن تخرجوا إليهم وتدعوا لهم أن لا يعذبهم الله بشئ من عذابه أتريدون الخروج؟
فقالوا له: يا تمليخا أشر لنا برأيك الجميل.
فقال: أتسمعون منى إن قلت لكم شيئاً؟
فقالوا: نعم لولا أنت ما عرفنا الله عز وجل.
فقال لهم: إنى خشيت أن تخرجوا إليهم فيقول بعضهم لبعض: هؤلاء الفتية ويشيرون إليكم بالأصابع، وهؤلاء المؤمنون، وهؤلاء الذين هربوا بدينهم، وهؤلاء الذين أنطق الله لهم الكلب، وهؤلاء الذين قبض الله أرواحهم فعلقت فى قناديل من نور أى أنامهم، وهؤلاء الذين أقاموا فى كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا فإذا سمعتم ذلك كله أدرككم العجب فإذا عجبتم بأنفسكم أحبط الله أعمالكم فبأى شئ تلقون الله عز وجل الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.
فقالوا له: صدقت والله يا حبيبنا يا تمليخا فما ترى من الرأى.
فقال لهم: يختار الله ما لا نختار لأنفسنا.
فقالوا له: يا حبيبنا ادع الله لنا أن يميتنا سرا كما عبدناه سرا ويدخلنا الجنة سرا وهو القادر على ما يشاء فسجدوا لله تعالى يدعون لله ويبكون والملائكة يؤمِّنون على دعائهم حتى قبل الله دعاءهم وقبض أرواحهم أى أنامهم بقدرته فلما طال الحال على الملك أراد الدخول عليهم فخرجت عليهم من الكهف ريح عاصف ففرقتهم.
وذكر فى عرائس القرآن أن أصحاب الكهف بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وأن قوما من أحبار اليهود قالوا لعمر: نسألك عن خصال إن أخبرتنا علمنا أن الإسلام حق وأن محمدا نبى.
فقال: سلوا.
فقالوا: ما أقفال السماوات ومفاتيحها، وقبر مشى، ومنار قومه ليس من الثقلين، وخمسة أحياء فى الأرض لم يكونوا فى الأرحام، وما يقول الديك والفرس والضفدع والحمر والقمبر؟
فنكس عمر رأسه فقال: لا عيب بعمر إذ سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم.
فوثبوا فقالوا: نشهد أن الإسلام باطل ومحمدا غير نبى.
فقال سلمان: قفوا قليلا وتوجه إلى علىٍّ: أنت لكل معضلة أغث الإسلام.
قال: وما ذاك. فأَخبره فأقبل يرفل فى بردة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقه عمر فقال: أنت لكل معضلة وشدة.
فقال علىّ لليهود: سلوا فإن النبى صلى الله عليه وسلم علمنى أَلف باب من العلم فأخبركم بشرط أن تؤمنوا.
فقالوا: نعم فسألوه عن ذلك فقال: أقفال السماوات الشرك لأن العبد لا يقبل عنه معه عمل ومفاتيحها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقبر الماشى حوت يونس مشى به سبعة أبحر، ومنذر قومه من غير الثقلين نملة سليمان قالت: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم، والخمسة الذين لم يكونوا فى الرحم: آدم وحواء وناقة صالح وكبش إسماعيل وعصى موسى عليهم السلام. ويقول الدراج فى صياحه: الرحمن على العرش استوى، والديك: اذكروا الله يا غافلين والفرس: انصر عبادك المؤمنين على الكافرين، والحمر: لعن الله العشار، والضفدع: سبحان ربى المعبود المسبَّح فى لجج البحار، والقمبر: اللهم العن مبغض محمد وآل محمد.
فقال اثنان: نشهد أن لا إله إلا الله وأَن محمدا عبده ورسوله.
وقال الثالث: بقيت لى خصلة هى قوم ماتوا ثلاثمائة سنة وتسعا ثم أحياهم الله.
فقال علىّ: هم أصحاب الكهف وقد أنزل الله تعالى قرآنا فيهم فإن شئت قرأتها عليك.
فقال: ما أكثر ما سمعت قرآنكم إن كنت عالما بهم فأخبرنى عن أسمائهم وأسماء آبائهم ومدينتهم وملكهم وكلبهم وجبلهم وكهفهم وأحوالهم.
فقال: حدثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان بأرض رومة مدينة يقال لها: أفسوس ويقال لها فى الإسلام: طرسوس ملكها صالح فمات وانتشر أمرهم فسمع بهم ملك من ملوك فارس يقال له: دقيانوس جبار كافر فأقبل بعسكره حتى اتخذها دار مملكته وبنى فيها قصرا.
فقال: صِفْه لى.
فقال: فرسخ طولا وفرسخ عرضا من الرخام فيه أربعة آلاف أسطوانة من الذهب وألف قنديل من الذهب بسلاسل فضة وسرير طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون مرصع بالجوهر وعن يمين السرير ثمانون كرسيا من الذهب يجلس عليها بطارقته وعن شماله مثلها يجلس عليها قضاته وهراقلته ويجلس على السرير ويضع التاج على رأسه.
قال اليهودى: مم كان تاجه؟
قال: من الذهب له سبعة أركان على كل ركن لؤلؤة تضىء كما يضىء المصباح فى الليلة الظلماء واتخذ خمسين غلاما من أبناء البطارقة فمنطقهم بمناطق الديباج الأحمر ولهم سراويلات من القز الأحمر وتوّجهم ودملجهم وأعطاهم أعمدة الذهب وأقامهم على رأسه واصطنع ستة غلمان من أولاد البطارقة فاتخذهم وزراء فما يقطع أمراً دونهم وأقام ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره.
فقال: أخبرنى عن الثلاثة عن يمينه والثلاثة عن يساره فأخبره كما مر فى الآية. وإذا جلس فى صحن داره واجتمع الناس عنده دخل ثلاثة أعلمة فى يدى أحدهم جام من الذهب مملوء مسكا وفى يد الآخر جام من الفضة مملوء من ماء الورد وعلى يد الثالث طائر فيقع فى جام الورد فيتمرغ فيه فيحمل ما فى الجام بريشه ثم يصيح به الثالث ثلاث مرات فيطير فيقع فى جام المسك فيتمرغ فيه فيحمل ما فيه فيطير فيقع على تاج الملك فينفض ريشه عليه فمكث لذلك كذلك ثلاثين سنة من غير أن يصيبه صداع ولا وجع ولا حمى ولا لعاب ولا مخاط فأعجب بنفسه وماله فطغى وتجبر وادعى الربوبية ودعا وجوه قومه. فمن أجابه أعطاه وخلع عليه ومن لم يتابعه قتله وأقام يُعبد من دون الله وبينما هو على سريره والتاج على رأسه جاءه بعض بطارقته فأخبره أن عساكر الفرس غشيته فاغتم حتى سقط عن السرير وسقط التاج عن رأسه فتفكَّر تمليخا أن دقيوس لو كان إلها لما حزن ولما كان ينام ويتغوط وكان الفتية الستة يلبثون كل يوم عند أحدهم وكان يوم تمليخا فأكلوا وشربوا إلا تمليخا فقالوا: مالك؟
فقال: يا إخوتى وقع فى قلبى ما منع عن ذلك وعن النوم.
قالوا: ما هو؟
قال: تفكرت مَن رفع السماء سقفاً محفوظا بلا علاّقة ولا دعامة وأجرى شمسها وقمرها وزيَّنها بالنجوم وبسط الأرض وربطها بالجبال ومن أخرجنى من البطن جنينا وغذانى وربانى فعلمت أن فاعل ذلك غير دقيوس.
فقبَّلوا رجليه وقالوا: يا تمليخا قد وقع فى قلوبنا ما وقع فى قلبك فأشر علينا.
فقال: يا إخوتى ما أجد حيلة إلا الهرب إلى تلك السماء والأرض.
فقالوا: نعم. فباع ثمرا من جنان بثلاثة دراهم فصرَّها وركبوا خيلهم ولما صاروا إلى ثلاثة أميال من المدينة قال لهم: يا إخوتاه ذهب ملك الدنيا فامشوا على أرجلكم لعل الله يجعل لكم مخرجا فتركوا خيلهم ومشوا سبعة فراسخ فكانت أرجلهم تقطر دما لأنهم لا يعتادون ذلك فاستقبهلم راع فقالوا: يا راعى أعندك شربة من ماء ولبن؟
فقال: عندى ما تحبون ولكنى أرى وجوهكم وجوه الملوك وما أظنكم إلا هربتم فأخبرونى بقصتكم فقالوا: دخلنا فى دين لا يحل فيه الكذب فينجينا الصدق فأخبروه فقبّل أرجلهم وقال: وقع فى قلبى ما وقع فى قلوبكم فقفوا أرد الغنم لأهلها فوقفوا لعله يردها لأهلها فردها فرجع يسعى وتبعهم كلبه.
قال اليهودى: ما كان لون الكلب؟
قال: حدثنى حبيبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أبلق بسواد وأن اسمه قطمير.
فنظروا الى الكلب فقال بعضهم: نخاف أن يفضحنا بنباحه فطردوه بالحجارة فأقعى وقال: يا قوم لم تطردوننى وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له دعونى أحرسكم من عدوكم وأتقرب إلى الله بذلك فتركوه ومضوا وصعد الراعى جبلا وانحط بهم على كهف.
فقال اليهودى: ما اسم الجبل؟
قال: سحلوس، واسم الكهف: الكثير. وقيل: حرم وإذا بفِناء الكهف أشجار مثمرة وعين ماء فأكلوا من الثمار وشربوا من الماء وجنَّهم الليل فأووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومد يده عليه وأمر ملك الموت بقبض أرواحهم ووكل بكل واحد ملكين يقلبانه من ذات اليمين إلى ذات الشمال ومن ذات الشمال إلى ذات اليمين.
وذلك الهروب كان ودقيوس فى عيده ولما رجع من عيده سأل عن الفتية فقيل: اتخذوا إلها غيرك وهربوا منك فركب فى ثمانين ألف فارس يقْفون أثرهم حتى وقف عليهم فى الغار فقال لأصحابه: لو أردت أن أعذبهم ما عذبتهم بأكثر مما عذبوا به أنفسهم فائتونى بالبنائين فردم عليهم باب الكهف بالرصاص والحجارة وقال لأصحابه: قولوا لهم أن يقولوا لإلههم الذى فى السماء أَن يخرجهم إن كانوا صادقين ورد الله أرواحهم على تمام ثلاثمائة وتسع وقد بقى للشمس قليل أن تغيب فقالوا: لقد غفلنا فى هذه الليلة عن عبادة الله قوموا إلى الماء فإن العين غارت والأحجار تيبست فأرادوا الطعام بالورِق من المدينة.
فقال تمليخا: لا يأتيكم به غيرى فأبدل ثيابه بثياب الراعى وأخذ عصى الراعى فى بده وأَنكر الطرق ووجد بباب المدينة: لا إله إلا الله عيسى روح الله فطفق ينظر ويمسح عينيه ويقول: أرانى نائما ودخل المدينة ومر بأقوام يقرأون الإنجيل فاستقبله أقوام لا يعرفهم ودخل السوق فقال لخباز: ما اسم مدينتكم؟
فقال: أفسوس.
فقال: ما اسم ملككم؟
قال: عبد الرحمن.
قال: إن صدقت ففى أمرى عجب ادفع لى بهذه الدراهم طعاما فعجب الخباز منها.
قال اليهودى: يا علىّ كم وزن كل منها؟
قال: حدثنى حبيبى محمد صلى الله عليه وسلم أن وزن كل درهم منها عشرة دراهم وثلثا درهم.
فقال الخباز: أصبت كنزا فأعطنا نصفه وإلا ذهبت بك إلى ذلك.
فقال: ما أصبت كنزا إنما ذلك من ثمن تمر بعته بثلاثة دراهم منذ ثلاثة أيام وقد خرجت من هذه المدينة وأهلها يعبدون دقيانوس الملك.
فغضب الخباز وقال: ألا ترضى أنك أصبت كنزا ولا تعطنا بعضه حتى تذكر رجلا جبارا يدعى الربوبية قد مات منذ ثلاث مائة سنة أتسخر بى فلببه واجتمع الناس عليه فأتى به إلى الملك وكان عاقلا عادلا فقال: ماله؟
قال: أصاب كنزا.
فقال الملك: لا تخف فإن نبينا عيسى عليه السلام أمرنا أن لا نأخذ من الكنوز إلا خمسا فادفع إلينا خمس هذا الكنز وامض سالماً.
فقال: أيها الملك تثبَّت فى أمرى ما أصبت كنزا وأنا من أهل هذه المدينة.
قال: أنت من أهلها؟
قال: نعم.
قال: أفتعرف فيها أحدا؟
قال: نعم.
قال: سم فسمى له نحوا من ألف رجل فلم يعرفوا منهم رجلا واحدا.
قالوا: يا هذا ما نعرف هذه الأسماء وليست أسماء أهل زماننا هل لك فى هذه المدينة دار؟
قال: نعم أيها الملك ابعث معى فبعث معه فذهب والناس معه حتى أتى بهم إلى أرفع دار فى المدينة فقال: هذه دارى فقرع الباب فخرج شيخ هرم استرخى حاجباه من الكبر فزعا مرعوبا وقال: ما لكم؟
فقال رسول الملك: إن هذا الفتى يزعم أن هذه الدار داره فغضب الشيخ والتفت إلى تمليخا وقال: ما اسمك؟
قال: اسمى تمليخا بن فسطين.
قال: أعِدْ علىَّ فأعاد عليه فانكب عَلَى رجليه ويديه يقبلهن وقال: هذا جدى ورب المسيح وهو أحد الفتية الذين هربوا من دقيانوس الملك إلى ملك السماوات والأرض ولقد أخبرنا عيسى بقصتهم وأنهم سيحيون.
فانتهى إلى ذلك الملك فركب وحضر فنزل وحمل تمليخا على عاتقة وجعل الناس يقبلون يديه ورجليه وقالوا: ما فعل أصحابك؟
فأَخبر أنهم فى الكهف وكانت المدينة قد وليها رجلان: مسلم وكافر نصرانى فركبا فى أصحابهما فلما صارا قريبا من الكهف قال لهم: يا قوم إنى أخاف أن يحس أصحابى وقع حوافر الخيل وصلصلة اللُّجُم والسلاح فيظنوا أن دقيانوس قد غشيهم قفوا قليلا حتى أدخل عليهم فأخبرهم فوقفوا ودخل فاعتنقوه وقالوا: الحمد لله الذى نجاك من دقيانوس.
فقال: دعونى من دقيانوس كم لبثتم؟
قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.
قال: بل لبثتم ثلاثمائة وتسعاً وقد مات دقيانوس، وانقرض قرن بعد قرن، وآمن أهل المدينة وقد جاءوكم.
فقالوا: تمليخا أتريد أن تصيرنا فتنة للعالمين.
قال: فما تريدون؟
قالوا: ترفع يديك ونرفع أيدينا فرفعوا. وقالوا: اللهم بحق ما أوتينا من العجائب فى أنفسنا إلا ما قبضت أرواحنا ولم يطلع علينا أحد فأمر الله ملك الموت بقبض أرواحهم يعنى روح اليقظة، وطمس باب الكهف فأقبل الملكان يطوفان حول الكهف سبعة أيام لا يجدان بابا ولا منفذا ولا مسلكا فأيقنا بصنع الله الكريم، وأن حالهم عبرة أرانا الله إياها.
قال على: هذا ما كان من قصتهم يا يهودى سألتك بالله العظيم أيوافق ما فى قوراتكم؟
قال: ما زدت حرفا ولا نقصت حرفا يا أبا الحسن لا تسمنى يهوديا فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت عالم هذه الأمة.
وعن عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا، مطوقين مسورين ذوى ذوائب وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا فى عيد لهم عظيم فى زى ومركب، وأخرجوا آلهتهم معهم. وقذف الله تعالى فى قلوبهم الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانهم فجلس واحد منهم تحت شجرة فجاءه آخر ثم جاءوا واحدا بعد واحد. فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم؟ وقال آخرون: بل ما جمعكم؟ ثم قالوا: ليخرج لك فتيين فبخلوا ثم يفشى كل منكما إلى صاحبه أمره فترافقا. ثم تكلما فذكر كل منهما أمره لصاحبه فأقبلا مستبشرين إلى صاحبهما فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد فإذا هم جميعا على الإيمان وإذ الكهف من الجبل قريب فقال بعضهم: { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا } الآية. فدخلوه بكلبهم فناموا ثلاث مائة سنة وتسعا ففقدهم قومهم فطلبوهم فأَعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم فلم يقدروا فكتبوا أسماءهم وأنسابهم فى لوح وأنهم فقدموا شهر كذا سنة كذا فى مملكة فلان ووضعوا اللوح فى خزانة الملك وقالوا: قد يكون لهم شأن.
وعن جعفر الباقر كان: أصحاب الكهف صيارفة.
وعن وهب بن منبه: جاء حوارى من أصحاب عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها فأتى حماما قريبا منها فكان يعمل لصاحبه بالأجره فرأى صاحبه البركة فأخبره بأمر الله وتبعه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدقوه وكانوا على هيئته واشترط على صاحب الحمام أنه لا يعمل فى الليل بل يصلى وأنى ابن الملك بامرأة فدخل الحمام فعيره الحوارى وقال: أنت ابن الملك وتدخل الحمام بهذه المرأة فاستحيى فذهب ورجع مرة أخرى وقال له مثل ذلك فسبه ونهره ولم يلتفت إليه حتى دخلا معاً فماتا فقالوا: إن صاحب الحمام قتل ابنك فالتمسه فلم يقدر عليه فسأل عمن يصحبه فدخل له الفتية فالتمسهم وخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم فى زرع وهو على إيمانهم فذكروا لهم أنهم التمسوا فانطلق معهم كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا فقالوا: نبيت فيه الليلة فضرب الله تعالى على آذانهم فخرج الملك وأصحابه يتبعونهم حتى وصلوا إلى الكهف فكل من أراد الدخول رعب فلم يطق فقال قائل: ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟
قال: بلا.
قال: فابن عليهم الكهف واتركهم فيه فيموتوا عطشاً وجوعاً ففعل ذلك ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحته وأدخلت غنمى فيه من المطر فعالجه حتى فتحه ورد الله سبحانه وتعالى أرواحهم من الغداة حين أصبحوا.
وذكر ابن إسحاق أنه لما عظمت خطايا أهل الإنجيل طغت الملوك وعبدوا الأصنام وذبحوا لها وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعادة الله وتوحيده تعالى وكان من ملوك الروم ملك يسمى دقيانوس عبد الأصنام وذبح لها وقتل من خالفه وينزل فى قرى الروم فلا يترك فى قرية نزلها أَحداً إلا فتنه فى دينه حتى يعبد الأصنام أو يقتله.
ونزل أفسوس واستخفى منه أهل الإيمان وهربوا فى كل جهة فاتخذ شُرَطاً من الكفار يتبعونهم فيحضرونهم إلى دقيانوس يخيرهم بين الشرك والقتل فمنهم من يتبعه على عباده الأصنام ومنهم من يقتل ويقطع ويجعل قطعه على سور المدينة وأبوابها فقام ثمانية نفر واشتغلوا بالصوم والصلاة والصدقة والتسبيح والدعاء وكانوا من أشراف الروم وبكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل وجعلوا يقولون: ربنا رب السماوات والأرض لن ندعُوَا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة.
فدخل عليهم الشُّرَط سجداً باكين متضرعين إلى الله عز وجل فقالوا: ما خلَّفكم عن أمر الملك؟ فأخبروا الملك فبعث إليهم فأوتى بهم تفيض أعينهم مغفرة وجوههم فخيرهم أن يذبحوا للأصنام أو يقتلوا فقال مكسلمينا وهو أكبرهم سنا: إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمة لن ندعو من دونه إلهاً أبداً له التحميد والتكبير من أنفسنا خالصة أبداً إياه نعبد وإياه نسأَل النجاة والخير فاصنع ما بدا لك وقال أصحابه كذلك.
فأمر بنزع ثيابهم وحليّهم من ذهب وفضة وقال: سأفرغ لكم وأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة وما يمنعنى أَن أعجل ذلك إلا أنى أراكم شباناً فعجلت لكم لعلكم تذكرون وترجعون إلى عقولكم فأخرجهم من عنده وانطلق دقيانوس إلى مدينة قريبة لأمر فتشاوروا واتفقوا أن يأخذوا من بيوت آبائهم ويتصدقوا ويتزودوا ويبادروا الخروج فانطلقوا إلى كهف قريب من المدينة فى جبل يقال له بنجلوس يعبدون الله فيه حتى إذا رجع دقيانوس أتوه ليفعل ما بدا له ففعلوا وتبعهم كلب كان لهم. قال كعب: مروا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً فقال لهم الكلب: ما تريدون منى لا تخشوا منى أنا أُحب أحباب الله عز وجل فناموا أحرسكم.
والذى عن ابن عباس: أنهم هربوا من دقيانوس وتبعهم كلب الراعى كما مر وأنهم سبعة. قال ابن إسحاق: فلبثوا فيه مشتغلين بالصلاة والصيام والتسبيح والتحميد ابتغاء وجه الله تعالى فجعلوا تمليخا يبتاع لهم من المدينة أرزاقهم سرًّا وكان أجملهم وأبلدهم إذا رأوا دخول المدينة لبس ثيابا رثة كثياب المساكين فيشترى طعاما وشرابا ويتحسس لهم الأخبار ثم رجع دقيانوس للمدينة وأمر عظماء أهلها أن يذبحوا للطواغيت ففزع من ذلك أهل الإيمان وتمليخا فى المدينة يشترى الطعام فرجع بطعام قليل يبكى وقال لهم: إن الجبار قد دخل المدينة وأنهم قد ذكروا ففزعوا وقاموا يدعون الله ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة.
فقال لهم تمليخا: يا إخوتاه ارفعوا رءوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم فرفعوا رءوسهم وأعينهم تفيض وذلك عند الغروب ثم جلسوا يتحدثون ويذكر بعضهم بعضاً فضرب الله على آذانهم فى الكهف وعلى أذنى كلبهم فى الوصيد ونفقتهم عند رءوسهم.
ففقدهم دقيانوس من الغد فلم يجدهم فقال لبعض عظماء المدينة: لقد ساءنى شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد ظنوا أنّ بى غضباً عليهم لجهلهم أمرى ما كنت لأجهل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتى.
فقال عظماء المدينة: ما كنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة قد أجلت لهم أجلا ولو شاءوا لرجعوا لكن لم يتوبوا فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فقال: أخبرونى عن أبنائكم المردة الذين عصونى.
فقالوا: أما نحن فلم نعصك فِلمَ تقتلنا بقوم مردة إنهم ذهبوا بأموالنا فأهلكوها فى أسواق المدينة ثم انطلقوا إلى جبل يدعى بنجلوس فخلى سبيلهم فتحيَّر. ثم أمر بسد الكهف عليهم ليموتوا جوعا وعطشا ويكون الكهف الذى اختاروه قبراً لهم بظنهم أيقاظا يعلمون ما يصنع بهم ثم إن مؤمنين فى بيت الملك يكتمان إيمانهما: بيدروس ودوناس كتبا أسماءهم وأنسابهم وأخبارهم فى لوحين من رصاص وجعلاه فى تابوت من نحاس وجعلا التابوت فى البنيان لعل الله يفتح عليهم قبل يوم القيامة فيعلم الناس خبرهم.
وتعاقبت ملوك وملك رجل صالح يقال له: تندرليس ثمانيا وستين سنة فتحزب الناس فى ملكه فكانوا أحزابا مكذبا بالبعث ومصدقا به فكبُر ذلك عليه وتضرع إلى الله لما رأى أهل الباطل يظهرون على أهل الحق ويقولون: إنما تبعث الأرواح فأرسل إلى من يظن بهم خيراً وأنهم أئمة الخلق فكذبوا فأدخل بيته وأغلق بابه ولبس مِسحا وجعل تحته رماداً فجلس عليه فغاب ليله ونهاره يتضرع إلى الله تعالى ويبكى ويقول: ربى قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبيِّن لهم.
ثم إن الله الرحمن الرحيم أراد إظهار الآية لعباده فأَلقى فى نفسه اليأْس أن يهدم البنيان الذى على فم الكهف ويبنى به حظيرة لغنمه واستأْجر غلامين فنزعا الحجارة وبنيا الحظيرة وفتحا باب الكهف وأحيا الله الفتية فجلسوا فرحين مستبشرة وجوههم طيبة أنفسهم مسلما بعضهم على بعض كأنهم استيقظوا من ساعتهم التى يستيقظون منها إذا أصبحوا من ليلتهم ثم قاموا إلى الصلاة فصلوا كعادتهم ولا يُرَى فى وجوههم ولا ألوانهم شئ ينكرونه ويرون أن دقيانوس فى طلبهم فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: ما قال الناس فينا أمس عند الجبار؟
فقال: قد التمستم لتذبحوا للطواغيت.
فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقو الله فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدو الله ثم قالوا لتمليخا: انطلق إلى المدينة لتسمع ما يقال لنا بها وابتع لنا طعاما أكثر من طعام أمس فقد أصبحنا جياعا.
فانطلق تمليخا بورِقهم لابسا ثياب الراعى فمر بباب الكهف: ووجد بناء على باب الكهف منهدما فعجب ثم مر ولم يبال حتى وصل إلى باب المدينة مستخفيا عن أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيظن أن دقيانوس حى ورأى على الباب لا إله إلا الله عيسى روح الله وجعل ينظر إليه مستخفيا يمينا وشمالا ومضى إلى باب آخر فرأى مثل ذلك فخيل إليه أن المدينة ليست أفسوس ولا يرى إلا من لا يعرف ويخيل إليه أنه حيران.
ثم رجع إلى الباب الذى أتى منه فجعل يتعجب بينه وبين نفسه ويقول: يا ليت شعرى ما هذا عشية أمس كأن المسلمين يخفون هذه الملامة لعلى نائم فجعل كساءه على رأسه ومشى فى أسواقها وسمع الناس يحلفون بعيسى بن مريم فزاد تحيّراً كيف يظهر ذكر عيسى وكان بالأمس يخفى فقال: لعلها ليست أفسوس فلقى فتى فقال له: ما اسم هذه المدينة؟
فقال: أفسوس.
فقال: لعل بى جنونا والله يحق لى أن أسرع الخروج قبل أن يصيبنى فيها شر فدنا إلى الذين يبيعون الطعام فقال لواحد: بع لى طعاما بهذه الورِق فأخذها فعجب منها فناولها الآخر فجعلوا يتطارحونها من رجل لآخر متعجبين وقال بعضهم لبعض: أصاب كنزاً قديماً فرعد خوفا وظن أنهم قد فطنوا به وأنهم يريدون أن يذهبوا به إلى الملك دقيانوس واجتمعوا يتعارفونه فقال: انفصلوا عنى أمسكتم ورِقى لا حاجة لى بطعامكم.
فقالوا: مَن أنت لقد وجدت كنزاً للأولين شاركنا فيه وإلا سلمناك للسلطان يقتلك.
فقال: والله لقد وقعت فى كل شئ كنت أحذر منه.
فقالوا له: والله لا تستطيع أن تكتم ما وجدت ولا يدرى ما يقول فطرحوا كساءه فى عنقه وسحبوه فى سكك المدينة حتى سمع مَن فيها وكل من رآه قال: لا أعرفه فى المدينة وهو معتقد أن أباه وإخوته فى المدينة يسبقونه إذا سمعوا به وكانوا من عظماء المدينة.
فبينما هو قائم كالحيران منتظر لهم جروه لملكى المدينة رجلين صالحين: أريوس وأطيوس وظن أنه مجرور إلى دقيانوس فكان يلتفت يميناً وشمالا ويبكى ويسخرون منه كالمجنون. ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إله السماء وإله الأرض أفرغ علىَّ اليوم صبراً وأولج معى روحاً منك تؤيدنى بها عند هذا الجبار وإنا كنا قد توثقنا على الإيمان بالله ولا نشرك به شيئاً ولا نفترق فى حياة ولا موت فلما انتهى إليهما ولا يرى دقيانوس سكن وأخذا الورِق وعجبا منها فقالا: أين الكنز الذى وجدت يا فتى؟
فقال: ما وجدت كنزا ولكنه ورِق أبى ونقش هذه المدينة ولكن والله ما أدرى ما شأْنى.
فقال له أحدهما: مَنْ أنت؟
فقال: أنا، أنا.
فقال أحدهما: أنت كذاب لا تخبرنا بالحق فنكس رأسه للأرض.
فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون.
وقال بعض: يحمق نفسه عمداً لينقلب منكم فنظر إليه أحدهما نظراً شديداً: أتظن أنّا نرسلك ونصدقك بأَن هذا مالك أبيك ونقش هذه المدينة وضربها وله أكثر من ثلاث مائة سنة وأنت غلام شاب أتظن أنك تأفكنا وتسخر منا ونحن شيوخ شُمْط وحولك سراة المدينة وولاتها وخزائنها بأَيدينا وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار نوثقك حتى تعترف.
فقال لهم: أخبرونى عما أسأَلكم عنه فإن فعلتم صدقتكم ما عندى.
فقالوا: اسأَل لا نكتمك شيئاً.
فقال: ما فعل بالملك دقيانوس؟
فقالوا: لا نعرف على الأرض دقيانوس هو ملك هلك فى الزمان الأول وله زمان طويل فهلك بعده قرون.
فقال: إنى لحيران وما يصدقنى أحد من الناس لقد كنا فتية أكرهَنا الملك على عبادة الأصنام والذبح لها فهربنا عشية أمس فأتينا الكهف الذى فى جبل بنجلوس فبتنا فيه فلما انتبهنا خرجت لأشترى طعاما لأصحابى وأتحسس الأخبار، فانطلقوا إلى الكهف هناك أصحابى.
فلما سمع أريوس قال: لعل هذه آية من آيات الله لكم على يد هذا الفتى فانطلقوا بنا معه حتى يرينا أَصحابه فانطلق أريوس وأطيوس وأهل المدينة صغيرا وكبيرا إلى الكهف؛ فظن أصحابه أنه ذهبوا به إلى دقيانوس لبطئه عنهم عن العادة فهم يتوقعون فسمعوا أصوات الحوافر والصلصلة على الخيل فظنوا أن ذلك رسل دقيانوس فقاموا إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض وتواصوا وقالوا: انطلقوا إلى تمليخا فإنه الآن بين يدى دقيانوس ينتظرنا فإذا أريوس وأصحابه بباب الكهف فدخل تمليخا يبكى فبكوا فسألوه فقص عليهم الخبر فعرفوا أنهم كانوا نياما ذلك الزمان الطويل أيقظهم الله ليكونوا الآية على قيام الساعة والبعث فدخل أريوس فرأى تابوت نحاس مختوماً بخاتم فضة ودعا جماعة من عظماء المدينة وأمر بفتحه فوجد لوحين من رصاص مكتوباً فيهما: مكسلمينا ومحسلمينا وتمليخا وأرطوس وكمطونس وبيرونس ودبيونس ومطيونس.
وروى أن أسماءهم: أمليخا ومشليتا وموبرا وأبوس وفواس ومرطيوش وفطلطايش كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس بدينهم إلى هذا الكهف فسده عليهم وكتبنا شأنهم ليعلمه من يفف عليه فعجبوا وحمدوا الله أن أراهم آية تدل عن البعث ورفعوا صوتهم بالتسبيح والتحميد فدخلوا الكهف فوجدوهم جلوساً مشرقة وجوههم لم تبْل ثيابهم فخروا سجدا وأخبرهم الفتية عما لقوا من الملك دقيانوس.
فبعث أريوس وأصحابه إلى الملك تندروليس: أن أعْجِلْ لترى آية من آيات الله تدل على صدق البعث، فتية ماتوا منذ ثلاث مائة وأكثر بعثهم الله سبحانه فذهب همه فقال: أحمدك اللهم رب السماوات والأرض وأعبدك وأسبح لك تطولت علىَّ ورحمتنى ولم تطفئ النور الذى جعلت لآبائى فركب وركب معه مَن فى المدينة حتى أتوا مدينة أفسوس فسار معه أهلها نحو الكهف فلما رأى تندروليس ومَن معه عانقهم وبكى وهم جلوس يسبحون الله تعالى ويحمدونه ثم قال الفتية لتندروليس: نستودعك الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته حفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شر الجن والإنس.
فبينما الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا فقام فجعل ثيابهم عليهم وجعل كلا منهم فى تابوت ذهب فلما أمسى ونام أتوه فى منامه فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا من فضة بل من تراب وإليه نصير فاتركنا على الأرض كما كنا. ففعل. وقيل: جعلهم بعد هذا فى تابوت من ساج وحجبهم الله بالرعب بعد ذلك فلا يقدر أحد أن يدخل عليهم وأمر أن يُتخذ على باب الكهف مسجد يصلى فيه وجعل لهم عيدا عظيما يؤتى فى كل سنة.
وقيل: لما حملوا تمليخا إلى الملك قال له: مَن أنت؟
قال: رجل من هذه المدينة خرجنا منها منذ أيام وذكر منزله وأناساً لا يعرفهم وقد سمع الملك بفتية ذهبوا فى الزمان الأول وأسماؤهم مكتوبة فى لوح فى خزانته فدعا به فنظر فقال: ما اسمك؟
قال: تمليخا فوجده مكتوباً فذكر له أسماء الباقين فقال: هم أصحابى فركب ومَن معه إلى الكهف فقال: دعنى حتى أدخل على أصحابى وأبشرهم فلا يخافوا فدخل فبشرهم فأَنامه الله وأنامهم وأعمى أثرهم عن الملك وأصحابه فلم يهتدوا إليهم والله أعلم.
وقال جماعة من قومنا: إن النبى صلى الله عليه وسلم سأَل ربه أن يريه أصحاب الكهف فقال الله تعالى: إنك لن تراهم فى الدنيا ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أبعث إليهم؟
فقال: ابسط كساءك وأجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الثانى عمر وعلى الثالث عليا وعلى الرابع أبا ذر ثم ادع الرُّخاء المسخرة لسليمان بن داود عليهما السلام فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك ففعل النبى صلى الله عليه وسلم ما أمر به فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجر فقام الكلب فنبح عليهم حين أبصر الضوء وهش وحمل عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنَبه وأومأَ برأسه ادخلوا الكهف فدخلوا فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد الله عليهم أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا: وعليكم السلام وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض وعليكم بما بلغتم وجلسوا يتحدثون وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دينه وقالوا: أقرئوا محمداً منا السلام وحمدوا الله على بعثه محمدا صلى الله عليه وسلم وتوجهه محمد رسله إليهم ثم جلس كل منهم على مكانه فى الثوب وحملتهم الريح. فهبط جبريل فأخبره بما قالوا كله. فلما أوصلتهم الريح إليه صلى الله عليه وسلم أخبروا بما قال أصحاب الكهف وما قالوا لهم كله على وفق جبريل بعد سؤاله صلى الله عليه وسلم إياهم عن ذلك.
ولما قضى الكلام بينهم وبين أصحاب الكهف اضطجعوا فقبض الله أَرواحهم وذكروا ذلك له صلى الله عليه وسلم وكذا جبريل وسيحييهم الله للمهدى فيسلم عليهم فيجيبونه ويرجعون موتى. وقيل: يحيون فى زمان المهدى وعيسى ويخرجون أربعين سنة ويحجون مع لأنهم لم يحجوا. ولما اشتعل القرآن على ذكر معيبات تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم معجزات وكانوا يقولون: ائت بقرآن غير هذا أو بدِّله أمره الله عز وجل بقوله: { وَاتْلُ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } أى اقرأ القرآن ودم على قراءته فإنه معجز لا يطاق ولا تستمع لقولهم: ائت بقرآن غير هذا أو بدله.
{ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } لا قادر على تبديلها إلا الله تعالى فإنه إن شاء نسخ آية ببدل أو بلا بدل. وقيل: معنى لا مبدل لكلماته لا مبدل لوعيده للكفار أى مبدل له بخير أو بدون شئ.
{ ولَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } موضع ميل أى موضعا تلتجئ إليه عن الله إن هممت بالالتجاء والميل إلى غيره وعن حكمه ولا مانع لك من عقابه والهاء لله أو لن تجد من دون القرآن حرزا عن عذاب الله وكيد أعدائك من الإنس والجن والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد غيره أو لكل من يصلح للخطاب.