التفاسير

< >
عرض

الۤـمۤ
١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم }: كان الحسن يقول ما أدرى ما تفسير (الم والر والمص) وما أشبه ذلك، غير أن قوماً من المسلمين يقولون أسماء السورة ومفاتحها، ونقله الماوردى وغيره عن زيد بن أسلم، ونسبه فى الكشاف إلى الأكثر، سميت بها إشعاراً بأنها كلمات معروفة التركيب، فلو لم تكن وحياً من الله تعالى لن تتساقط مقدرتهم عن معارضتها، واختاره الخليل وسيبويه، ونسبه بعض إلى أكثر المتكلمين، ورده الفخر بأنها لو كانت أسماء السور لوجب اشتهارها بها، وقد اشتهرت بغيرها، كسورة البقرة وآل عمران، وعن على: الر وحم ونون: اسم الله الرحمن قيل ذلك ونحوه أسماء الله مقطعة، لو علم الناس تأليفها كلها لعلموا اسم الله الأعظم، وكذا نقله ابن عطية وهو مروى عن على وابن عباس، فإنهم ولو علموا جمع الرحمن لكنهم لا يعلمون سائر الأسماء، وقيل كل حرف مقطوع من أول اسم من أسماء الله، فالألف مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسم لطيف، والميم مفتاح اسم مجيد، واختاره الزجاج، وقيل الألف آلاء الله، واللام لطفه، والميم ملكه أو مجده، والعرب تشير إلى الكلمة أو الكلام، أى الحروف بذكر بعض، كما يقال: تعلمت ا ب ت ث، وتريد حروف التهجى كلها، وكما قال الراجز:

قلت لها قفى فقالت لى قاف لا تسحبى إنا نسينا الإيجاف

أى الإسراع، والأصل: فقالت لى وقفت فاقتصر على ذكر القاف ولك كتبه هكذا، فقالـ لى ق ويقرأ قاف، كما نكتب { ق والقرآن } ونقرؤه قاف والقرآن، وكقوله:

بالخير خيرات وإن شرافا ولا ما أريد الشر إلا أن تا

أراد وإن شرا فشر وإلا أن تشا، فاقتصر على التاء والفاء وأشبعهما، وكقوله:

ناداهم ألا الجموا إلاتا قالوا جميعاً كلهم ألافا

أراد ألا فاركبوا، كذلك وعن ابن عباس: الم أنا الله أعلم، وقيل أسماء السور، وبه قال جماعة من المحققين، وعن ابن عباس: أقسام أقسم الله بها، وخص تلك الحروف لشرفها وفضلها، لأنها مبانى كتبه المنزلة، وأسماؤه الحسنى، والمراد كل الحروف وإن اقتصر على بعضها، وجواب القسم ما بعدهن، قلت: يعترض ذلك بأن منها ما لا يصلح ما بعده جواباً لقسم فلا يكون قسما، كقوله تعالى: { الم أحسب الناس } كما قال الكرمانى فى غرائبه: الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها فى هذه السورة وغيرها، إلا أن يقال إنه يقدر الجواب حيث لا يصلح أن يكون ما بعدهن جواباً، ويرد قول القسم أن القسم فى لغة العرب إنما هو بحرف من حروف القسم، أو بنحو: حلفت أو لعمرك أو نحو ذلك، وإن قدر حرف القسم هكذا أو الألف كان فيه إضمار حرف القسم، وهو لا يجوز إلا مع لفظ الجلالة، ولو ادعى بعضهم جوازه هنا وجعل المقسم به منصوباً على نزع حرف القسم، أو مجروراً كما جاز فى لفظ الجلالة مع احتياج تقدير العاطف فى قوله (لام) وقوله (راء) وتقدير الجواب فى بعضها، وأخرج ابن جرير الطبرى عن ابن مسعود أن ذلك اسم الله الأعظم، وأخرج بن أبى حاتم من طريق السدى أنه بلغه عن ابن عباس أنه قال: الم الاسم الأعظم من أسماء الله، وهكذا أمثاله، وأخرج ابن جرير وغيره من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس: الم وطسم وص وأشباهها قسم، أقسم الله به، وهو من أسماء الله، وأخرج ابن ماجه فى تفسيره من طريق نافع بن أبى نعيم القارئ، عن فاطمة بنت على بن أبى طالب، أنها سمعت من على يقول يا كهيعص اغفر لى، ويقول يا حم عسق، ويبحث بأن المراد يا منزل كهيعص يا منزل حم عسق، وأخرج ابن أبى حاتم عن الربيع بن أنس فى قوله كهيعص يا من يجير ولا يجار عليه. وأخرج عن أشهب سألت ابن مالك بن أنس: أينبغى لأحد أن يتشكى بيس؟ قال: ما أراه ينبغى لقول الله: { يس والقرآن الحكيم } يقول هذا اسمى تسميت به، وقيل أهى أسماء للقرآن كالفرقان والذكر، أخرجه عبد الرزاق عن قتادة، وأخرجه ابن أبى حاتم بلفظ كل هجاء فى القرآن فهو اسم من أسماء القرآن، وإن قلت كيف تجعل أسماء من أسماء السور أو من أسماء القرآن، والاسم لا يتركب من ثلاثة أشياء؟ قلت: إنما يمتنع إذا ركبت أما إذا أسردت كأسماء العدد فلا امتناع، والمسمى هو مجموع السورة أو القرآن، والاسم جزء ذلك فلا اتحاد، والاسم مقدم من حيث ذاته، ومؤخر باعتبار كونه اسماً فلا دور، وإنما قلت لا اتحاد، لأن الجزء ليس عين الكل ولا جزءه. وأخرج ابن جرير من طريق الثورى عن ابن أبى نجيح عن مجاهد: الم وحم والمص وص ونحوها، فواتح افتتح الله تبارك وتعالى بها القرآن. وأخرج أبو الشيخ من طريق ابن جريج عن مجاهد: الم الر المر فواتح يفتتح الله بها القرآن، قلت ألم يكن يقول هى أسماء؟ قال لا. وأخرج ابن أبى حاتم وغيره من طريق أبى الضحاك عن ابن عباس فى قوله تعالى: { الم } قال أنا الله أعلم، وفى قوله: { المص } أنا الله أفصل، وفى قوله تعالى: { الر } أنا الله أرى، وقيل المص معانه المصور، وقيل المر معناه الله أعلم وأرى، حكاهما الكرمانى فى غرائبه. وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله: الم وحم ون اسم مقطع، وأخرج من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: الر وحم ون حروف الرحمن معرفة. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظى: الر من الرحمن، وأخرج عنه أيضاً المص الألف من الله، والميم من الرحمن، والصاد من الصمد، وأخرج أيضاً عن الضحاك فى قوله عز وعلا فى: { المص } أنا الله الصادق، وأخرج الحاكم وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى { كهيعص } قال: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق. وأخرج الحاكم أيضاً من وجه آخر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله جل وعلا: { كهيعص } قال كاف هاد أمين عزيز صادق، وأخرج عن ابن أبى حاتم من طريق السدى عن أبى مالك، وعن أبى صالح عن ابن عباس، وعن عروة عن ابن مسعود وناس من الصحابة فى: { كهيعص } قاله مجاهد مقطع: الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصور، وأخرج عن محمد بن كعب مثله إلا أنه قال والصاد من الصمد. وأخرج سعيد بن منصور وابن مردويه وجهاً آخر عن سعيد عن ابن عباس فى قوله: { كهيعص } قال: كبير هاد أمين عزيز صادق، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس قال: الكاف الكافى، والهاء الهادى، والعين العالم، والصاد الصادق. وأخرج من طريق يوسف قال: سئل الكلبى عن { كهيعص } فحدث عن أبى صالح عن أم هانئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كاف هاد أمين عليم صادق" وأخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة فى قوله: { كهيعص } قال يقول: أنا الكبير أنا الهادى العلى الأمين الصادق، وأخرج محمد بن كعب فى قوله: { طه } الطاء من ذى الطول. وأخرج عنه أيضاً فى قوله: { طسم } الطاء من ذى الطول، والسين من قدوس، والميم من الرحمن، وأخرج عن سعيد بن جبير فى قوله: { حم } قال الحاء اشتقت من الرحمن وميم اشتقت من الرحيم، وأخرج عن محمد بن كعب فى قوله: { حم عسق } قال الحاء والميم من الرحمن، والعين من عليم، والسين من القدوس، والقاف من القاهر، وأخرج عن مجاهد قال: فواتح السور كلها هجاء مقطوع، وأخرج عن سالم بن عبد الله قال: الم وحم ون اسم الله مقطعة، وأخرج عن السدى قال: فواتح السور أسماء من أسماء الرب، فرقت فى القرآن وحكى الكرمانى فى قوله (قاف) إنه حرف من اسمه قادر وقاهر، وحكى غيره فى قوله { ن } مفاتح اسمه تعالى نور وناصر.
وهذه الأقوال راجعة إلى قول واحد هو أنها حروف مأخوذة من أسمائه تعالى، وقيل فى طه ويس: يا رجل أو يا محمد أو يا إنسان، وقيل هما اسمان من أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله الكرمانى فى غرائبه ويقويه فى يس قراءة يس بفتح النون، وقوله آل يس، وقيل طه طا الأرض أو اطمئن، فيكون فعل أمر، وها مفعول أو للسكت أو بدل من الهمزة. وأخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله: { طه } قال هو قولك افعل، وقيل: { طه } يا بدر، لأن الطاء بتسعة، والهاء بخمسة، فذلك أربعة عشر، أشار إلى البدر لأنه يتم فيها، ذكره الكرمانى فى غرائبه، وقال فى قوله: { يس } يا سيد المرسلين، وفى قوله: { ص } معناه صدق الله، وقيل أقسم بالصمد الصانع الصادق، وقيل معناه صاد يا محمد علمك بالقرآن، أى عارضه به فهو أمر من المصادات، أخرج ابن أبى حاتم فى قوله: { ص } قال صاد القرآن بعملك واتبعه علمك، وأخرج عن الحسن { ص } حادث فى القرآن يعنى انظر فيه، يقال صاداه يصاديه، أى حادثه يحادثه، وكان يقرؤها { صاد والقرآن } أى عارض القرآن
{ والقرآن ذى الذكر } . وقيل: صاد اسم بحر عليه عرش الرحمن، وقيل اسم بحر تحيى به الموتى، وهو الماء الذى يمطر على الموتى كالمنى فيحيون ويبعثون، وقيل معناه: صاد محمد قلوب العباد، حكاها الكرمانى فى قوله { المص }، وقال معناه: ألم نشرح لك صدرك، وفى { حم } أنه محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه أنه { حم } ما هو كائن، وقيل { ق } جبل محيط بالأرض، أخرجه عبد الرزاق عن مجاهد، وقيل أقسم بقوة قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل القاف من قوله: { قضى الأمر } دلت عليه بقية الكلمة، وقيل قف يا محمد على أداء الرسالة والعمل بما أمرت به، حكاهما الكرمانى، وقيل نون هو الحوت، أخرج الطبرانى عن ابن عباس مرفوعاً: أول ما خلق الله القلم والحوت، قال اكتب، قال ما أكتب؟ قال كل شىء كائن إلى يوم القيامة، ثم قرأ { ن والقلم } فالنون الحوت، والقلم القلم، وقيل اللوح المحفوظ، أخرجه ابن أبى جرير عن ابن برقرة مرفوعاً. وقيل القلم حكاه الكرمانى عن الجاحظ، وقيل اسم من أسماء النبى صلى الله عليه وسلم، حكاه ابن عساكر فى مبهماته، وفى المحتسب لابن جنى، فى هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين السور، ولو كانت أسماء الله لم يجز تحريف شىء منها، لأنها تكون حينئذ أعلاماً، والأعلام تؤدى بأعيانها، ولا يحرف شىء منها، وعن ابن عباس: الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد، أى القرآن منزل من الله بلسان جبريل على محمد عليه الصلاة والسلام، واستدل بعض للقول بأنها أسماء للسور، بأنها لو لم تكن مفهومة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل، والتكلم بالزنجى مع العربى، ولم يكن القرآن بأسره بياناً وهدى، ولم يكن التحدى به ممكناً لخروج بعضه حينئذ من مقام التحدى، حاشاه، وإن كانت مفهمة فإما أن يراد بها السور التى هى أولها على أنها أسماؤها أو غير ذلك، وكون المراد بها غير ذلك باطل، لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له فى لغة العرب أو غيره، ولا يخفى أن ليس المراد ما وضعت له فى لغة العرب، ولا يخفى أيضا أنه ليس المراد بها غير ما وضعت له فى لغة العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، فلا يحمل على ما ليس فيها، فتعين أنها أسماء للسور، وذلك الاستدلال يجرى أيضاً فى الرد على القائل إنها مبهمة، قال أبو بكر بن العربى فى فوائد رحلته، الذى أقوله لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا عندهم لكانوا أول من أنكرها على النبى - صلى الله عليه وسلم - بلا تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما، فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له فى البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى غيره وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفاً بينهم لا إنكار فيه. انتهى.
والمختار عندهم أنها من الأسرار التى لا يعلمها إلا الله جل وعلا، أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبى أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر القرآن فواتح السور، ومثله عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وعثمان بن عفان وعلى، قلت ويحتمل أن يريدوا بالسور الأمر الكريم العزيز، فإنه يسمى سرا تشبيهاً له بالكنز العظيم المصون المسرور به ونحوه، وإنها سر بين الله ورسوله، ورموز إذا لم يقصد بها إفهام غيره، وذكر بعض إنها من المتشابه فيكون فيها الخلاف، هل يعرفها الراسخون فى العلم أم لا يعرفها أحد على اختلافهم فى المتشابه، فتراهم خاضوا فيها بأقوال وأخبار. وإن قلت إذا كانت سرا لا يعلمه غير الله عز وعلا فما فائدة ذكرها؟ قلت: فائدة ذكرها الإيمان بها، وقال قطرب تلميذ سيبويه: هى حروف مزيدة للتنبيه والدلالة على انقطاع كلام واستئناف آخر، واعترض القاضى، بأن هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للتنبيه والدلالة على الانقطاع، ولا يخفى ان الاستئناف يلزمها وغيرها من حيث إنها فواتح السور، ولا يقتضى ذلك ألا يكون لها معنى فى حيزها، وعندى أن قول قطرب حسن، وكنت أشبه المقام بمقام من أراد أن يتكلم لمن استغرق قله فى شىء، فيقدم إليه ما يصغى به إلى الكلام كأن يجيده أو يغمز بدنه أو يقرعه بالحصى، ومن ذلك الوادى أن تشير إلى من كان فى كلام دنيوى بالبسملة تنبيهاً على أن يقر، ثم رأيت عن الجوينى ما يناسبه إذ قال: القول بأنها تنبيه جيد، لأن القرآن كلام عزيز، وفوائدة عزيزة، فينبغى أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن يكون الله قد علم فى بعض الأوقات كون النبى صلى الله عليه وسلم فى عالم البشر مشغولا فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله آلم آلم حم، ليسمع النبى صلى الله عليه وسلم صوت جبريل فيقبل عليه ويصغى إليه، وإنما لم تستعمل الكلمات المشهورة فى التنبيه كألا وأما، لأنها من الألفاظ التى تعارفها الناس فى كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام فناسب أن يؤتى فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد لتكون أبلغ فى قرع سمعه. انتهى.
وقيل إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن ألغوا فيه، فأنزل تبارك وتعالى هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم سبباً لاستماعهم، واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترق القلوب، وتلين الأفئدة، عد هذا جماعة قولا مسقلا، والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة لبعض الأقوال لا قولا فى معناها، إذ ليس فيه بيان معنى، واعترض القاضى قول بعضهم إنها حروف متقطعة من كلمات، بأنها لم تستعمل للاختصاص، ومن كلمات معينة فى كلامهم، وأما الأشعار الوارد فيها الاقتطاع فشاذة، لا يخرج القرآن عليها، وإن قلت قد ثبت هذا عن ابن عباس ونحوه، فلم يبق بحث، قلت إنما لا يبقى بحث لو كان حديثا صحيحا عنه - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا كان من كلام ابن عباس فيقبل البحث، مع أن تفسيره بذلك محتمل لأن يكون تمثيلا بأمثلة حسنه، وتنبيهاً على أن الحروف منبع الأسماء ومبادئ الخطاب، ألا ترى أنه عد كل حرف من كلمات متباينات، فلم يرد تفسيراً حتماً معيناً مخصوصا بهذه المعانى الذى ذكرها دون غيرها، إذ لا مخصص لفظاً ومعنى، وقيل إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التى هى أ ب ت ث، فجاء بعضها مقطعاً، وجاء تماماً مؤلفاً ليدل القوم الذين نزل القرآن بلغتهم التى يعرفونها ويبنون كلامهم منها، وقيل فرقت تلك الحروف على السور ولم تعد بأجمعها فى أول القرآن، لإعادة التحدى وتكرير التنبيه والمبالغة فيه، والمعنى هذا التحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف، والمؤلف منها وللإيقاظ لمن تحدى بالقرآن، وللتنبيه على أن المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون إليه كلامهم، فلو كان من عند غير الله لما جرءوا عن آخرهم مع تظاهرهم وقوة فصاحتهم عن الإتيان بما يدانيه، وليكون أول ما يقرع الأسماع مستقلا بنوع من الإعجاز، فان النطق بأسماء الحروف مختص بمن خط ودرس، فأما من الأمى الذى لم يخالط الكتاب، فمستبعد مستغرب، خارق للعادة كالكتابة والتلاوة، ولا سيما وقد راعى فى ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق فى فنه، وهو أنه أورد فى هذه الفواتح أربعة عشر اسماً هى نصف أسامى حروف المعجم، إن لم يعد فيها الألف حرفاً برأسه فى تسع وعشرين سورة بعددها، إذا عد فيها الألف مشتملة على أنصاف أنواعها، قال القاضى هذا القول أقرب إلى التحقيق وأوفق للطائف التنزيل، وأسلم من لزوم النقل إلى العلمية ووقوع الاشتراك فى الأعلام من واضع واحد من حيث إن { الم } علم لسور و { الر } علم لسور و { طسم } علم لسورتين و { حم } لسور، فإن الاشتراك يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية من تعيين المسمى بلا قيد، ووجه كونه أقرب إلى التحقيق أن فيه بقاء للألفاظ على أصل وضعها، فإن الحروف المكتوبة مثلا هكذى { آلم } تقرأ هكذا: ألف لام ميم وقولك اسم للحرف المكتوب، هكذى، أو قولك لام اسم للحرف المكتوب هكذى، وقولك ميم اسم للحرف المكتوب هكذى (م) كما صرح به الخليل وأبو على لاعتوار خواص الاسم كالإضافة والجر والتنوين وأل والجمع، تقول الألف ورأت، وعن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال:
"من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف، بل الألف حرف ولام حرف وميم حرف" وأراد بقوله ألف حرف.. إلخ غير المعنى المصطلح عليه، فإن تخصيص الحرف بالمعنى المصطلح عليه عرف متجدد، بل المراد المعنى اللغوى، ولعله سماه باسم مدلوله كما قال الفخر سماه حرفاً مجازاً تسمية للاسم باسم المسمى لتلازمهما، ووجه كون ذلك القول أوفق للطائف التنزيل، أن الحمل على التحدى معنى لطيف دون التسمية فإنها أمر واضح ظاهر، وقيل حكمة الجمع بين الألف واللام والميم على كل الأقوال أن الألف أعنى الهمزة من أقصى الحلق، وهو مبدأ المخارج، واللام من طرف اللسان وهو وسطها، والميم من الشفه وهو آخرها، فجمع بينهن إيماء إلى أنه ينبغى أن يكون أول كلام العبد وأوسطه وآخره، ذكر الله تعالى، قويل هى حساب أبى جاد لتدل على مدة هذه الأمة، أخرجه ابن إسحاق عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد بن زيات.
"مر أبو ياسر بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهم من اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فأتى أخاه حيى بن أخطب فى رجال من اليهود فقال: تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فى ما أنزل عليه: { الم ذلك الكتاب } فقال: أنت سمعت؟ قال نعم، فمشى حيى فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب }، فقال بلى، فقالوا: لقد بعث الله أنبياء ما نعلم لنبى منهم مدة ملكه ولا أجل أمته، غير أن الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، ثم قال: يا محمد وهل مع هذا غيره؟.. قال: نعم { المص } قال: هذه أطول وأثقل، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون، هل مع هذا غيره؟. قال: نعم { الر } قال: الألف واحدة واللام ثلاثون، والراء مائتان، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم { الم } قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان لقد لبس علينا أمرك حتى لا ندرى أقليلا أعطيت أم كثيراً؟ ثم قال: قوموا عنه. ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريك لعله قد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره" ، وفى رواية حساب الصاد بتسعين، وفى رواية الشيخ هود قال الكلبى: "بلغنا أن رهطاً من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وأبو ياسر دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن: { الم ذلك الكتاب } قال حيى: بلغنى أنك قرأت: { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } نناشدك الله إنها أتتك من السماء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم والله لكذلك نزلت وقال حيى: إن كنت صادقاً فإنى أعلم مدة هذه الأمة، ثم نظر إلى أصحابه فقال: كيف ندخل فى دين رجل إنما ينتهى ملك أمته إلى إحدى وسبعين سنة، فقال له عمر: وما يدريك إنها إحدى وسبعون؟ فقال: هى فى الحساب الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حيى: هل غير هذا؟ فقال: نعم.. قال: ما هو؟ قال: { المص. كتاب أنزل إليك فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين }. فقال هذا أكثر من الأول، هذه واحد وثلاثون ومائة سنة نأخذه من حساب الجمل، قال: هل غيره؟ قال: نعم قال: ما هو؟ قال: { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } قال حيى: هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد لأن كنت صادقاً ما ملك أمتك إلا واحدة وثلاثون ومائتا سنة، فاتق الله ولا تقل إلا حقا فهل غير هذا؟ قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { الر. تلك آيات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }، قال حى: فأنا أشهد أنى من الذين لا يؤمنون بهذا القول، لأن هذه الآية أكثر، هذه واحد وسبعون ومائتا سنة، فلا أدرى بأى قولك نأخذ وأى ما أنزل الله عليك نتبع؟ قال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أنه ما أنزل الله على أنبيائه إلا الحق، وأنهم قد بينوا على ملك هذه الأمة ولم يوقنوا كم يكون ملكهم، فإن كان محمد صادقاً فأراه سيجمع لأمته واحد وسبعون، وواحد وثلاثون ومائة، وواحد وثلاثون ومائتان، وواحد وسبعون ومائتان، وذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا كلهم: قد اشتبه علينا أمرك، فلا ندرى أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى: { هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }" ، قال الكلبى: فواتح السر من المتشابه، وإن قلت كيف يعتبر كلام اليهود، ويجعل تفسيراً للقرآن الكريم؟ قلت: زعم بعضهم أن النبى - صلى الله عليه وسلم - تبسم، وفى رواية ضحك حين حسبوا { الم } بحساب الجمل، وأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم، وتلى عليهم الفواتح على ذلك الترتيب جواباً لغيرهم، هل غير ذلك، فدل ذلك منه على صحة حسابهم، ويبحث بجواز كون تبسمه وضحكه تعجباً من جهلهم وعدموا إنكاره عليهم لظهور بطلان ما قالوا، ولا سيما قد خلطوه بالكفر، مثل قولهم كيف ندخل فى دين من مدته كذا؟ وقولهم لا نؤمن به، وقولهم هذا تخبط، وقولهم لا ندرى بأى أمرك نأخذ. وأما زيادته التلاوة حين استزاده فطمع فى إيمانهم، لعلهم إن لم يهتدوا بهذه اهتدوا بأختها.
قال الجوينى: وقد استخرج بعض الأئمة من قوله تعالى:
{ الم غلبت الروم } أن البيت المقدس يفتحه المسلمون سنة ثلاث وثمانين وخمس مائة، ووقع كما قال، وقال السهولى: لعل عدد الحروف التى فى أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة.
قال ابن حجر وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن أبى جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له فى الشريعة. انتهى. وقي فواتح السورة أمارة جعلها الله عز وجل لأهل الكتاب، بأنه سينزل على محمد كتاباً فى أول سورة منه حروف مقطعة، وقد مر أن فواتح السور اشتملت على أربعة عشر حرفاً نصف حروف المعجم، أعنى حروف التهجى، والتقدير حروف الخط المعجم، أو المعجم مصدر ميمى، أى حروف الإعجام، والفعل على الوجهين أعجم كأكرم وهمزته للسلب، أى لإزالة أعجميته أى إبهامه بالنقط، فإنك إذا نقطت حرفاً تبين بالنقط وتبين ما يشابهه ويلتبس به بعدم النقط كالطاء والظاء والصاد والضاد، وإذا نقطت المتشابهين جميعاً تبين كل بتخالف النقط كالتاء والثاء، والقاف والفاء، وإنما سميت حروف التهجى لأنها تهجى، أى تعد شيئاً فشيئا، ومنه هجاه يهجوه إذا عد ما فيه من المعايب، وتلك الأربعة عشر منها خمسة من حروف الهمس: الحاء المهملة، والهاء والصاد المهملة، والسين والكاف، وهن نصف حروف الهمس، ويجمع حروف الهمس: حث شخصه فسكت، والحرف المهموس ما يضعف الاعتماد على مخرجه، وباقى الأربعة عشر حروف جهر، ويقال لحروف الجهر المجهورة، وهى ما عدا المهموسة من حروف التهجى، وهى ضد المهموسة، والذى شمل فواتح السور من المجهورة نصف المجهورة، ويجمع هذا النصف قولك لن يقطع امرء ويجمع المجهورة كلها، قولك ظل قوريض إذ عزى حند مطيع، وهى ما ينحصر جرى النفس مع تحريكه، ومن تلك الأربعة عشر أربعة من الحروف الشديدة يجمعها قولك: اقطك، ويجمع كل الحروف الشديدة قولك: أجدت قطبك، وإن شئت فقل أجدت طبقك، والأقط ما يعمل من لبن الغنم، وإن شئت فقل أقطك أى أحسبك، يقال قطك هذا الشىء أى حسبك أى كافيك، والقطب ما يدور عليه الشىء، والطبق معروف وهو ما يصنع من سعف أو غيره واسعاً قصير الأطراف المستديرة، وهى للطعام وغيره، والحرف الشديد ما ينحصر جرى الصوت عند إسكانه فى مخرجه فلا يجرى، ولا مانع من وصف الحرف بصفتين وأكثر إذا لم يتنافيا كالحروف المجهورة ككون الحرف همسياً شديداً وجهرياً شديدا، ومن تلك الأربعة عشر: عشرة حروف رخوة يجمعها قولك: حمس على نصره بضم الحاء وإسكان الميم جمع أحمس وهو الشديد الصلب فى دينه وفى القتال، وكذلك باقى الحروف رخوة كذا قيل، والمعروف أن العين والميم والراء والنون واللام بين شدة ورخوة، ويجمعها قولك نل عمر.
واختلف فى حروف المد واللين هل هن من الرخوة؟ ومن تلك الأربعة عشر: حرفان من حروف الإطباق: الصاد والطاء، وبقى من حروفه الظاء والضاد، وحرف الإطباق هو ما ينطبق ما يحاذى اللسان من الحنك عليه عند خروجه، ومن تلك الأربعة عشر نصف الحروف المنفتحة الألف واللام والميم والراء، والكاف والهاء، والعين والسين، والحاء والقاف، والباء والنون، وقيل لا تعد الألف من الحروف، ومن تلك الأربعة عشر حرفان من حروف القلقلة القاف والطاء، وحروفها أربعة: القاف والطاء والدال والباء الموحدة والجيم، يجمعهن قد طبج بالكسر أى فرج، وهى حروف تضطرب عند خروجها، لأنها مجهورة شديدة، فالجهر يمنع النفس عن الجريان معها، والشدة يمنع جريان صوتها، فلاجتماع الوصفين فيها اضطربت واحتاجت إلى التكلف فى بيانها، ومن تلك الأربعة عشر: حرفان من حروف اللين الثلاثية الياء والألف، إذا عددنا الألف حرفاً، من لم يذكره هنا فلأنه عنده غير حرف، أو لأنه ولو كان حرفاً لكنه إما عن باء أو عن واو هنا، والثلاثة من حروف اللين الواو، وسمين بذلك لأنهن يخرجن فى لين بلا تكلف على اللسان لاتساع مخرجها الموجب لانتشار الصوت وامتداده، وإنما لم يذكر فى الأربعة عشر إلا الياء والألف، لأن الياء أقل ثقلا من الواو، وأما الألف فخفيفة، ولم يذكر من القلقلة إلا القاف والطاء. لأن القلقلة قليلة بالنسبة إلى ما يتركب منها لقلتها فى نفسها، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأقل من حروف الاستعلاء، وذلك النصف: القاف والصاد والطاء ومجموعها سبعة، الثلاثة: الخاء والغين والظاء المعجمات بالنقض، وسمين بذلك، وبالحروف المستعلية لتصعد الصوت بها فى الحنك الأعلى، ومن تلك الأربعة عشر نصف البواقى المنخفضة، وهى التى يتسفل الصوت بها فى الحنك الأسفل، ومجموعها اثنان وعشرون، ومن تلك الأربعة عشر: ستة من حروف الإبدال: الألف والهاء والطاء والميم والياء والنون، يجمعهن اهطعين، وهما جبلان من الهضم وهو الكسر كالهضم، ويجمع حروف الإبدال: اجد طويت، منها وهدات موطيا عند سيبوية، واختاره ابن جنى، وزاد بعضهم حروف الإبدال اللام نحو أصيلال، فلامه الأخيره بدل من نون أصيلان تصغير أصلان جمع أصيل، والصاد والزاى نحو: صراط وزراط، فإنها بدل من السين، والفاء نحو جدف فإنها عن ثاء مثلثه، والجدث التبر ونحو فم أصله ثم، وهى حرف عطف والعين نحو أعجبنى عن نفعل، وأشهد عن محمداً رسول الله، الأصل: أن تفعل وأن محمداً، أبدلت الهمزة عيناً وتسمى عنعنة تميم، والثاء نحو ثروغ الدلو، والأصل فروغ أبدلت الفاء ثاء مثلثه، والفروغ جمع فرغ وهو مخرج الماء من الدلو من بين العراقى، والباء نحو بكة أى مكة، ونحو بااسمك بفتح الباء وضم الميم، الأصل ما اسمك وهى لغة مازن، فيكون حروف الإبدال ثمانية عشر فى الأربعة عشر منها تسعة الستة المجموعة فى اهطمين، وثلاثة أخرى اللام والصاد والعين، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأقل مما يدغم فى مثله ولا يدغم فى المقارب، ومجموع ذلك الهاء والهمزة، والعين والصاد، والطاء والميم، والباء والخاء، والعين والضاد، والظاء، والشين، والزاى والواو، والفاء. كذا قال القاضى واعترضه زكرياء بأن فى عده الضاد مما لا يدغم فى مقاربه نظر، أو أن فى القراءات السبع ما يخالفه، وكذا فى الميم والشين والفاء واعترض قوله النصف الأقل بأنه مبنى على: عد الطاء والميم والشين والفاء مما يدغم فى مثله، ولا يدغم فى مقاربه وأن فيه نظراً، ومن تلك الأربعة عشر النصف الأكثر مما يدغم فى مثله ومقاربه ومجموعه الثلاثة عشر الباقية، وذلك الأكثر هو الحاء والقاف، والكاف والراء، والسين واللام، والنون، لما فى الإدغام من الخفة والفصاحة قاله القاصى، واعترض زكرياء قوله الثلاثة عشر الباقية، بأنه مبنى على عد الأربعة السابقة مما يدغم فى مثله ولا يدغم فى المقارب، قال: وهو إن قرأ به فى السبع مخالف لزعمه فى آخر السورة إدغام الراء فى اللام لحن، وعليه فيقال نصفها الأقل ولا تعد الراء مما ذكر ولا يناسبه قوله لما فى الإدغام من الخفة والفصاحة. انتهى.
وكتب على قوله والراء أنه الموافق لزعمه قال فى نسخة والزاى قال وهو وهم على قوله، واعترض قوله والفاء والسين بأنهما يدغمان فى مقاربهما كما يدغمان فى مثلهما، ومن تلك الأربعة عشر: حرفان مما يدغم فيه مقاربه ولا يدغم فى مقاربه وهما الميم والراء، ومجموع ذلك أربعة هما والشين والفاء، من تلك الأربعة عشر ثلثا الحروف الحلقية والذلقية بإسكان اللام نسبة إلى ذلق اللسان، وهو طرفه ولم أقل ذلق اللسان والشفة، لأن اللسان هو العمدة فى خروج هذه الأحرف وإلا فالذلقية مخرجها طرف الشفتين، فإن ثلاثة منها شفهيتان الباء والفاء، والميم، والثلاثة الأخرى يقال لها ذلقية لا شفوية، وهى اللام والراء والنون، وذلك ستة يجمعها قولك رب منفل. والحلقية الحاء والخاء والعين والغين والهاء والهمزة، وثلثا الحلقية والذلقية الراء واللام، والميم والنون، والهمزة والعين، والحاء، وإنما كان منها ثلثاهما الكثرة. وحرف الحلق والذلق فى الكلام، ومن الأربعة عشر سبعة حروف من الحروف التى تجوز زيادتها التى يجمعها قولك: سألتمونيها، أو قولك: أمان وتسهيل، أو قولك: اليوم ننساه، والموجود منها فى الأربعة عشر: الهمزة واللام، والميم والهاء، والياء والسين والنون، وفى ذلك تنبيه على أن أبنية الاسم المزيد فيه المركبة فى كلامهم لا تجاوز سبعة، وتلك الأربعة عشر أكثر ذكراً فى القرآن، وأيضاً هى أن أنصاف أجناس الحروف وثلثاها، وباقى الحروف أنصاف وثلث فقط، على ما رأيت، وبعض تلك الأربعة عشر فى الفواتح مفردة وهى: (ص، ق، ن) وبعضها ثنائية وهى: (طه، طس، يس، حم) وبعضها ثلاثية وهى: (الم والر وطسم) ورباعية وهى (المص والمر) وبعضها خماسية وهى: (كهيعص وحمعسق) وفى ذلك تنبيه على أن منتهى الاسم المجرد عن الزوائد فى كلامهم خمسة أحرف، وأقله حرف، وأن المتحدى به مركب من كلماتهم التى أصولها كلمات مفردة ومركبة من حرفين فصاعداً إلى الخمسة، وذكر الثلاثة المفردة فى ثلاث صور، لأنها توجد فى الأقسام الثلاثة: الاسم والفعل والحرف، وذكر أربع ثنائيات فى تسع سور، وذلك لأن الثنائى يكون حرفاً بلا حذف كبل، وفى الفعل بحذف كقل، وفى الاسم بلا حذف كمن بفتح الميم، وبالحذف كأخ، وأول الثنائى مفتوح أو مكسور أو مضموم، وكل منهن فعل أو حرف أو اسم، فذلك تسعة من ضرب ثلاثة فى ثلاثة، فالاسم كمن وإذ وذو، والفعل كخف وبع وقل، والحرف كبل، ومن بكسر الميم، وهذا إذا جرت ما بعدها، وذكر ثلاث ثلاثيات، وهى (الم والر وطسم) لمجيئها فى الأقسام الثلاثة، الاسم والفعل والحرف فى ثلاث عشر سورة { الم } البقرة، و { الم } آل عمران، و { الم } العنكبوت، و { الم } الروم، و { الم } لقمان، و { الم } السجدة، و { الر } يونس، و { الر } هود، و { الر } يوسف، و { الر } إبراهيم، و { الر } الحجر، و { طسم } الشعراء، و { طسم } القصص، وفى ذلك تنبيه على أن أصول الأوزان المستعملة ثلاثة عشر، للأسماء عشرة وللأفعال ثلاثة، وذكر رباعيين وخماسيين تنبيهاً على أن لكل منها أصلا كجعفر وسفرجل، وملحقاً كقردد وهو المكان الغليظ المرتفع، وجحنفل بجيم فحاء مهملة فنون ففاء فلام، وهو الغليظ الشفة، وتقدمت علة تفريقها فى السور وعدم جمعها فى أول القرآن، ويجوز أن تكون قد فرقت للفائدة المذكورة فى كل قسم من المفردة والثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، ولا يقال ما ذكر من أوصاف الحروف وأقسام الأبنية، والكلمات وأحوالها اصطلاحات مستحدثة، فكيف يقال إنها مقصودة بالقرآن، لأنا نقول الاصطلاحات الأسامى لا المعانى المرادة بها وهى المقصودة، ولأن ما ذكرناه مناسبات يمكن أن تقصد بالقرآن والله أعلم.
ثم إن جعلت تلك الفواتح أبعاض كلمات أو أصواتاً منزلة منزلة حرف التنبيه لم يكن لها محل من الإعراب، كالجمل المبدأة، والمفردات المعددة، وكذا قيل لامحل لها إذا قلنا لا يعلم معانيها إلا الله، وهو مشكل، لأنه يحتمل أن يكون معناها بحيث يكون لها محل، ولأنه يحتمل أن يكون المعنى أقل { الم } أو هذه { الم } مع تسليم عدم المعرفة بمعناه، فتكون معرفة، وإن جعلتها أسماء الله تعالى أو القرآن أو السورة فهى خبر أو مبتدأ أو مجرورة بحرف قسم مقدر أو منصوبة على نزعة، وجملة قولك ألف لام المشار إليها هذا المكتوب { الم } اسم واحد، إذا جعلناها اسماً لله تعالى أو القرآن أو السورة. قال القاضى: ويتأتى الإعراب لفظاً والحكاية فيما إذا كانت مفردة أو موازنة لمفرد كحم فإنه يقرأ بوزن هابيل، وتجب الحكاية فيما عدا ذلك، وأن بقيتها مع معانيها، فإن قدرت بالمؤلف من هذه احروف كانت مبتدأ أو خبرا، والمراد بالحكاية الإسكان، لأن السكون هو حال الكلمة قبل إدخال العامل عليها، ولا يعد فى جواز الحكاية والإظهار إذا وردا جميعاً عن السلف فى ذلك، أو لم يتقين الوارد، أو لم يعلم، وإلا فالقرآن لا يغير عن وضعه والوقف على الفواتح وقف تام، إذا قدرت بحيث لا يحتاج إلى ما بعدها وليس شىء منها آية عند غير الكوفيين، وأما الكوفيون فالم عندهم آية وكذا { المص } و { كهيعص } و { طه } و { طسم } و { يس } و { حم } وفى { حمعيسق } آيتان { حم } آية و{ عيسق } آية، والبواقى ليست بآيات، وظاهر كلام المرشد وهو اسم كتاب أن الفواتح كلها آيات عندهم، وذلك توقيف لا قياس، فلا يحتاج إلى توجيه أو حجة أخرى غير التوفيق، ومن كتب { الم } إلى
{ وأولئك هم المفلحون } يوم الخميس أول النهار فى إناء جديد بزعفران، ومحاها بماء بير عذب، وشربها وأمسك عن الطعام ذلك اليوم، يفعل ذلك ثلاثة مرات، حمد الله تعالى على عاقبته وزاد حفظه، وثبت العلم فى قلبه وكان له يقين، وكان عوناً. على الطاعة والمعرفة. والله أعلم.