التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
٧٢
-مريم

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ثُمَّ نُنَجِّى } وقرأ الكسائى بالتخفيف وإسكان النون.
وقيل: هذه أيضا قراءة يعقوب. قيل: وقرئ ننجى بالبناء للمفعول ولا وجه للمفعول ليلة بنون واحدة فيكون ماضيا مكسور الجيم مفتوح الياء للاستقبال. وقرأ ابن مسعود وابن عباس والجحدرى وابن أبى ليلى بفتح الثاء على الظرفية.
{ الَّذِينَ اتَّقُوْا } الشرك والكفر منها { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا } فى النار أو حولها. { جِثِيّاً } فيمضى المسلمون منها أو من حولها ويبقى الكافرون فيها أو يبقون حولها ثم يطرحون فيها.
قال ابن عبد البر - من علماء الأندلس وزهادها فى التمهيد - بعد أن ذكر رواية الورود بمعنى الدخول: وعن كعب الأحبار أنه تلا: { وإن منكم إلا واردها } فقال: أتدرون ما ورودها؟ إنه يجاء بجهنم فتمسك للناس كأنها متن إهالة يعنى الوَدَك الذى يجمع على القِدر من المرقة، حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلائق بَرِّهم وفاجرهم نادى مناد: أن خذى أصحابك وذرى أصحابى، فتخسف بكل ولى لها، فهى أعلم بهم من الوالدة بولدها، وينجو المؤمنين، نَدِّيةً ثيابهم. انتهى.
والمراد بالظالمين ظالموا أنفسهم بالشرك، أو بالكبيرة غير الشرك. فأصحاب الكبائر ممن يخلد فيها. وقومنا يقولون: إن الظالمين المشركون، أو هم وأصحاب الكبائر. فتركهم فيها إدخالهم وتعذيبهم، ثم يخرج أصحاب الكبائر بعد.
واحتج بعض القوم على أن الظالمين المشركون، وأن الذين اتقوا من اتقى الشرك ولو مات على الكبيرة: بأن من آمن بالله ورسوله صح أن يقال: إنه متق عن الشرك. ومن صدق عليه المركّب صدق عليه المفرد، ومن صدق عليه أنه متق عن الشرك صح أنه متق. ومن صدق عليه ذلك وجب أن يخرج من النار لعموم: { ثم ننجى الذين اتقوا }.
قلت: هذا بمعزل عن التحقيق؛ فإنه ليس من صدق عليه المركب صدق عليه المفرد. ألا ترى أن المداد مركب من زاج وعفص وعلك ولا يقال: إن المداد زاج وحده، أو عفص، أو علك، وزيد قائم يصدق عليه أنهُ كلام ولا يصدق عليه بأنه كلمة إلا مجازا، على ما فيه من البحث فى محله.
ويلزم على قول ذلك القائل أن من صلى صدق عليه أنه صلى الصلوات كلها ولو كان صلى بعضا فقط لعموم صلى.
ورووا عن أبى هريرة أن الناس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟
قال: هل تُمارون فى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟
قالوا: لا.
قال: هل تمارون فى الشمس ليس دونها سحاب؟
قالوا: لا.
قال: فإنكم ترونه. يحشر الناس يوم القيامة فيقال: من كان يعبد شيئا فليتبع. فتابع الشمس، وتابع القمر، وتابع طالوت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم.
فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا. فإذا أتانا عرفناه.
فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم.
فيقولون: أنت ربنا. فيدعوهم، ويضرب الصراط على جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته. ولا يتلكم يومئذ إلا الرسل. وكلامهم يومئذ: اللهم سلّم سلّم.
قلت: هذا حديث افتروه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبوأوا به منازل فى النار كيف يُرَى؟ وفى الرؤية تجسيم ولون وجهات وخلو الأماكن عنه والحلول، والله لا يوصف بذلك ولا بَعَرض؟ وكيف يخرج منها من دخلها مع أن من عصى الله ومات عاصيا نص الله عليه بخلوده والعصيان يعم كل كبيرة.
ولو صح حديث فى ذلك غير ما افتروه لخصصنا به العموم، ولو جاز أن يدخل النار من يخرج منها لجاز أن يدخل الجنة من يخرج منها فيدخلها مشرك يتنعم بقدر ما عمل ومنافق كذلك ثم يخرجا.
وقد يقول الخصم: إن المشرك والمنافق أذهبا طيباتهما فى الدنيا فلا يدخلان الجنة ويخرجان، بل المشرك لا يدخلها أصلا. والمنافق يدخلها بعد الخروج من النار، ولا يخرج منها لسبق الرحمة الغضبَ.
والجواب والرد فى محلهما.
وقالوا: يخرج منها كل من فى قلبه حبة إيمان، ويبقى رجل من بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة فيقول: يا رب اصرف وجهى عن النار قد أحرقنى حرها.
فيقول: هل عسيت إن فعلتُ ذلك بك أَن تسأل غيره؟
فيقول: لا وعزتك، فيعطى الله ما شاء من عهد وميثاق فيصرف وجهه عنها إلى الجنة، فيراها فيسكت ما شاء الله.
فيقول: يا رب قدمنى إلى باب الجنة.
فيقول الله: أليس قد أُعطيت العهود والميثاق لا تسأل غير الذى سألت؟
فيقول: يا رب لا أكون أشقى الناس.
فيقول: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسأل غيره؟
فيقول: فهل عسيت إن أعطيتك أن تسأل غيره؟
فيقول: وعزتك لا أسأَلك غير ذلك.
فيعطيه ما يشاء من عهد وميثاق، فيقدمه إلى بابها. فإذا رأى زهرتها سكت ما شاء الله جل وعلا.
فيقول: يا رب أدخلنى الجنة.
فيقول: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك! ألم تُعْطِ العهد والميثاق: ألاّ تسأل غير الذى سألت؟
فيقول: يا رب لا أكون أشقى خلقِك.
فيأذن له فى دخول الجنة. فيقول له: تمنَّ فيتمنى حتى تنقطع أمنيته.
فيقول: لك ذلك ومثله معه. رواه أبو هريرة.
وقال أبو سعيد: إنه يقول: لك ذلك وعشرة أمثاله روى ذلك كله المخالفون.
ورووا أيضاً عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إنى لأعلم آخر أهل النار خروجا منها آخر أهل الجنة دخولا الجنة: رجل يخرج من النار حَبْواً.
فيقول له الله: اذهب فادخل الجنة.
فيأتيها فتخيل إليه أنها ملئت، فيرجع فيقول: يا رب قد وجدتها قد ملئت.
فيقول له: اذهب فادخل الجنة فإن لك عشرة أمثال الدنيا.
فيقول: تسخر بى وأنت الملك؟ فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه"
.
وزعموا أن النار لا تأكل كل لحوم أهل التوحيد، وأنهم يخرجون كالفحم فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كالحبة.