التفاسير

< >
عرض

فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ٱسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً
٧٧
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيةٍ } قيل: أنطاكية وهو قول ابن عباس. وقال ابن سيرين. أبلة بصرة بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام وهى أبعد الأرض من السماء. وقيل: قرية من قرى الروم ويقال لها: ناصرة وإليها تنسب النصارى. وقيل: بجوار أرمينية. وقيل: قرية فى الأندلس.
{ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } طلبا منهم الطعام ضيافة. ومقتضى الظاهر أن يقال: استطعماهم برد الضمير إلى أهل القرية فوضع الظاهر موضع المضمر إن قلنا: إن الجملة جواب إذا وإن قلنا فى الجواب هو قال من قوله قال: لو شئت لاتخذت عليه أجرا وأن هذه الجملة نعت قرية لم يكن من وضع الظاهر موضع المضمر.
قال ابن هشام: ومن النوع الأول وهو وقوع الجملة صفة للنكرة بدون أن تصلح حالا لوقوعها بعد النكرة المحضة حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها وإنما أعيد ذكر الأهل لأنه لو قيل: استطعماهم مع أن المراد وصف القرية لأن الحديث مسوق فيها ألا ترى فوجدا فيها جداراً لزم خلو الصفة من ضمير الموصوف ولو قيل: استعطماها كان مجازاً لأن القرية لا تستطعم حقيقة ولهذا كان هذا الوجه أولى من أن تقدر الجملة جوابا لإذا لأن تكرار الظاهر يعرى حينئذ عن هذا المعنى وأيضا فلأن الجواب فى قصة الغلام هو قوله: قال لا قوله: فقتله لأن الماضى المقرون بالفاء لا يكون جوابا فليكن قال أيضا فى هذه جوابا لأنهما سيقتا مساقا واحدا انتهى بإيضاح وسبقه إلى ذلك ابن الحاجب.
فتحصَّل أن علة تكرار الأهل كون الجملة نعتا والجواب هو قال كما كان قال هو الجواب فى نظير فلو أضمر للأهل فقيل: استطعماهم لم يوجد رابط إذ لا يضاف ضمير لضمير ولو كان جائزا لجاز أن يضمر للأهل ويضاف ضميرهم لضمير القرية.
وقد يقال: يصح أن يقال استطعماهم ويحصل الرابط لأن قولك هم يعود إلى الأهل بقيد كونهم أهل القرية كما حصل الربط بنون الإناث فى قوله تعالى:
{ { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربص } وهى نون يتربصن لأنها ولو عادت إلى النساء لكن لا مطلقا بل بقيد كونهن نساء الذين يتوفون إلا أن يقال بأن ذلك لا يحصل الربط بالموصوف ولو حصله بالمبتدأ وهذه الآية فى المبتدأ وآية الكهف فى الموصوف.
وتحصَّل أنهُ لو قيل: استطعماها لكان مجازا وهو فرع الحقيقة إنما يعدل إليه لكنه فلا يقال: إن القرآن مشحون بالمجاز وإنه أبلغ من الحقيقة بإطباق البلغاء لأنه لا نكتة لذلك المجاز هنا ولأنه على كل حال خلاف للأصل ولأنه قال أولا: أتيا أهل قرية فبنى الكلام على الحقيقة إذ لم يقل: أتينا قرية فالتجوز بقولك استطعماها بعد من الرجوع إذاً لشئ بعد الانصراف عنه.
وكتب الصلاح الصفدى إلى السبكى أبياتا يسأله عن هذه الآية هكذا:

أسيدنا قاضى القضاة ومن إذا بدا وجهه استحيىَ له القمران
ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان
ومن أن إذا جدت فى المشكلات مسائل جلاها بفكر دائم اللمعان
رأيت كتاب الله أكبر معجز لأفضل من يهدى بها الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معان
ولكننى بالكهف أبصرت آية به الفكر فى طول الزمان عيان
وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعامهم مثله ببيان
فما الحكمة الغراء فى وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان
فأرشد على عادات فضلك حيرتى فمالى بها عند البيان يدان

فأجاب بما حاصله أن الجملة صفة. فلو قيل: استطعماهم لم يحصل ربط والمعنى: وإنما هى على كونها وصفا للقرية ألا ترى قوله فوجدا فيها جدارا ولم يقل عندهم وأن الجدار الذى قصد إصلاحه وحفظ ما تحته من قرية مذمومة مذموم أهلها لا صفة للأهل لأنها تصير العناية إلى شرح قال لأهل فلا يكون للقرية أثر فى ذلك ونجد بقية الكلام فيها كما رأيت وقد تقدم منهم إباء التضييف مع طلبه وللبقاع تأثير فى الطباع فكأن هذه القرية حقيقة بالإفساد والإضاعة فقوبلت بالإصلاح لمجرد الطاعة وليست جواباً لإذا وإلا كان محط الكلام ومقصده هو الاستطعام عند الوصول وليس كذلك بل المراد إظهار العجائب من بلوغ اليتيمين أشدهما واستخراج كنزهما.
فلو صح أن الجملة نعت أهل أو جواب إذا صح أن يقال: استطعماهم لكنهما وجهان بعيدان هذا كلامه. ثم قال: وانضاف ذلك من الفوائد أن أهل الثانى يحتمل أن يكونوا هم الأول أو غيرهم أو منهم أو من غيرهم.
والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع نظره أولا على بعضهم ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتياها قدر الله لهما من حسن صنيعه استقراء جميع أهلها على التدريج ليتبين به كمال رحمته وعدم مؤاخذته بسوء صنيع عباده ولو قال استطعماهم تعين أن يكون المراد الأولين لا غير فأتى بالظاهر إشعاراً بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبوا ومع ذلك قابلهم بأحسن الجزاء انتهى.
والجارى على الغالب أن يقال الأهل الثانى هو الأول لأنه معرفة بعد أن ذكر نكرة وأن المراد بهما حقيقة أهلها التى صدقت بمن وافَوه فى طريقهم فى البلد ويحتمل أن يريد بالأول حقيقة أهلها مطلقا عن قيد الموافاة فى الطريق فيها وعن قيد فرد فرد وبالثانى من يُؤَمِّل للإطعام كالرؤساء والأغنياء.
{ فَأَبَوْا } امتنعوا. { أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا } عن أن يضيفوهما أو من أن يضيفوهما أو منعوهما التضيف قال أبىّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أتيا أهل قرية لئاما فطافا فى المجالس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما" .
وروى استطعموهم فلم يطعموهم واستضافوهم فلم يضيفوهم. روى أنهما واتياها قبل الغروب فاستطعماهم فلم يطعموهم قال قتادة: فى هذه الآية عشر القرى التى لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه، وعن أبى هريرة أطعمتهم امرأة من أهلها بعد أن طلبا من الرجال فامتنعوا فدَعوا لنسائهم ولعنا رجالهم والتضييف إنزال الضيف والقيام به.
وقرئ فأبوا أن يضيفوهما بضم الياء الأولى وإسكان الثانية أى أبوا أن يقبلوا ضيافتهما أى نزولهما بهم ضيفين يقال: ضاف به أى نزل به ضيفا وأضافه أى قبله فقام به ولم يرده أو من أضافه كضَّيفه بمعنى أنزله وأقام به وأصل تركيب الإسناد والميل والاستناد والإمالة أضاف ظهره للحائط أسنده إليه وضاف ظهره للحائط أسنده إليه وضاف السهم عن الرمية أى مال.
وقيل: إنهما لم يجدا فى تلك الليلة طعاماً ولا ماء وكانت باردة شاتية فالتجآ إلى حائط يكاد ينهدم ويسقط على خوف منها وقد بناه رجل صالح وهو الجدار المذكور فى قوله تعالى: { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً } طوله جهة السماء ثلاثون ذارعا بذراع أولئك القوم وهى مائة أذرع بأذرع هذه الأمة وطوله على وجه الأرض خمس مائة ذراع وعرضه خمسة أذرع.
{ يُرِيدُ } أى الجدار. { أَنْ يَنْقَضَّ } أى يكاد ينقض واستعيرت الإرادة لقرب الانفضاض كقوله:

يريد الرمح صدر بنى براء ويعدل عن دماء بنى عقيل

كما يستعار الهمّ والعزم لقرب الفعل يقال عزم السراج أن يطفأ ولست أُريد بالاستعارة هنا مقابل المجاز المرسل بل أردت الاستعارة اللغوية العامة للمجازين بإن لفظ الإرادة وضعت للحيوانى واستعملت هنا فى الجماد على سبيل العارية فإن ذلك مجاز مرسل بأَن استعمل الإرادة بمعنى مشارفة السقوط لأن إرادة الفعل فى الجملة تسبب له وملزوم له والفعل مسبب ولازم وهذا أولى من أن يقال شبه كون الجدار حال الضعف بإرادة الحيوان للسقوط فاستعار لفظ الإرادة لذلك السكون استعارة اصطلاحية مقابلة للمجاز المرسل وينقضّ يفعل أصله ينقضض بكسر الضاد الأولى سكنت وادغمت فى الثانية. وأيضاً معناه ينكسر وينهدم أو يسقط وهو فى الأصل مطاوع قضضته أى كسرته أو هدمته أو أسقطته. وانقضاض الطيور نزولها إلى الأرض. وانقضاض الكوكب هويه للرجم.
ويجوز أن يكون ينقض يفعل بتشديد اللام من النقض فأصوله النون والقاف وأحد الضادين وهو فى الأصل أيضاً مطاوع نقضه أى هدمه ولك إبقاؤه على المطاوعة فإن تصيير الله إياه بتلك الحال من الضعف كالشروع فى نقضه أو فى قضه فأراد أن يطاوع النقض أو القض.
وقرئ أن ينقص بالصاد المهملة المشدة. وقرئ أن ينقاص كذلك لكن بألف قبل الصاد من انقصت السن وانقاصت تشديد الصاد فيهما أى انقشعت طولا وليس الضمير فى أراد عائدا للخضر كما زعم من لا معرفة له بوجه إسناد لإرادة للجدار زاعماً أن الخضر أراد انقضاض الجدار وانقض الجدار بنفسه أو بنقض الخضر ثم أقامه بتجديد البناء.
{ فَأَقَامَهُ } أى أقامه الخضر بأن مسحه بيده فزال ميله واعوجاجه وشققه فكان مستقيما صحيحاً ملتئماً فى قول سعيد بن جبير.
وقال ابن عباس: هدمه وبناه. وقيل: عمد بعمود. والذى رواه أبىّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذى ذكره سعيد بن جبير.
{ قَالَ } موسى للخضر: { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أى على إصلاحه أو بنائه وذلك طلب لأخذ الأجرة على طريق التأدب يرد الأمر إلى مشيئته وطريق الكناية عن أبى مريد أن تأخذ عليه الأجر إذ لم يقل: خذ عليه أجراً.
ويجوز أن يكون تنديماً على ترك الأخذ للأجر وتحريضاً على أخذه لأنهما بحالة من الجوع وصلت بهما أن يسألا طعاماً فلم يطعما.
ويجوز أن يكون تعريضاً بأن إقامته فضول حيث اشتغل بإصلاح مال غيره فى بلد منعه أهله الطعام وهو فى جوع شديد وإنه ينبغى أن يشتغل بما يتقون به فإذا أقامه فليطلب عليه الأجرة واتخذ افتعل من اتخذ كاتبع من تبع فالتاء المدغمة أصل وهى فاء الكلمة. وقال الكوفيون: إنها بدل من همزة أخذ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لَتَخِذْتَ بتخفيف التاء وكسر الخاء ويقال لهما البصريان. وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال وأدغمه الباقون ويوجد فى النسخ اتصال اللام بالتاء فى الخط بدون ألف بينهما ولو فى قراءة التشديد.