التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
٨٣
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً
٨٤
فَأَتْبَعَ سَبَباً
٨٥
-الكهف

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَيَسْأَلُونَكَ } أى اليهود أو قريش: أبو جهل وأتباعه بإرسال اليهود إياهم { عَنْ ذِى الْقَرْنَيْنِ } الإسكندر الرومى.
قال وهب: لقب بذلك لأنه ملك فارسَ والروم.
ورُوِى: الروم والترك.
وقيل: المشرق والمغرب.
وقيل عن النبى صلى الله عليه وسلم وعن الزهرى: لأنه طاف قرنى الدنيا: الشرق والمغرب.
وقيل: لإنهُ انقرض فى أيامه قرنان من الناس.
وقيل: كان القرنان حسنتين.
وقيل: غديرتين تصلان إلى الأرض. إنهُ كان لهُ قرنان أى ضفيرتان.
وقيل: لأنهُ كان لتاجه قرنان.
وقيل: إنهُ كان على رأسه ما يشبه القرنين وتواريهما العمامة.
وقيل: لأن صفحتى رأسه من نحاس.
وقال على: لأنهُ ضرب على قرنه الأيمن فى طنجة الله فمات فأحياه الله وضرب على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله قال: وفيكم مثلهُ.
وقيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى.
وقيل: لأنه أدخل النور والظلمة وأمرهما الله بالامتثال له.
وقيل: لأنه قرنى الشيطان عند مطلع الشمس وقد بلغه.
وقيل: لشرف أبويه.
وقيل: إنه يقاتل يديه وركابيه.
وقيل: لأنه علم الظاهر والباطن.
وقيل: لأنه رأى فى منامِه أنه أخذ بقرنى الشمس.
ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال: زيد شجاع ينطح أقرانه.
وما ذكرته من أنه رومى هو المشهور.
وقيل: هو عربى من أهل اليمن من حمير.
قال الفخر عن أبى الريحان السرورى المنجم: إنه من حمير وإن اسمهُ نوار ابن سمر بن عز بن أفنويس الحميرى وهو الذى افتخر به أحد شعراء حمير وقال:

قد كان ذو القرنين قِدْما مسلماملكا على الأرض غير مفند
بلغ المشارق والمغارب يلتقى أسباب ملك من كريم مرشد
فرأى إياب الشمس عند غروبهافى عين ذى خلب ونظمة حرمد

وهو وَلَدُ عجوزٍ ليس لها غيره واسمه إسكندر بن فيلنوس.
وقيل: مرزبان بن مرزبة اليونانى من ولد يونان بن يافث بن نوح.
وقيل: اسمهُ عبد الله.
وقيل: الصعب.
وقيل: المنذر.
وقيل: أفريدون ورجح الثلاثى الصعب قال: وليس هذا الإسكندر اليونانى لأن هذا فى زمان إبراهيم والإسكندر كان قريباً من زمان عيسى وبينهما أكثر من ألف سنة.
والحق أن الذى قص الله تعالى نبأه فى القرآن هو الأول لما ذكر ولأنه من العرب والإسكندر من اليونان ولأنه صالح أو نبى والإسكندر كافر كما قال الفخر الرازى. وهو مسلم إجماع فقيل: نبى ويدل له قوله تعالى: { قلنا يا ذا القرنين } وخطاب الله تعالى لا يكون إلا مع الأنبياء إلا أن يقال: إنه خطاب بإلهام أو على لسان غيره: وقيل: ولى.
وزعم بعض أنه ملك من الملائكة.
وروى عن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين فقال: اللهم اغفر. أما رضيتم أن تتسمَّوا بأَسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة.
قال على: سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور.
روى أنه قال: وكان عليه الليل والنهار سواء وسهل عليه السير فى الأرض وذلك له طرقها. وسئل عنه فقال: أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه رواه أبو الطفيل.
وسأله ابن الكوا: ما ذو القرنين أملك أم نبى؟
فقال: ليس بملك ولا نبى ولكن كان عبداً صالحاً ملكا عادلا وعليه الأكثر.
وذكر بعضهم أنه إذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه وأعطاه الله العلم والحكمة وألبسه الهيبة وملَّكه الأرض.
قيل: مَلك الأرض مؤمنان: ذو القرنين وسليمان. وكافران: نمرود وبُخْتَ نَصَّر.
روى أنه لما مات أبو ذى القرنين جمع ملوك الروم بعد أن دانت له طوائف ثم مضى إلى ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم رجع إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسمه ثم دخل الشام ودخل بيت المقدس وقرب إليه القربان ثم انعطف على أرمينية وباب الأبواب وبنى السد ودانت له ملوك العراق والنبط والبربر واستولى على ملوك الفرس ثم مضى إلى الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ثم رجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات وحمل إلى الإسكندرية.
وقيل: أوصى أن يحمل فى تابوت من ذهب إلى بلده فى الروم.
وروى أنه كتب إلى أمه وهى فى الإسكندرية قبل وفاته بقليل: إذا وصل إليك كتابى هذا فاجمعى أهل بلدك وأعدى لهم طعاما ووكلى بالأبواب فى منع من أصابته مصيبة فى أم أو أب أو أخ أو أخت أو ولد ففعلت فلم يدخل إليها أحد فعلمت أن لإسكندر عزاها فى نفسه.
وروى أنه كتب إليها: أن اعملى طعاماً واؤمرى مناديا: ائتوا الطعام إلا من أصابته مصيبة فى قريب أو صاحب ففعلت فلم يأت أحد فقالت: لِمَ لا يأتون.
فقيل لها: أنت منعتِهم؛ إذ لا أحد إلا وقد أصيب بذلك.
فقالت: رحم الله ابنى عزانى فى نفسه وهو حى. ويأتى كلام فى هذا. وعمره نيف وثلاثون سنة وقد بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال وهذا هو القدر المعمور من الأرض.
وعن وهب بن منبه أن ذا القرنين رجل من الروم ابن عجوز لما بلغ كان عبداً صالحاً وقال الله عز وجل له: إنى باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها: ناسك والأخرى عند مطلعها يقال لها: منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما فى القطر الأيمن يقال لها: هاويل والأخرى فى القطر الأيسر. يقال لها: تاويل وأمم فى وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال ذو القرنين: يا رب بأى قوة أكابرهم؟ وبأَى جمع أكاثرهم؟ وبأى لسان أناطقهم؟
قال الله تعالى: إنى سأطولك وأبسط لسانك وأشد عضدك فلا يهولنك شئ وألبسك ثوب هيبة فلا يرعدك شئ وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك فالنور يهديك من أمامك والظلمة تحوطك من ورائك.
فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدداً لا يحصيه إلا الله فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم فى مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صد فعمد إلى من صد فأدخل عليهم الظلمة فدخلت أجوافهم وبيوتهم فدخلوا فى دعوته.
فجند من أهل المغرب جنداً عظيما وانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل ففعل فيهم كفعله فى ناسك ثم مضى حتى أتى منسك ففعل فيهم كفعله فى الأمتين وجند منهم جنداً ثم أخذ ناحية اليسرى فأتى تاويل يفعل فيهم كفعله فى من قبلهم ثم عمد إلى الأمم التى فى وسط الأرض.
فلما كان مما يلى منقطع الترك مما يلى المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش كالسباع ويأكلون الحيات والعقارب وكل ذى روح خلقه الله فى الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم فلا شك أنهم سيملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون فيها { فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا قال: ما مكنى فيه ربى خير } وقال أعدوا إلى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم.
فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم نصف الرجل المروع منا لهم مخاليب وأضراس كالسباع والشعر يوارى أجسادهم يتقون به الحر والبرد ولكل واحد أذنان عظيمان يفترش إحدهما ويلتحف بالأخرى يصيِّف فى واحدة ويشتو فى الأخرى ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا فانصرف مقاس ما بين الصدفين وحفره إلى الماء وبناه.
قال عكرمة بن عامر الجهنى: خرجت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى اليوم الذى أخدمه فيه فإذا أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف وكتب فقالوا: استأذِن لنا على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم فقال: ما لى ولهم يسألوننى عما لا أدرى أنا عبد لا أعلم ما علمنى الله ثم قال: ائتنى بوضوء فأَتيته بوَضوء فتوضأ ثم قام إلى المسجد فركع ركعتين فما انصرف حتى بدا لىَ السرور فى وجهه فقال: اذهب فأدخلهم وأدخل من وجدت بالباب من أصحابى. فلما وقفوا عليه قال: إن شئتم أخبرتكم بما أردتم أن تسألونى عنه قبل أن تتكلموا أو إن شئتم سألتم وأخبرتكم.
قالوا: أخبرنا.
قال: جئتم تسألوننى عن ذى القرنين وسأخبركم كما تجدونه فى كتبكم مكتوباً: إن أول أمره أنه كان غلاماً من الروم وأعطى ملكا. فسار حتى انتهى إلى أرض مصر فبنى عندها مدينة يقال لها: الإسكندرية فلما فرغ من بنيانها أتاه ملك فعرج به ثم قال: انظر ما تحتك.
فقال: أرى مدينتى وأرى مدائن معها ثم عرج به.
فقال: انظر.
فقال: قد اختلطت مدينتى مع المدائن ثم زاد فقال: انظر.
فقال: أرى مدينتى وحدها ولا أرى غيرها.
فقال له الملَك: إنما تلك الأرض كلها وذلك السواد المحيط بها البحر وإنما أراد الله أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطاناً فيها فسر فى الأرض وعلم الجاهل وثبِّت العالم.
فسار حتى بلغ مغرب الشمس ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس ثم أتى السدين وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شئ فبنى السد ووجد يأْجوج ومأْجوج يقاتلون قوماً ثم مضى ووجد أُمة من الغرانيق يقاتلون قوما كذراع ثم مضى ووجد أُمة يقاتلون قوما وجوههم كوجوه الكلاب ثم مضى فوجد أُمه من الحيات تلتقم الحية الصخرة العظيمة ثم أفضى إلى البحر المحيط بالأرض.
فقالوا: نشهد أن أمره كان هكذا وإنا نجده فى كتابنا هكذا.
وروى أنه رجع من بابل وقد أحاط البَلاء به، وظهرت به آثار السقام وقد رأى فى منامه أنه يموت فوق أرض من حديد وتحت سماء من حديد ثم أخذه العطش والحمى ففرشوا تحته أدرع الحديد وظللوا عليه بالحديد فأيقن بالموت وأوصى إلى أُمه أن تعمل وليمة وأن لا يحضرها من أُصيب بخليل أو محبوب.
ولما مات وضع فى تابوت من الذهب ليحمل إلى أُمه بالإسكندرية وله ست وثلاثون سنة وكانت مدة ملكه تسع سنين فقال حكيم الحكماء: ليتكلم كل منكم بكلام ليكون للخاصة مذكراً وللعامة واعظاً.
فقام أحدهم فقال: لقد أصبح مُستاس الملوك أسيراً.
وقال آخر: هذا الإسكندر كان يحبس الذهب وصار الذهب يحبسه.
وقال الآخر: العجب كل العجب أن القوىَّ قد غُلب.
وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً ولا واعظ أبلغ من وفاتك.
وقال آخر: رب هائب أن يذكرك سرًّا وهو الآن لا يخاف جهراً.
وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض فى طولها وعرضها ليت شعرى كيف حالك فى قدر طولك منها.
وقال آخر: يا من كان غضبه الموت هلاّ غضب على الموت.
وقال آخر: ما لك لم يتحول عضو من أعضائك وقد كنت تزلزل الأرض.
ولما ورد على امه فى التابوت شرعت فى عمل الوليمة وقالت: لا يحضرها من أُصيب بمحبوب أو خليل، فلم يحضر أحد.
فقلت: ما بال الناس لا يحضرون الوليمة؟
فقالوا: أنت منعتِيهم من الحضور.
قالت: كيف ذلك؟
قيل لها: قد أَمرتِ أن لا يحضرها من فقد محبوبا أو خليلا وليس فى الدنيا أحد إلا وقد أصيب بذلك فخف بعض ما بها من الحزن وتسلت بعض تسلية وقالت: رحم الله ولدى لقد عزَّانى أحسن تعزية وسلاّنى بألطف تسلية.
{ قُلْ } مجيبا لهم { سأَتْلُوا عَلَيْكُمْ } سأقص عليكم أيها السائلون عن ذى القرنين { مِنْهُ } من حاله. وقيل: من الله متعلق بأتلوا وبمحذوف حال من قوله:
{ ذِكْراً } أى خبرا. والسين هنا وفى قوله: { سأُنبئك } للحال المتصلة بحال التكلم وإن شئت فقل للاستقبال المتصل بحال المتكلم بلا مهلة.
وقيل: للاستقبال المفصول بقوله: { عليكم منه ذكرا } وقوله: { بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا }.
وقيل: إنه لم يقل: أما السفينة الخ متصلا بقوله: { ما لم تستطع صبرا } بل قال ذلك وسكت فأمسكه موسى بثوبه وقال لا أفارقك حتى تخبرنى فأخبره وما يدرى أحد مقدار ما يمكث غير مخبر له لو لم يمسكه.
وذكر الزمخشرى أن السين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة يعنى أنها تفيد تأكيد الوعد. وقد صرح بذلك كما قال ابن هشام فى قوله تعالى:
{ { أولئك سيرحمهم الله } لكن ذلك مع الاستقبال فى الآية فيجوز أن تكون فى سورة الكهف لتأكيد الوعد بحصول الفعل بدون استقبال وذلك لأنه لا فسحة بين تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم على سائليه قوله تعالى: { قل سأتلوا عليكم منه ذكرا } وتلاوته عليهم قوله تعالى: { إنَّا مكْنَّا لَهُ فِى الأَرْضِ } مهدنا له الأسباب فى الأرض أو مكنا له أمره فيها يتصرف كما شاء.
{ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ } اراده وتوجه إليه مما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء وما أراده هو مبتدعاً له. { سَبَباً } ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة وآلة. وفسر بالطريق وبالعلم يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به فى أقطار الأرض وفسر بالبلاغ إلى حيث أراد.
وذكر بعضهم أن الله عز وجل قرب له أقطار الأرض { فَأَتَبَعَ } سلك.
وقرأ الكوفيون وابن عامر بقطع الهمزة وإسكان التاء غير مشددة وكذا فى الموضعين الآتيين { سَبَباً } طريقا هى إلى المغرب.