التفاسير

< >
عرض

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٤٨
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ولِكل وجِْهةٌ }: أى ولكل أمة أو فريق قضى الله أن تخالف الأخرى قبلة تتوجه إليها فى صلاتها ونحوها، وأنتم يا معشر اليهود والنصارى، الذين أدركتم بعثة محمد رسول الله، صلى الله عليهِ وسلم، من أمته، فالواجب عليكم استقبال الكعبة، فإن كل من أدركته بعثته، صلى الله عليه وسلم، فهو من أمته، كما أن قبلة اليهود قبلها صخرة بيت المقدس، وقبلة النصارى مشرق الشمس، وقبلة الأنبياء من قبل ذلك الكعبة، وكذلك أقوامهم فيعدون أمة واحدة، تقابل الكعبة، ولو قبل بناء إبراهيم لها، لأن قبلة واحدة جمعتهم واليهود أمة قبلتهم الصخرة، والنصارى أمة قبلتهم المشرق، ومن أدرك بعثة سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، من الناس كلهم أمة قبلتهم الكعبة، وافقوا أو عاندوا، ولك أن تقول: لكل أمة نبى قبلة وافقت قبلة غيرها أو خالفت، وقيل المعنى ولكل أهل جهة من الآفاق من المسلمين وجهة من الكعبة يصلون إليها، وظهر لى وجه آخر أن المعنى لكل أهل جهة أسلموا أو كفروا وجهة من الكعبة يجب عليهم استقبالها، فإن الواجب على جميع الكفار أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، ويستقبل الكعبة، والوجه الأول ما حام أحد حوله غيرى. والثالث مأخوذ من القول قبله، وفيه الوجهة المنهاج والشرع، قال جل جلاله: { { لِكلٍّ جَعلْنا مِنْكم شِرعةً ومِنْهاجاً } فالمعنى لكل أمة دين، ومن توافقت من الأمم فهى أمة واحدة، باعتبار الوفاق، فالواجب على من أدركته البعثة من اليهود والنصارى وغيرهم أن يكونوا على دين الإسلام، ومنه استقبال الكعبة، أو لكل أمة دين وافق دين الأخرى أو خالفه، والجمهور على تفسير الوجهة بالقبلة وهو الصحيح المناسب لما بعده وما قبله، فإن بعد ذلك { ومِنْ حيث خَرجْتَ فَولِّ وَجْهك شطر المسجد الحرام } وهو قول مجاهد كابن عباس، وعليه فالوجهة فعلة بمعنى مفعول، أى جهة متوجه إليها، ولك وجه آخر هو أن الوجهة فعلة للهيئة كالجلسة (بالكسر) أى حالة يتوجه بها إلى الكعبة، ويدل لمذهب الجمهور قراءة أبى ولكل قبلة.
{ هُوَ مُولِّيها }: لفظ هو عائد إلى الفريق المحذوف بعد كل المعوض عنه تنوين كل، باعتبار لفظه، أو باعتبار آحاده، أو إلى الأمة باعتبار آحادها، أو إلى لفظ كل، و (ها) مفعول ثان، والأول محذوف مؤخر، أى هو موليها نفسه، وهو مروى عن ابن عباس وغيره، أو هو موليها نفسه، وإنما قلت الأول النفس أو الوجه، لأنهُ فاعل معنى، لأنه قال، و (ها) عائدة للوجهة وهى متلوة، ويجوز عود لفظ هو إلى الله، جل وعلا، أى الله موليها كل أمة، أو كل فريق أو كل واحد، فالمحذوف ثان أيضا، وجملة هو موليها نعت وجهة، وقرئ ولكل وجهة بإضافة كل إلى وجهة، فلكل وجهة بالإضافة خبر، والمبتدأ محذوف أى لكل جهة أهل أو ناس أو أمة أو فريق أو نحو ذلك. ويجوز كون اللام زائدة فى هذه القراءة، وكل مبتدأ، وجملة هو موليها خبر فيكون على هذا عائدة إلى كل لوقوعه على الوجهة، والابتداء عامل ضعيف، فقوى بالحرف المأتى به للتأكيد، أو اللام زائدة للتأكيد وتقوية العامل الضعيف، لكونه وصفا على الاشتغال، أى هو مول لكل وجهة موليها، أو لكونه وصفا ومتأخراً، أى هو لكل وجهة مول هو موليها، أو اللام غير زائدة، بل متعلقة باستبقوا، فيكون المزيد على هذا الاحتمال فاء فاستبقوا. وقرأ ابن عامر: هو مولاها (بفتح اللام مشددة) كذلك، على أن لفظ هو عائد إلى الفريق أو غيره مما ذكر غير الله سبحانه وتعالى، فيكون الضمير المستتر فى مولى النائب عن الفاعل هو المفعول الأول عائد إلى ما عاد إليه لفظ هو، فى هذه القراءة، و (ها) مفعول ثان لكن مضاف إليها، كقولك الخير أنت معطاه، والتولية الجعل تالياً.
{ فاسْتَبقُوا الخَيْرات }: بادروا يا معشر المؤمنين واليهود والنصارى وغيرهم الخصال الحسنة الدينية والدنيوية، كاستقبال القبلة والصلاة أول الوقت وغير ذلك من العبادات الواجبة والندبية، والآية ونحوها دليل على أن أول الوقت أفضل إلا الفجر مطلقا والعشاء شتاء، وإلا أربع ركعات تصلى من السنة قبل الظهر، فإن من صلاهن أول الوقت، ثم الظهر أفضل ممن يصلى الظهر أول الوقت، ومن تأخر عن أول الوقت فالأولى البدءُ بالظهر، وفى القواعد للشيخ إسماعيل الجيطالى رحمة الله: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يصلى أربعا بعد الزوال، فيطيل فيهن، ويروى عنه أنه قال
: "من صلاهن تماما يلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى الليل" . وروى ابن المبارك فى رقائقه بسند، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدرى متى يغلق عليه" ويجوز أن يكون المراد بالخيرات الجهات الفاضلات، وهى التى على سمة الكعبة، ويجوز أن يكون المعنى لكل أمة قبلة شرقية أو غربية جنوبية أو شمالية، أضلوا فيها أو أصابوا، فاستبقوا أنتم معشر المؤمنين الجهات المقابلة للكعبة من كل أفق، ودعوا اليهود والنصارى على زيغهم، إذ أمروا بالإيمان واستقبال القبلة فلم يقبلوا.
{ أيْنَ ما تكُونُوا يَأتِ بِكُم الله }: أين اسم شرط لتعميم الأمكنة متعلق بمحذوف خبر تكون، أو متعلق بتكونوا على أنها لا خبر لها، وما لتأكيد العموم، أى أينما تكونوا بعد الموت يأت بكم الله إلى المحشر للجزاء يوم تبعثون.
{ جَميعاً }: لا يبقى منكم واحد موافق للحق أو مخالف له، ولا بعض واحد متفرق الأجزاء أو مجتمعها، فيعاقب اليهود والنصارى على مخالفة الحق وإنكار القبلة وغيرهم من كل مخالف للحق، ويثيب المطيع فى أمر القبلة وغيرها، ويجوز أن يكون المعنى أين ما تكونوا من المواضع المتسفلة والمرتفعة من الأرض والجبال، ومن السهلة والحزنة، يقبضكم الله جميعاً بالإماتة إلى دار الجزاء والعقاب، المؤمنين والمشركين من اليهود والنصارى وغيرهم، ويجوز أن يكون المعنى أينما تكونوا معشر المؤمنين من المواضع المسامنة للكعبة، يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة، لأن الكعبة تشملها.
{ إنَّ اللهَ عَلَى كلِّ شَئٍ قَديرٌ }: فهو قادر على الإماتة والإحياء والبعث والثواب والعقاب.