التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ
١٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذْ قِيْلَ لَهُمْ آمِنُوا }.. إلخ: القول فيه كالقول فى: { وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الأرض } }.. إلخ، وقوله: لا تفسدوا، من باب التخلية بالخاء المعجمة، وقوله آمنوا من باب التحلية بالحاء المهملة، والتخلية مقدمة على التحلية كما جاءت الآية، لأن تحلية الشىء مع بقاء ما يسمجه ويناقض الحلية غير مؤثر بها، ونفع ونظام الدين والدنيا بأمرين الإعراض عما لا ينبغى، وهو الذى ينهى عنه قوله: { لا تفسدوا فى الأرض } والإتيان بما ينبغى وهو الذى يؤمر به كقوله: { آمِنُوا... }..
{ كَمآ ءَامَنَ النَّاسُ }: أى إيماناً ثابتاً كإيمان الناس فى الخلوص عن شوائب النفاق، وما مصدرية والمصدر مجرور بالكاف، فالتشبيه بين المفردين المفعول المطلق المحذوف المنعوت بثابت عنه الكاف مع مدخولها، والمصدر مجرور بالكاف، فالتشبيه بين مفردين: المفعول المطلق المحذوف المنعوت بثابت، النائب عنه الكاف مع مدخولها والمصدر المقدر مما بعد الكاف، ولا يجوز حمل ما على أنها كافة، لأن الأصل عدم الكف، وقد أمكن عدمه بلا تكلف، ولو أجازه غيرى، ويتعين الكف فى
{ ربما يود الذين كفروا } إذ لو جعلت مصدرية لكان مجرور مصدراً مضافاً لمعرفة إلا أن تجعل ما نكرة موصوفة واقعة على ود، أى رب ود يوده الذين كفروا، ومتى جعلت ما فى الآية كافة، فالشبيه بين جملتين من حيث متضمنهما، وفى الآية دليل على قبول توبة الذى أظهر الإسلام، وأسر الشرك لأنهم أمروا بإيمان كإيمان الناس فى التجرد عن النفاق، فلو كان غير نافع لم يؤمروا به، واستدل بعض بها على أن الإجراء باللسان ولو لم يكن إيماناً لم يكن عبادة، والآية دلت على أنه عبادة، ولو لم يكن عبادة لم يؤمروا به، قلت: يبحث بأن الإيمان الذى أمروا به إنما هو إيمان القلوب، وأما الإقرار باللسان فمرتب عليه، فإن خلص فى القلب كان ما فى اللسان عبادة وإلا لم يكن عبادة، وذكر الفخر ما حاصله: لا يقال إن الإقرار باللسان إيمان فى الظاهر وإلا لم يعد التقييد بقوله: { كَمآ آمَنَ النَّاس } لا غنى قوله آمنوا عنه، لأنا نقول الإيمان الحقيقى عند الله سبحانه إنما هو المصاحب للإخلاص، وأما فى الظاهر فيحصل بالإقرار فلا جرم افتقر فيه إلى تقييده بقوله: { كَمآ آمَنَ النَّاس } وأل فى الناس عندى للعهد الذهنى، لإإنه قد تقرر فى أذهانهم أن الصحابة قد آمنوا إيماناً خالصاً، فالناس من عرف بالإخلاص كأبى بكر وعمر وصهيب وبلال وخباب وعبد الله ابن سلام من أى نسب كان، ودخل فيهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه مؤمن بأنه رسول، وبالقرآن وبالله واجب عليه الإيمان بذلك كله، أو من أخلص الإيمان من جنسهم كعبد الله بن سلام، ويجوز أن تكون للجنس الكامل فى الناسية كأنه قيل: كما آمن الناس الكامل كونهم ناساً، والمعتد بهم وهم من مطلق من أخلص الإيمان بقطع النظر عن كونه معهوداً أو غير معهود، فإن اسم الجنس كما يستعمل لمسماه بدون اعتبار صفة تأهل لها كقوله: { والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا } يستعمل له باعتبارها، فينفى عنه الاسم بانتفاء الصفة كقوله فى جملة أبيات:

وما رجل لم يجهد الناس طاقة وعلماً وصبراً للبلاء بإنسان

وقد رواه العلامة الضرير محمد بن سليمان النحريرى فى حاشية على شرح الأجرومية لأبى سليمان داود، وحاصله نفى الإنسانية عن الرجل الذى انتفى عنه ما خلق له من إتعاب النفس بالطاعة والعلم والصبر للبلاء.
وكقول الشاعر:

بلاد بها كنا وكنا نحبها إذ الناس ناس والزمان زمان

بل كالعدم لفقدها فيه، وكقوله تعالى: { صم بكم عمى } حيث نفى عنهم السمع والنطق والبصر، ولو وجدت فيهم إذ لم يستعملوهن فيما خلقن لأجله، ويستعمل أيضاً فى بعض الأشخاص بدون تعيينها فى اللفظ ولا فى النية بلا قيد صفة كقوله:

ولقد أمر على اللئيم يسبنى

أوبقيد صفة أو فى البعث المعين مقيداً بها كما فى قوله تعالى { ذلك الكتاب } وصفة الكمال أو فى بعض معين غير مقيد بها، ومن باب قوله: ولقد أمر على اللئيم. قولك الرجل خير من المرأة، وأسامة أشجع من النمر. ولا يصار إلى هذا الباب لقلة جدواه إلا عند تعذر غيره.
{ قَالُوا أَنُؤمِنُ كَمَا آمَنَ السُفَهاءُ }: الاستفهام إنكارى، أنكروا أن يكون صواباً أن يؤمنوا كالسفهاء أو توبيخ أو تعجبى، وأل فى السفهاء للعهد الذكرى لأنه لا يشترط فيه تكرار اللفظ بعينه، فمنه قولك: ما بات عندى إلا زيد، فبات العالم عندى فى كرم، تريد بالعالم زيداً، وكقولك: رأيت الأسد فهبت الغضنفر، أى الأسد، وكقولك: قاتلنى الكافر فقتلت الخبيث، يعنى بالخبيث ذلك الكافر، وكما تقول لصاحبك، إن عمراً قد سعى بك، فيقول: أوقد فعل السفيه، يريد السفيه عمراً الساعى به إلى سلطان أو نحوه، فكذا المراد بالسفهاء الناس المذكورون فى { كَمآ آمَنَ النَّاس } فالمراد بالسفهاء جنس الناس المؤمنين بأسرهم، المعهودين أو نوع معهود منهم كابن سلام، وقال السعد: جنس السفهاء بقطع النظر عن كونهم مراد بهم الناس المذكورون فى قوله: { كَمآ آمَنَ النَّاس } أو غير مراد بهم ذلك، ويندرج تحت لفظ السفهاء على زعمهم، وإنما نسبوهم للسفه لاعتقادهم فساد رأى من يؤمن بالقرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله وصفته كما هو، وبالبعث والجنة والنار، كما هن. وقد مر إيمانهم بالله على غير صفته سبحانه وتعالى، وبالبعث والجنة والنار على غير ما هن عليه، أو لتحقير شأن المؤمنين حينئذ، إذ كان أكثرهم فقراء كابن مسعود وأبى ذر، وكان بعضهم مولى كصهيب وبلال وخباب وسلمان، وإن فسرنا السفهاء بالنوع المعهود المخصوص وهم من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار، فإنما سموهم سفهاء إظهاراً للعزة والشجاعة وعدم الذبول بإيمان من آمن منهم، وعدم المبالاة به فى الظاهر مع أنهم قد ذلوا بإسلام هؤلاء وذبلت قلوبهم، وافتضحوا بإيمانهم كسراً فى أعضادهم، وغاظهم إيمانهم ما لم يغظهم إيمان غيرهم، لأنهم لما آمنوا علم الناس أن الإيمان حق، لأنهم أهل التوراة والإنجيل، وإنما ساغ أن يقال: هم منافقون مع تصريحهم بتسفيه المؤمنين، لأنهم يصرحون به فيما بينهم، أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان؟ وسفيه بنى فلان؟ فأخبر الله جل وعلا نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بذلك، أشار إليه الشيخ هود وغيره، وظهر لى وجه آخر فى تسفيه من آمن منهم، وهو أنهم بهتوهم بالسفه كالزنى والسرقة والكذب ورقة النسب ونحو ذلك، مما ليس فيهم رحمهم الله، كما روى
"أنه لما أسلم عبد الله بن سلام خبأه صلى الله عليه وسلم، ودعا اليهود وقال لهم: ما تقولون فى عبد الله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وعالمنا وابن حبرنا. قال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم؟ قالوا: أعاذه الله أن يسلم، فخرج عليهم وصرح بالإسلام وقال: اتقوا الله فإنكم قد علمتم أن محمداً رسول الله فى التوراة، فقالوا: سفيهنا وابن سفيهنا" ، والسفه خفة وقلة رأى يصدران عن نقصان العقل، والحلم ثقل رأى وعظمة يصدران عن تمام العقل، وأكثر الآيات تدل على أن المنافقين المذكورين فى القرآن مشركون، ولا أكاد أقول غير ذلك، وأما القسم الآخر المسمى بالمنافقين، وهم فسقة الموحدين فثابت عندى أيضاً لأدلة كثيرة، وليسوا مرادين فى القرآن عندى. والله أعلم.
وجمهورنا على غير ذلك، ومن ذلك قول الشيخ هود. قال الله:
{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } إن الله يعذبهم فى الآخرة مع إقرارهم وتوحيدهم، وهذا مما يدل على أن المنافقين ليسوا بمشركين. أنتهى. وليس بمتعين، لأنه إنما بناه على تقدير: لا يشعرون أن الله يعذبهم... إلخ وليس تقديراً متعيناً.
{ ألاَ أَنَّهُمْ هُمْ السُّفَهآءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ }: أكد الرد عليهم بما أكد به فى قوله:
{ ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون } إلا أنه قال هنالك: لا يشعرون، وهنا لا يعلمون، لتتم المطابقة لذكر السفه، فإن السفه جهل فطابقه العلم، ولأن الوقوف على أمر الإيمان وشرائطه وتمييز الحق من الباطل مما يحتاج إلى نظر وتفكر، فاستعمل فيه العلم لأنه الاعتقاد الجازم الذى لا يقبل التشكيك.
وأما النفاق وما فيه من الفتن والفساد، فيدرك بأدنى تفطن وتأمل فيما يشاهد من أقوالهم وأفعالهم، لأنه معروف بالعادة حتى كأنه محسوس، فاستعمل فيه الشعور وهو الإحساس بالشىء لظهوره، أو التفطن له، وقد استعمل الشعور بمعنى العلم فى قوله: { وَمَا يَشْعُرُون } ويحتمله ما هنا أيضاً فيكون التعبير بالعلم تارة، وبالشعور أخرى، تفننا ونظراً إلى ظاهر لفظ الشعور، وتقدير الآية: ولكن لا يعلمون أنهم سفهاء، وكذا قال الحسن، وأما السدى فقال: ولكن لا يعلمون أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما السدى فقال: ولكن لا يعلمون أن الله يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بقولهم، والأول أولى وهم جاهلون بجهلهم، فجهلهم مركب، والجاهل جهلا مركباً لا يكاد يقلع عن ضلالته، لأنه يراها رشداً.