التفاسير

< >
عرض

وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا }: لحكاية الحال الماضية، فالمضارع للحال تنزيلا لا تحقيقاً، والأصل أن يقال ما تلت.
{ الشَّيَاطِينُ }: عطف على جملة نبذ فريق، أى نبذوا كتاب الله واتبعوا كتاب السحر التى تقرؤها شياطين الإنس والجن، ويجوز أن يكون تتلوا بمعنى تتبع، أى اتبعوا ما تتبع الشياطين من السحر شياطين الإنس والجن، وبه قال ابن عباس. وقيل: تتلوا تفترى وتكذب، وقيل: فصلوا، ويترجح كون الشياطين شياطين الجن.
قالوا: من كتب { واتبعوا } إلى قوله { يعلمون } فى طست من نحاس أحمر طاهر الجسم والثياب وبخرها بلبان، ومحاها بالماء وشربها فى بيت، بطل ما به وزال عنه، وإن كتبت سحرا فى أربع أوراق زيتون ودفنت فى أربعة أركان البيت الذى فيه البق مات، ومن كتبها فى إناء وغسلها بماء كرفس وشربها على الريق نفعت من نزف الدم ووجع الأرياح.
{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ }: أى على عهده وذلك أن الشياطين دفنوا كتب السحر تحت كرسيه ومصلاه وبيت خزانته حين نزع ملكه، وتأتى قصة نزعه ورده فى محلها، وقيل قبل نزعه ولم يشعر بذلك وقرءوه واتبعوه ورسموه على لسان آصف كذبا عنه، هذا ما علم آصف بن برخيا من خزانة بيت المقدس سليمان الملك، ولم يشعر سليمان بذلك، وقيل كانت الشياطين تسترق السمع، بل تدخل السماء وتضم إليه الأكاذيب كلمة بمائة كذبة، وقيل سبعين وتلقيه إلى الكهنة فيكتبونه، وفشا ذلك وشاع بيان أنّ الجن تَعْلم الغيب، واشتغلوا بالسحر وكتبوه، روى الحاكم عن ابن عباس: كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ويلقونها إلى الكهنة، وهم يدونونها، فجمع سليمان الكتب ودفنها تحت سريره، وقال: لا أسمع أحداً يقول إن الجن يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها.
وروى أن إبليس دلهم عليها تحت كرسيه، وهو بصورة رجل من الإنس وقعد بعيدا، وقالوا له: ادْنُ، فقال: إنى صادق ولا أدنو ولكن احفرا فإن لم تجدوا فاقتلونى، وسبب تباعده أنه لا يدنو من كرسيه شيطان إلا احترق وهذا ينافى ما ذكر من أنه الشياطين دفنوها تحت كرسيه فوجدوا فيها السحر والشرك، فقالوا: إنما ملككم سخرت له الجن والإنس والريح والدواب والطير بهذا فتعلموه ورفضوا كتب أنبيائهم، وأنكر عليهم صلحاؤهم وقالوا معاذ الله أن يكون هذا العلم من علم سليمان، وفشت الملامة لسليمان فكان بعضهم يبرئ منه سليمان، وبعض ينسبه لسليمان، ويقول: إنه ساحر ويلومه قبل رجوع ملكه وبعده فى نفسه، ومع صاحبه وشاع، وبعض كان يقبله ويعلم أنه سحر ولا يسبه به حتى قالت السحرة من اليهود أخذنا السحر عن سليمان، وأنه كان خيراً منا يتعلم ما تعلمنا، ويفعل ما نفعل، ولذلك كان أكثر ما يوجد السحر فى اليهود، قال بعض اليهود فى زمان رسول الله، صلى الله عليه وسلم: انظروا إلى محمد يذكر سليمان فى الأنبياء وما هو إلا ساحر، فنزل قوله تعالى رد عليهم:
{ وَمَا كَفَرَ }: ما عمل كبيرة شرك ولا كبيرة دونه.
{ سُلَيْمَانُ }: بالسحر أى لم يعمل السحر ولم يعلمه فضلا عن أن يكفر به، وكان مقتضى الرد أن يقول وما عمل سليمان السحر، ولكن قال بدل ذلك { ومَا كَفَرَ } إيذانا بأن السحر كفر، وبأن من كان نبياً معصوم عنه إذ كان كفراً.
{ ولكنّ الشَّيَاطِينَ }: بالتشديد والفتح فى لكن، ونصب الشياطين وكذا التشديد فى قوله تعالى: { ولكنّ الله قتَلهم }، { ولكن الله رمى } وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائى بكسر النون مخففة، ورفع ما بعدها، وقرأ الحسن: الشياطون بالواو وفتح النون، لأن من العرب من يعرب مثل ذلك كجمع المذكر السالم وهو مخفف لنون لكن، وسمع بستان فلان حوله بساتون.
{ كَفَرُوا }: بتعلم السحر للعمل به وتعلمه وكفراً يعم الشرك وما دونه، فإنما كان من السحر مناقضا للتوحيد أو النبوة أو الرسالة أو الوحى شكر كاعتقاد أن الكوكب هو المؤثر كما يدل له حديث مسند الربيع أصبح من عبادى مؤمن وكافر، أو إن فعله مؤثر بنفسه لا بالله، عزَّ وجل ـ ما كان غير ذلك فكبيرة دون الشرك، وأما تعلمه لا للعمل به، فقيل مكروه وقيل حرام وقيل حلال وقيل إن تعلمه ليعمل به فحرام أو ليتوقاه فمباح وإلا فمكروه، بل تعلمه لئلا يغتر به، أو ليتوقاه يكون عبادة إذا أحتاج إلى ذلك، وعن أبى حنيفة وأحمد ومالك: يكفر بتعلم السحر وبتعليمه، وقال بعض الحنفية: إن تعلمه ليجتنبه لم يكفر، وإن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفع كفر، وإن اعتقد أن الشياطين تفعل للساحر ما يشاء كفر، وعن الشافعى: من تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر كفر، مثل ما يعتقد أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها وإلا فلا، إلا أن اعتقد إباحة السحر، ولفظ الكفر شامل لذلك، وليس من استعمال الكلمة فى معنييها، لأن الكفران موجود فى الشرك وفى الكبيرة التى دونه جميعا.
{ يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }: هذا تبيين لسبب وصفه إياهم بالكفر، وهو تعليم السحر وهو سبب ظاهر يتضمن سبباً آخر، وهو تعلمه، فإن تعليمك الشئ فرع علمك أو تعلمك، ويراد بالشياطين شياطين الإنس والجن كما مر، وتترجح كونهم شياطين الجن، ويجوز أن يراد هنا بالشياطين اليهود المعنيون بقوله: { واتبعوا }. وإن قلت: فما تعليم الجن للسحر، قلت: كتابتهم إياه، فإن الكتابة تعليم لقارئها وسامعها ووسوستهم أيضاً به فى الصدور، ومشافهتهم أيضا، والجملة حال من واو كفروا أو مستأنفة. وإنما يتم السحر بالتقرب إلى الشياطين، ولا يتصور ممن ليست نفسه شريرة خبيثة، فإن فعله لم يتم له، ومثل ذلك عين المعيان واستخدام الجان والتصرف بالأعمال معهم لا يتم بالعمل فى الأسباب لمن ليست نفسه كذلك، أما استخدامهم والتصرف بالتقوى فكثير واقع مثل ما وقع لإمام العلم والدين الشيخ أبى عبدالله محمد بن بكر ـ رحمهُ الله ـ وغيره من أصحابنا رحمهم الله، قال القاضى: المراد بالسحر ما يستعان فى تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان، وذلك لا يستقيم إلا لمن يناسبه فى الشرارة وخبث النفس، فإن التناسب شرط فى التضام والتعاون، وبهذا يميز الساحر عن النبى والمولى. انتهى وذلك ما فيه تخييل غير الموجود موجود، أو تخييل موجود غير موجود، وتخييل قلب الأعيان وما يمرض أو يميت أو يجن ونحو ذلك، وأما ما يكون بحدة الفطنة والفكر والتخييل مع معونة الآلة والأدوية والعقاقير وخفة اليد، فليس بالسحر المذموم شرعاً، ولكن سحرا حقيقاً فى اللغة، لأن السحر فيها كلما دق من أعلم أو علم أو عمل وخفى سببه، ومن ذلك سحر سحرة فرعون رضى الله عنهم، لأنهم طَلوا خشبا وعصيا وحبالا بالزئبق وأدخلوه فيها فتحركت بالزئبق بواسطة حرارة الشمس، فتسمية مثل هذا سحرا بالنظر إلى اللغة، وإنما كفروا قبل التوبة بمكابرة موسى بذلك، وقيل تسمية ما كان كذلك سحرا مجازا، وليس كما قيل إلا إن أراد أنهُ مجاز شرعا، فإن السحر لغة هو ما تقدم من العلم أو العمل الدقيق الخفى، وزعم شيخ الإسلام عن روضة النووى وغيرها من كتب النووى أن ذلك النوع مذموم محرم، وليس كذلك فإن مراد النووى غير ما ذكر، وإنما يحرم إن قارنه إيهام أنه سحر أو نحو ذلك من المحرمات، ويطلق لغة أيضا على إلا زالت، وصرف الشئ عن وجهه تقول العرب: ما سحرك عن كذا، أى ما صرفك، وذلك معنى حاصل فى السحر المحرم، وعرف بعضهم بأنه عبارة عن التمويه والتخييل، وليس بجامع لأنه لا يشمل سحرا سحر التمريض والإجنان والإمامة إذا كان بلا تخييل، وقيل السحر علم بكيفية استعداد تقتدر بها النفوس البشرية على ظهور التأثير فى عالم العناصر، أى فى نوع الطبائع، والصحيح أن السحر حق بمعنى أنه شئ ثابت يكون سببا فى المضرة والتخيل، وخالق المضرة والتخييل هو الله هل من خالق غير الله، وقد بسطت الكلام على ذلك فى تحفة الجب فى أصل الطب، ويدل لذلك حديث سحر اليهود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا مذهبنا ومذهب الشافعى وأحمد ومالك، وزعم أبو حنيفة أنه لا حقيقة له ولا تأثير فى الجسم، وبه قال أبو جعفر الأشتراباذى من الشافعية وهو حرام. قال: صلى الله عليه وسلم،
"اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والزنى والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة. وفى الحديث: "اقتلوا الساحر" وروى جندب أنهُ صلى الله عليه وسلم قال: "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الترمذى، وأخرج مالك فى الموطأ أن حفصة رضى الله عنها، زوج النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قتلت جارية لها سحرتها، وقد كانت دبرتها، فأمرت بها فقتلت، فما كان شركا قتل به الساحر لكفره: فإن تاب لم يقتل، وما لم يكن شركا فلا يقتل به، بل ينكل أو يعزر إلا أن قتل أحداً بسحره وتبين فإنهُ يقتل به قصاصا، إلا أن عفى الولى فيعزر أو ينكل هذا ما عندى وهو المناسب للمذهب، وهو قول الشافعى وأحمد ومالك: وقال أبو حنيفة: لا يقتل إلا إن تكرر منه القتل به. وعنهُ: أنهُ لا يُقتل إلا إن أقر أنهُ قَتل إنسانا بعينه، وقيل: يُقتل الساحر ولو لم يكن فى سحره شكر ولا قتل، وقد قتل بعض السلف رجلا يخيل أنهُ يكون الرجل حمارا بسبب يفعله، وعلى هذا القول تقتل هؤلاء المغاربة التى فوق مغربنا، هذا من السوس أو غيره يخيلون أنهم يضربون وجوههم بحديد، ويتعلق بها ويمشون على حبل فى الجو ونحو ذلك مما يقال لهُ النيرنجات والشعبذة ومشهور الشافعية أن مثل هذا يعزر به أو ينكل ولا يقتل إلا إن قارنهُ شرك أو قتل مثل ما نقول، وقيل: يقتل الساحر ولو تاب. كما يُرْجم الزانى ولو تاب. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة وجماعة من الصحابة. وقال مالك فى من يعقد الرجال عن النساء: يعاقب ولا يقتل. وعن مالك وأحمد: يقتل بمجرد تعلمه واستعماله، وفى رواية عن أبى حنيفة وأحمد أنهُ لا يقتل الساحر إن تاب، ووجه القول يقتل الساحر مطلقاً ولو لم يقتل، ولو تاب، حديث: "اقتلوا الساحر" ووجه تقييد الحديث بمن أشرك بسحره أو قتل أنهُ ليس بأعظم من سائر المشركين، ولا من مشرك قاتل، وقد صحت توبتهما أو سقط القتل بالعفو، فإن تاب غير نصوح وكان فى إبقائه ضرر قتل فيما قيل، وسواء فى قتل الساحر الموحد والمشرك على ما مر، والرجل والمرأة، وقال الشافعى وأحمد ومالك: إنهُ لا يقتل الكتابى. وقال أبو حنيفة: تحبس الساحرة ولا تقتل.
{ وَمَا أنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ }: عطف على السحر، والمراد واحد فإن ما أنزل عليهِِ ما هو السحر، ولكن عطف عليهِ للتغاير باللفظ أو بالاعتبار فإن الفعلة الواحدة إذا صدرت من إنسان غير التى صدرت من آخر، ولو تماثلتا، فإن الفعل الواحد لا يقدر من فاعلين، ويجوز أن يكون المراد بالسحر غير ما أنزل عليهما، ثم عطف عليه ما أنزل عليهما بأن يكون السحر المذكور نوعاً، وما أنزل عليهما نوعا آخر منه كالتفريق بين المرء وزوجه، ويجوز عطفه على ما تتلو الشياطين، والملكان أنزلهما الله سبحانه وتعالى إلى الأرض، وأنزل عليهما السحر بواسطة ملك آخر بإلهام ليعلماه الناس ابتلاء من الله جل وعلا للناس، ويميز بين السحر والمعجزة إذ خفى على أهل بابل الفرق بينهما، فقد يدعى واحد منهم النبوة بالسحر فيظهر بتعليمهِ أنه سحر، أو خفى على أهل الأرض فيؤخذ من بابل فيتميز مدعى النبوة من الساحر، ويفضح أهل بابل مدعيها بالسحر ولو من غير أرضهم، وتعليم الملكين الناس السحر عبادة منهما إذا نزل عليهما ليؤدياه للناس، وابتلاء للناس هل يجدون السحر كما خلق الخنزير ونهى عن أكله، وخلق المعاصى ونهى عنها، وخلق ما يعصى به ونهى عنه، وله أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنى إسرائيل بنهر طالوت كما قال:
{ { فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى إلا من اغترف غرفة بيده } وليس فى ذلك تلبيس الدين لغيره لأنه تعالى قد خلق الطاعة وأمر بها، وبين الحلال والحرام، وكان الملكان بإذنه تعالى لا يعلمان أحدا السحر حتى يقولا:{ إنما نحن فتنة فلا تكفر } هذا هو الحق عندى، ويحتمل على بعد أن يكونا متعمدين تعليم السحر بالذات، بل يعلمانه بالغرض بأن يريا الناس يدعون النبوة بالسحر، ويخوضونه لغير ادعاء النبوة أيضا، فكانا يصفان السحر للناس ليعرفوا بطلان ادعاء النبوة ممن يدعيها به، وليتركوه فلا يفعلوا فيه إذ قد يفعل الإنسان فعلا أو قولا يكون سحرا ولا يدرى أنه سحر، ويقولان قبل أن يصفاه للناس: { إنما نحن فتنة فلا تكفر } لأنها قد علما أنهما إذا وصفاه للناس على جهة التحذير عنه تعلموه ليعلموه، وما ذكر على أن ما موصولة أو موصوفة، وضمير أنزل عائد إلى ما، وقيل هى نافية وضمير أنزل عائد إلى السحر وعليه فهى وما بعدها جملة معطوفة على قوله: { ما كفر سليمان } قلت: هذا ينافى قوله: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا } إنه يقتضى أنه نزل عليهما السحر فكانا يعلمانه الناس، ولعل صاحب هذا القول يقول: إن المعنى ما أنزل على الملكين السحر على أنه حلال لمن يتعلمه أو يعلمه لغيره، ولكنه أنزل ابتلاء وفرقا بين الساحر والنبى. وقال مجاهد وغيره إن الله أنزل على الملكين ما يفرق به بين المرء وزوجه فقط دون السحر. انتهى. فتكون ما موصولة وفى عطفها ما مر من كونه على السحر أو على ما تتلو، وقيل إن اليهود قالوا: إن السحر أنزل على جبريل وميكائيل فى بابل، ورد عليهم الله فتكون ما نافية، ويرده أنه لم يصح تسميتها بهاروت وماروت إلا إن كانت تسمية من اليهود محدثة فذكرها الله، وقيل المراد بالملكين رجلين صالحين سميا ملكين باعتبار صلاحهما، وعليه فما موصولة أو موصوفة أو نافية على ما مر أيضاً، ويؤيده قراءة الحسن: الملكين (بكسر اللام) فهما سلطانان عادلان ببابل يتعلق بأنزل، أو بمحذوف حال من الملكين ويضعف كونه حالا من المستتر فى أنزل، وبابل بلد من أعمال الكوفة من العراق، سمى لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود، كما يأتى بمحله، وقيل هو بلد فى نهاوند، والأول أصح وأشهر.
{ هَارُوتَ ومَارُوتَ }: عطف بيان أو بدل من الملكين، ومنع صرفهما للعلمية والعجمة، ولو كانا بحسب الأصل وصفى مبالغة من الهرت والمرت بمعنى الكسر، ثم كانا علمين على الملكين كما قيل لا تصرفا لبقائهما على العلمية وحدها، وقد يقال أنهما كذلك من الهرت والمرت بمعنى الكسر فى لغة بعض العجم، كما أن المرت فى لغة بعض الروم قريب من معنى الكسر، ويدل على البيان والبدل قراءة بعضهم بالرفع، أى هما هاروت وماروت، وهى قراءة الزهرى. ومن جعل ما نافية فى قوله: { وما أنزل على الملكين } جعل هاروت وماروت فى قراءة الفتح بدل بعض من الشياطين فى قوله: { ولكن الشياطين } على أنهما من الشياطين لا من الملائكة، فيكون ما بين ذلك معترضا، أو النصب على الذم، وإن قلت إذا كان الملكان ببابل فلم لا نسمع أن أهل تلك البلاد اليوم ومن قاربها يصلونها، وكذا من يأتيها، قلت: قال الحسن: إن الملكين ببابل إلى يوم القيامة وإن من عزم على السحر ثم أتاهما سمع كلامهما من غير أن يراهما ويلقاهما بالنظر، انتهى. وحفظت أن امرأة جاءتها على عهد عائشة ثم جاءت تسألها، وقد تابت من السحر، وقالت تعلمته ولم أعمل به ولم أحفظ أنها رأتهما، وحفظت أيضا أن يهوديا ذهب إليهما بمسلم وقال: لا تذكر الله، فلما دخل إليهما فى منحدر من الأرض كفار فرأياهما فذكر المسلم الله فتحرك تحريكاً شديداً له صوت مفزع فرجعا هاربين، وحفظت أنهما ألبسا حديدا من ركبهما إلى مناكبهما، وأن عجوزا رأتهما وتعلمت منهما فزعمت عن نفسها أنها تزرع وتحصد فى ساعة، وما تحب شيئاً إلا كان، وحفظت أنهما منكوسان على رءوسهما معلقان بأرجلهما بينهما وبين الماء شئ قليل، وقد قيل إنهما منكوسان يضربان بسياط الحديد، وبه قال عمر بن سعيد، وقال عطاء بن أبى رباح: رءوسهما مطوية تحت أجنحتهما، وقال قتادة: جعلت فى جب ملئت ناراً وأنه قصدهما رجل ليتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما مزرقّة أعينهما مسودّة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا قدر أربع أصابع، يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله فقال: لا إله إلا الله، فلما سمعا كلامه قالا: لا إله إلا الله من أنت؟ قال: رجل من الناس، فقالا: من أى أمة؟ قال: من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالا: أوقد بعث محمد؟ قال: نعم. فقالا: الحمد لله وأظهرا الاستبشار، فقال الرجل: مم استبشاركما؟ قالا: إنه نبى الساعة، وقد دنا انقضاء عذابنا، فيحتمل أنهما كانا يريان ثم أخفيا أو يظهران لأحد من الناس، بأن يقصد قاصد محلهما، فقد يظهران، وقد لا يظهران له، وتعذيبهما بالعطش يدل أنهما من البشر أو من الملائكة، طبُعا طبع البشر فى الأكل والشرب كما قد قيل، وكذا وصفهما بالجلد وزرقة العيون، ويروى أنهما متعلقان بشعورهما فوصفا بالشعر، ولا يكفر قائل ذلك لا يعصى، لأنه من جملة ما يروى فى الآثار من الفروع وإنما قلت من الفروع، لأن من وصف بلفظ الملائكة مطلقا بلحم ودم أو نحوهما، وغير صفات الملك عاص عندى، ولا أحكم بكفره إلا أن وصف الملائكة عموما بذلك، فإنه كافر لأن وصفه إياهم بذلك إبطال لجملة الملائكة.
وقد ذكر الشيخ هود ـرحمه الله ـ عن مجاهد: أن الملائكة عجبت من ظلم بنى آدم، وقد جاءتهم الرسل بالكتب، فقال لهم ربهم: اختاروا منكم اثنين يحكمان فى الأرض، فكانا هاروت وماروت فحكما فعدلا، حتى نزلت عليهم الزهرة فى صورة امرأة حسناء، فقالا لها تعالَىْ فى البيت، فكشفا لها عن عورتهما، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت فى السماء، فزجرا فاستشفعا برجل من بنى أدم فقالا له: سمعنا ربك يذكرك بخير، فقال: كيف يشفع أهل الأرض فى أهل السماء؟ ثم واعدهما يوما يدعو لهما فدعا لهما، فخيِّرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى الأخر فقال: ألم تعلم أن أفواج عذاب الله فى الآخرة كذا وكذا فى الخلد أيضاً فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذبان ببابل. انتهى.
وفيه دليل على خلود الفاسق، إذ كشف العورة فسق دون الشرك، وقد تجنبا الخلود به. اختارا عذاب الدنيا. قالرحمه الله : ذكروا عن على بن أبى طالب أنه قال: كانت الزهرة امرأة جميلة معجبة ملكت أهل فارس فخاصمت إلى الملكين فراوداها، فقالت لا أفعل حتى تعلمانى الاسم الذى إذا تُكلِّم به عرج إلى السماء، فعلماها إياه فعرجت فمسخها الله كوكبا، وذكروا عن ابن عباس أنه قال: أتتهما امرأة تخاصم إليهما فافتتنا بها فراوداها على نفسها فقالت لا أمكنكما من نفسى حتى تشربا هذه الخمرة وتعبدا هذا الصنم، وجاءهما رجل فقتلاه فخافت أن تقول عليهما، ذكروا عن صفوان ابن سليم أنه قال: ما نهض ملك من الأرض إلى السماء حتى يقول لا حول ولا قوة إلا بالله. وذكروا عن ابن عمر أنه كان يقول إذا رأى الزهرة: لا مرحبا بك ولا أهلا، وذكروا عن ابن عباس أنه قال: أتدرون ما كانت تسمى هذه الكوكبة الحمراء فى قومها يعنى الزهرة؟ قال: كانت تسمى نبدوحة، وذكروا عن على أنها كانت تسمى أناهية.
ونقل عنه وعن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدى والربيع ـ غير الربيع بن حبيب راوى أبى عبيدة ـ بألفاظ متقاربة يزيد بعضها على بعض أن الملائكة لما رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بنى آدم الخبيثة فى زمان إدريس عليهِ السلام، فقالوا: لربهم: هؤلاء الذين جعلتهم فى الأرض واخترتهم وهم يعصونك، فقال الله عز وجل: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا. قالوا: سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نعصيك. قال الله تعالى: اختاروا ملكين من خياركم أهبطهما، وكان اسم هاروت غرا واسم ماروت عراما فغير اسمهما لما قارفا الذنب، وركب الله فيهما الشهوة وأهبطهما إلى الأرض، وأمرهما أن يحكما بين الناس بالحق، ونهاهما عن الشرك والقتل بغير الحق، والزنى وشرب الخمر، فكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، فما مر عليهما شهر حتى افتتنا، وقيل: افتتنا فى أول يومهما، وذلك أنهُ اختصمت إليهما امرأة، يقال لها الزهرة، وكانت من أجمل أهل فارس، وقيل: كانت ملكة، فلما رأياها أخذت بقلوبهما، فقال أحدهما لصاحبه: هل سقط فى نفسك مثل الذى سقط فى نفسى؟ قال: نعم، فراوداها عن نفسها، فأبت وانصرفت، ثم عادت فى اليوم الثانى ففعلا مثل ذلك، فأبت وقالت: لا إلا أن تعبدا هذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر، فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت فى اليوم الثالث ومعها قدح خمر، وفى أنفسهما من الميل ما فيها، فراوداها عن نفسها فعرضت ما قالت بالأمس، فقالا: الصلاة لغير الله عظيم وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا فلما سكرا زنيا بها فرآهما إنسان فقتلاه خوف الفضيحة، وقيل إنهما سجدا للصنم، وقيل: جاءتهما امرأة من أحسن النساء تخاصم زوجها، فقال أحدهما للآخر: هل سقط فى نفسك مثل الذى سقط فى نفسى؟ قال: نعم. قال: هل لك أن تقضى لها على زوجها؟ فقال له صاخبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة؟ فسألاها نفسها. فقالت: لا إلا أن تقضيا لى على زوجى، فقضينا. ثم سألاها نفسها. قالت: لا، إلا أن تقتلاه، فقال أحدهما لصاحبه: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب، فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها فقالت: لا، إلا أن صليتما معى عند صنم لى، فقال أحدهما لصاحبه مثل القول الأول، فرد عليه مثله فصليا معها عنده، فمسخت شهاباً. وقال على بن أبى طالب: قالت بعدما صليا عنده لن تدركانى حتى تخبرانى بالذى تصعدان به إلى السماء فقالا: الاسم الأكبر، فقالت: فما أنتما بمدركانى حتى تعلمانى إياه، فقال أحدهما للآخر: علمها. فقال: إنى أخاف الله. فقال الآخر: فأين رحمة الله؟ فعلمها ذلك فتكلمت به فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكبا، فقيل: إنها هى الزهرة، وقيل إن الزهرة من الذرارى التى أقسم الله بها، قال:
{ { فلا أقْسِمُ بالخُنَّس الجَوَارِى الكُنَّس } ولا يقسم الله بامرأة كافرة، والتى فتنتهما تسمى الزهرة لجمالها تشبيها بذلك الكوكب، ومسخت شهابا لما بلغت، فلما قارفا الذنب همّا بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتها، فعلما ما حل بهما فصعدا إلى إدريس النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما عند الله ـ تعالى ـ وقالا له: رأينا أنهُ يصعد لك من العبادة مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض، فاشفع لنا عند ربك، ففعل ذلك إدريس، فخيَّرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنهُ ينقطع، فهما ببابل يعذبان معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة.
هذه رواية، وعن القاضى البيضاوى وعياض وابن عرفة والفخر الرازى: ما يروى فى ذلك من مراودتهما المرأة، وشرب الخمر، وقتل النفس والصلاة، للصنم، غير صحيح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا عن على وابن عباس وغيرهما من الصحابة، بل كذب عنهم وإنما ذلك من أخبار اليهود وكتبهم وافترائهم، ولا يؤخذ ذلك بقياس، وأنكر كثير من السلف ذلك أيضا.
قال القاضى: ولعله من رموز الأوائل، وحله لا يخفى على ذوى البصائر، يعنى أنه مثل كلام الصوفية وإشارتهم، وأن بيانه لا يخفى على ذوى البصيرة، قال زكريا الملقب بشيخ الإسلام: يعنى أنه عبر عن العقل والنفس المطمئنة بالملكين، وعن النفس الأمارة بالسوء بالزهرة، وعن مفارقتهما بالموت بالصعود إلى السماء. انتهى.
وأقول: حمل القرآن على أمثال هذا جهل وضلال، وإخلال بإعجازه وبلاغته، ولا أرى شيئا من طريق الصوفية صحيحا إلا ما وافق القرآن والسنة، ولم يوقع فى إيهام وإلباس، وذكر ان حجر أن ذلك المروى عن هاروت وماروت له طريق بعيد العلم بصحته، وإن أحمد بن حنبل وابن حيان والبيهقى وغيرهم، وأنه ثبت عن على وابن مسعود مرفوعا بأسانيد صحيحة، وأظن أن الفخر والقاضى ومن ذكر معهما، قد أنكروه، مع علمهم برواية أحمد وابن حيان وغيرهما، لعلمهم أن فى الإسناد ضعفا وبطلانا، ولأن الملائكة معصومون على الإطلاق، كما هو مذهبنا ومذهب محققى مخالفينا وجميع المعتزلة من الكبائر والصغائر، وزعمت طائفة أنهم غير معصومين، محتجين بقصة هاروت وماروت، فنجيب بأنها لم تصح كما مر لم آنفا، وأنها مأخوذة من اليهود، وهم كاذبون على أنبيائهم وغيرهم، وقد حكى الله ـ جل وعلا ـ فى الآية، كذبهم على سليمان بقوله سبحانه:
{ { لا يَعْصونَ اللهَ ما أَمَرَهَمُ } وهذه حجة قوية على العصمة، وأما الاستدلال على بطلان القصة كما فعل بعض بأن قولهم: سبحانك ما كان ينبغى لنا أن نعصيك بعد قول الله لهم: لو ابتليتكم بما ابتليت به بنى آدم لعصيتمونى فيه، رد على الله عز وجل وذلك كفر، وقد فرض الكلام أنه عصموا فإنّهُ يصح للخصم أن يقول: مرادهم مجرد تنزيهه عن أن يكون أهلا للمعصية لا الرد على قوله لعصيتمونى، نعم يصح الاستدلال على بطلان القصة بأن فيها ما لا يصلح، وهو تخييرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، مع أنهما قد تابا، فإن من تاب لا يعذب بالنار، إلا أن تكلف الخصم بأن المراد عذاب الحشر وتألمه، فإن الملائكة لا ينالهم فيقول إنهما ينالهما تطهيرا من الذنب فعوضا عنه عذاب الدنيا، أو بأنهما يدخلان النار ويخرجان منها، وعوضا عن ذلك عذاب الدنيا، وهذا يمكن أن يكلف به من يسقط الخلود عن الموحد إذا فسق، ونحن لا نقول بذلك. ومما يضعف القصة فيما قيل إن فيها أن المرأة مسخت كوكبا هو الزهرة، وقد أقسم الله ـ جل وعلا ـ بالزهرة فإنهُ لا يقسم بمشرك، وما لا قَدْر له، ويبحث بأن الخصم قد لا يسلم أن الزهرة داخلة فى قوله: { { بالخُنَّس الجَوَارِى الكُنَّس } وبأنها لما مسخت زهرة بقيت ثلاثة أيام أو أقل، ثم فنيَتْ وخلق الله نجما من مثل ذلك يسمى زهرة، كالنجم الذى تبدل منها، وأما رسل الملائكة فقد اتفقوا على عصمتهم فى جانب الإبلاغ، كاتفاقهم على عصمة الرسل فى جانب الإبلاغ، واختلفوا فى غير الإبلاغ والحق عصمتهم فى غيره أيضاً.
{ ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أحَدٍ }: صلة للتأكيد وأحد المفعول الأول والثانى محذوف أى وما يعلمان أحدا السحر، أى ما يُلقنانه أحدا ويُفهمانه إياه، وهذا على أنهما يعلِّمان الناس السحر ابتلاء من الله للناس، ويجوز أن يكون المعنى: وما يعلمان من أحد السحر وتحريمه والنهى عنه، وهذا على أنهما يصفانه للناس ليعرفوه فيتقوه، ويردوا على مُدّعى النبوة أو علم الغيب به، وابن الأعرابى لما أراد هذا الاحتمال الثانى، وقد اقتصر عليه جعل يَعلِّمان فى الآية بمعنى يَعْلَمان بإسكان العين وتخفيف اللام، أى يشعران الناس ويخبرانهم بالسحر وينهيانهم عنه: وأقول: يؤيده قراءة طلحة يعْلمان بإسكان العين، ويرده أن تَعَلّم بفتح التاء والعين واللام مشددة، وإسكان الميم بمعنى اعلم، لا يتصرف فيهِ بإسقاط تائه وبناء علم بالتشديد وفتح الميم، ولا ما يتصرف من علم بالتشديد ولا بزيادة حرف المضارعة وتصييره مضارعا بأن يقول يتعلم بمعنى يعلم ولا بما يتصرف من يتعلم. قال ابن هشام: وتعلم بمعنى اعلم لا يتصرف فيهِ، ومنهُ قول زهير:

تَعلّمْ رسول الله أنك مدركى وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

وقول زهير:

فقلت تعلم أن للصيد غرة

وقول زياد بن يسار:

تعلم شفاء النفس قهر عدوها

وأما ما رواه الدمامينى والشيخ خالد عن يعقوب بن الكسيت أن من العرب [من] قد يقول تعلمت أن زيدا خارج بمعنى علمت، فقيل لا ينهض حجة لقتله وعدم ورود غيره من التصاريف بعد الأمر على ابن هشام، والأعلم قبله فلا يحمل عليه القرآن.
{ حَتَّى يَقُولاَ إنّما نَحْنُ فِتْنَةٌ }: يقولون هذا نصحا لمن جاءهما لتعلم السحر، أى إنما نحن ابتلاء من الله للناس، أرسلنا الله نعلم السحر لمن جاءنا، فيسعد من اتقى الله ولم يجئنا للسحر، أو جاء ليعلمهم فيتوقاه ويميزه عن المعجزة، ويشقى من جاء ليتعلمه فيعمل به أو ليعلمه لمن يعمل به، ففى الآية دليل على جواز تعلم ما لا يجوز عمله، بنية توقيه وتمييزه والعلم به، لينهى عنه إذا رآه، كمعرفة الأزلام والأنصاب والميسر، وما معرفة ذلك إلا كما نعرف مذهب المخالفين لنتوقاه ما وجدنا عنه سعة، وكما نعرف ديانتهم المختصين بها لنتوقاها أصلا، وكما نعرف الخمر لنتركها ونهرقها وننهى عنها ونحد، ونميزها عن الخل، فإن معرفة الشئ تزداد بمعرفة ضده ونقيضه، ولا يجب عندى بعد استفراغ وسعى، معرفة مذهب المخالفين وديانتهم، بل الواجب معرفة الحق فقط ما لم يقارف سواه مما يدرك بالعلم، ويجوز أن يكون المعنى: إنما نحن مفتونون ولسنا على حق، بل على باطل، لكن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا إنهما رجلان لا ملكان، والوجه الأول على أنهما ملكان.
{ فَلاَ تَكْفُرْ }: بعمل السحر واعتقاد جوازه والدخول فيه، كما لا يجوز وهذا على أنهما ملكان أو رجلان، ويجوز على أنهما رجلان أن يكون المعنى: فلا تكن كافرا مثلنا، وإذا قالا إنما نحن فتنة فلا تكفر وأبى إلا التعلم علماه، وقيل يقولان له سبع مرات فإن أبى علماه، وحفظت أن امرأة جاءتهما لتعلم السحر، فقالا لها ذلك، وقالا لها: ارجعى، فأبت، فقالا لها: بولى فى ذلك التنور، فذهبت إليه ورجعت وقالت: قد فعلت، فقالا لها: فماذا رأيت قالت: ما رأيت شيئا، فقالا لها: كذبت ارجعى وبولى فيه، فبالت فرجعت إليهما فقالت لهما: قد بلت. فقالا: ما رأيت، قالت: رأيت فارسا خرج منى مقنعا بحديد وصعد إلى السماء، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، وذكروا أنهما يقولان لمن أراد السحر بعد ما ينهيانه عنه ويأبى: اذهب إلى ذلك الرماد فبُلْ فيه، فإذا فعل ذلك خرج منه نور ساطع فى السماء وهو الإيمان والمعرفة، وينزل شئ أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه، وذلك غضب الله، فترى يا أخى متعاطى السحر يقع فى الشرك من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم، ولا سيما من يتناوله من اليهود أو يتعلمهُ منهم، ولا نحكم عليه بالشرك حتى يتبين فى فعله أو قوله شرك، وقد ذكر بعض الأئمة أن السحر لا يصح إلا من كافر، لأن الأرواج التى تعينهم على القتل قد أخذ أكابرها عليها العهود أنها لا تعين ساحرا، إلا إن خرج من دين الإسلام، وأنه يؤيد ذلك ما قصّهُ الله تعالى عن هاروت وما روت أنهما لا يعلمان أحدا السحر حتى يقولا له إنما نحن فتنة فلا تكفر، قال أبو المعالى عبد الملك إمام الحرمين صاحب الورقات: لا يظهر السحر إلا على يد فاسق، كما لا تظهر الكرامة إلا على يد ولى، ولا نسلم أن الكرامة لا تظهر إلى على يد ولى، بل تكون بكثرة اليقين والتجرد، ولو من مخالف أو من موافق غير متولى، ولا تكون دليلا على كونه وليا لله عز وجل: وعن مالك: السحر زندقة قال: وإذا قال رجل أنا أحسن السحر قتل ولم تقبل توبته، وعن سفيان الثورى: إتيان الكاهن وتعلم الكهانة والتنجيم، والضرب بالرمل والشعير وتعلمها حرام بالنص الصريح. وعن ابن قدامة الحنبلى: حكم الكاهن وضارب الرمل عند أحمد أن يحبسا حتى يموتا أو يقتلا، قال: وأما الذى يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن وأنهم يطيعونه، فذكره الحنابلة فى السحرة، وتوقف أحمد فيهما قلت لا كفر بمجرد علم التنجيم إلا أن قال صاحبه إنه يعلم الغيب قطعاً أو ذكر ما يفسق به أو يشرك، إما أن اعتقد إنما يظهر له إنما هو إمارة فلا معصية فيه، وقد تمهر فيه أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم ومن قبله الإمام عبد الوهاب والإمام أفلح وغيرهما، وكذا من يعزم على المصروع لا يكفر إن لم يشرك بفعل أو قول، وليس الشرك بفعل غير واقع. بل واقع مثل أن يقول له الشيطان: أنا ربك أو نحو ذلك من الشرك، فيشير برأسه نعم، أو ينكر بإشارة رأسه أو عضو من أعضائه إلى بطلان الوحدانية، أو الرسالة أو الكتاب، أو نحو ذلك مما إنكاره شرك. وقد سئل سعيد بن المسيب عن الرجل يوجد عنده من يداويه، فقال: إنما نهى الله عما يضر فإن استطعت أن تنفع أخاك فافعل.
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ }: من السحر.
{ بَيْنَ الْمَرءِ وَزَوْجِهِ }: كتغطية الشئ فى نظر العين بما ليس من نوعه، وتخييل غير الموجود أو إلقاء ريق قيل جدا على مواضع من خيط عند عقد تلك المواضع ونحو ذلك، مما يكون سبباً للبغضاء بين الزوجين والنشوز والغضب والتخالف، وخالق ذلك السبب وأثره هو الله سبحانه وتعالى، والمراد بالتفريق بينهما التسبب المؤثر بإذن الله فيها بالطلاق أو الفداء ونحو ذلك، ويحتمل أن يراد به التسبب المؤثر به تعالى فى ألا يقدر على وطئها، ويحتمل ذلك جميعا. وليس فى الآية حظر التعلم منهم فى تعلم ما يفرق بين الزوجين، وقد روى تعلم غير ذلك منهما، واقتصر بعض على ما ذكر من التفريق بينهما: فقال: لا يعلمان إلا التفريق بينهما ولا يعلم منهما إلا ذلك، وقرئ بضم الميم وكسرها مع الهمزة وبالمد بالتشديد على تقدير التخفيف بحذف الهمزة والوقف على لغة تشديد الموقوف عليهِ، وعلى إجراء الوصف مجرى الوقف، والواو فى يتعلمون عائدة إلى أحد لأنه فى سياق النفى فعم عموما شموليا ولا سيما قد دخلت عليه من التى هى صلة للتأكيد، وكذا ضمير الجمع فى قوله:
{ وما هم بِضَارِّينَ بِهِ }: أى بالسحر أو بما يفرقون به بين المرء وزوجه ويجوز عود ضمير الجماعة إلى السحر المعلومة من المقام، وليس هذا الوجه عين الأول، لا يلزم من كون الإنسان متعلما للسحر كونه ساحرا.
{ مِنْ أَحَدٍ }: مفعول ضارين ومن صلة للتأكيد. وقرأ الأعمش: وما هم بضارى من أحد بحذف النون للتخفيف أو للإضافة إلى أحد، ولم يعتد بالفصل بالجار والمجرور لتعلقه بالمضاف ولا بمن الجارة، لأنها زائدة ولأن الجار بمنزلة جزء من مجروره.
{ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ }: بإرادته وخلقه لتلك المضرة، وفى الآية رد على أبى حنيفة إذ زعم أنه لا أثر للسحر فإن الآية قد أثبتت المضرة بالسحر، وقيدته بإذن الله، ولعله يقول: إن المضرة عند وقوع السحر من الله، بسبب دخول الساحر فى عمل السحر لا بما يفعله من السحر، وأن المراد وما هم بضارين به بملابسة السحر والدخول فيه إلا بإذن الله، ومثل هذا على ما ترجيته لأبى حنيفة: ضربك إنسانا بخشبة عند رؤيتك عبدك مشيرا إليه بسيف من غير وقوع سيفه عليه، والمتبادر هو ما ذكرته أولا، وقال الحسن: معنى الآية لا يضر كل ساحر مسحوره كلما سحره، بل يسلط الله المضرة على من يشاء ويمنعها عمن يشاء ويوقعها مرة ويمنعها أخرى.
{ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنْفَعُهُم }: هو السحر، لأن تعلمه يجر إلى العمل به والعمل به كفر يؤدى إلى النار، ولأنهم يقصدون به العمل، وقصد عمل السوء سوء، ولأن تعلمه قد يجر إلى إباحته، وإباحته كفر، ولأن منه ما هو شرك بالله فالضرر يحصل به فى الآخرة، وقد يحصل به فى الدنيا والآخرة، كما إذا سحر فعوقب بسحر أو بغيره كضرب وقتل، ولا نفع فيه فى الآخرة أصلا، ولا فى الدنيا إلا نفعا قليلا غير معتبر، زائلا لا بركة فيه، كما إذا سحروا بأجرة، بل أجرة الحرام ممحقة، وقد تفسر الآية بمجرد التعلم فإنه لا نفع فيه أصلا، وفى الآية الإشارة إلى أن تركه أولى، أعنى ترك تعلمه ولو بلا عمل به لأنه قد يجر إلى العمل به، وضمائر الجمع عائدة إلى ما عاد إليه الضمير فى قوله: { وما هم } أى اليهود كما فى قوله:
{ وَلَقَدْ عَلِمُوا }: أى اليهود.
{ لَمَن اشْتَرَاهُ }: أى اشترى السحر أو ما تتلو الشياطين، والمعنى واحد، والأول أقرب لقرب ذكر السحر بالنسبة إلى ذكر ما تتلوا، ولقرب ضمائره، والثانى أنسب بلفظ الاشتراء، وكلاهما صحيح، فإن المعنى لمن استبدل ما تتلوا الشياطين بما يتلى من كتاب الله، والمراد بالاشتراء الاستبدال كما رأيت والاختيار، وهو ملزوم الاشتراء. واللام فى لمن: لام الابتداء، لا لام قسم كما قيل، ومن مبتدأ وجملة قوله:
{ مَا لَهُ فى الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق }: خبر المبتدأ والمبتدأ والخبر مفعولان لعلم علق عن نصب لفظهما إلى نصب محل مجموعهما بلام الابتداء، والخلاق النصيب أو الجاه والقدر، ولا يتعين الجاه والقدر هنا كما قال بعضهم: والآخرة يوم القيامة أى المدة الأبدية الآخرة أو الدار الآخرة وهى الجنة. قال الكلبى: ماله فى الآخرة نصيب من الجنة، وله خبر وخلاق مبتدأ أو متعلق بمحذوف وجوبا وخلاق فاعله، وفى تتعلق بله لنيابته عما يتعلق فيه أو بمحذوف حال من خلاق إذا جعلنا خلاق فاعلا.
{ وَلَبِئْسَ }: اللام للابتداء داخلة على الفعل الجامد لكونه كالاسم، أو واقعة فى جواب قسم محذوف. ذكر الوجهين ابن هشام قولين مرجحا ثانيهما
{ مَا شَرَواْ بِهِ }: الهاء عائدة إلى ما، وما واقعة على السحر قيل أو الكفر.
{ أَنْفُسَهُمْ }: باعوا به أنفسهم إذ سلموا أنفسهم للنار، وأخذوا السحر عوضها أو تعلم السحر والمخصوص بالذنب محذوف، أى تعلمهم إياه أو السحر أو الكفر، وقد سبق كلام فى نحو ذلك، وذكر الشيخ هودرحمه الله : أن كل شئ فى القرآن شروا وشروه فهو بيع، وكل شئ فيه اشتروه واشترى فهو الشراء إلا قوله: { بئس ما اشتروا به أنفسهم } فإنه يعنى به بئس ما باعوا به أنفسهم انتهى. وليس ذلك متعيناً بل ذلك كله محتمل فى مواضع.
{ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }: حقيقة يصيرون بالسحر إليه من العذاب أو يعلمون قبحه على اليقين أو يتفكرون فى ذلك، وجواب لو محذوف دل عليه ما سبق على معنى قولك، ليس عندهم لو كانوا يعلمون، أو محذوف هكذا أى ما تعلموه. قال الحسن: لو كانوا يعلمون علما حقيقاً علم الأتقياء والأبرار ما اختاروا السحر، قيل الضمير فى يعلمون لليهود إجماعا، والإجماع على هذا فرع الإجماع عليه فى علموا. وإن قلت: قوله: { لقد علموا } إثبات للعلم لهم على سبيل التأكيد، وقوله لو كانوا يعلمون نفى له عنهم لأن لو امتناعية والامتناع نفى. قلت: لا منافاة، لأن المعنى لقد علموا علماً عزيزيا، وهو مجرد الإدراك والفهم الظاهر، وليس عندهم ما اشتروا به أنفسهم لو كان يعلمون العلم الحقيقى وهو المتتبع بالامتثال، ولقد علموا بقبح ذلك وترتب العقاب من غير يقين، ولبئس ما شروا به أنفسهم ول يتقنوا وحققوا، أو المعنى لو كانوا يتفكرون كما مر، أو المعنى لو كانوا يعملون بتقديم الميم على اللام، فعبر عن عدم العمل بما وضع لعدم العلم، فإن من لم يعمل بما علم كمن لم يعلم.