التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ
١٦٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومِنَ النَّاس }: أراد الناس إجمالا المشركين والمؤمنين، ومن للتبعيض، والبعض المتخذ أندادا مشركون لا مؤمنون، ويجوز أن يريد الناس المشركين لأن بعض المشركين لا يتخذ أندادا، وإشراكه إنما هو من جهة إنكار الله سبحانه أو نبى أو كتاب.
{ مَنْ يَتَّخذُ منْ دُون اللهِ أنْداداً }: أى أصناماً يسمونها أندادا، لأنها تعادل الله عز وجل سبحانه وتعالى فى زعمهم الباطل، وأسماها الله بذلك باعتبار اعتقادهم فيها، لأنها تفعل لهم أشياء كما يفعل الله، ويترك الله بها بعض ما أراد بهم. والند المثل المقاوم والمنازع، وقيل أندادا رؤساء من رجالهم يطيعونهم، فى معصية الله عز وجل، وسماهم أندادا باعتبار مقتضى اتباعهم، وترك ما أمر الله عز وعلا، كأنهم أمثال لله مقاومون له قادرون قدرته، حتى أساغوا لأنفسهم طاعتهم ومعصية الله، أو باعتبار هؤلاء الرؤساء فى الأمر بمعصية الله ورضاهم بها، كأنهم مقاومون له تعالى، ويحتمل عندى وجه آخر هو أن الله جل وعلا شنع عليهم فى اتخاذهم أنداداً من جنسهم، كما شنع عليهم فى اتخاذ الأصنام مما هم خير منهم، ويدل لهذا الاحتمال والقول قبله قوله تعالى
: { { إذ تبرَّأ الذين اتَّبعُوا من الذين اتُّبعوا } وبقوله: (يحبُّونهم) بضمير العقلاء الذى هو: هم، الذى أصله أن يكون للعاقل تحقيقاً لا للعاقل تنزيلا، ويجوز أن يراد بالأنداد الأصنام والرؤساء معاً وما يشغل عن عبادة الله عز وجل. قال مجاهد الأنداد الأوثان، وهو مثل تفسيرى له بالأصنام.
{ يحبُّونَهم }: الواو ضمير من باعتبار معناه، وقد اعتبر لفظه فى قوله: (يتخذ) والهاء للأنداد وهم عقلاء لأنهم الرؤساء، أو لهم وللأنداد تغليباً أو تنزيلا للأنداد من الأصنام منزلة العقلاء، أو للأنداد وتنزيلا كذلك، والحب ميل القلب إلى الشئ ومناسبته والرغبة فيه، وهو نقيض البغض، وسمى بذلك حبّاً بضم الحاء أخذا من لفظ الحَبة بفتح الحاء، وهى نفس القلب، لأن الحب بالضم ميل القلب أو أخذاً من حبة القلب وهو الجزء الذى هو أدخل وأدق فيه، لأن الحب أصابه ورسخ فيه، ويحتمل أن يكون الحب بمعنى التعظيم والطاعة، وساغ ذلك لأن الحب سبب للطاعة والتعظيم فى الجملة.
{ كَحبِّ الله }: أى كحب المؤمنين الله، فالحب مصدر مضاف لما هو مفعول اصطلاحاً وهو لفظ الجلالة بعد حذف الفاعل، وهو المؤمنون، ووجه الشبه الاجتماع فى الحب، أحب المشركون الأنداد كما أحب المؤمنون الله، جل وعلا، لا المساواة فى الحب، فإن المؤمنين أشد حبا لله، والدليل على فاعل المصدر الذى هو المؤمنون أن الحب الحقيق المتبادر هو حب المؤمن به المطيع له إياه، لا حب الكافر فلا لبس، وكذا إن قلنا: إن الحب مصدر للمبنى للمفعول، لأن الفاعل أيضاً هو المؤمنون، ويجوز أن يراد كحب هؤلاء المشركين الله، فحذف فاعل المصدر وهو المشركون، أو المصدر من المبنى للمفعول والفاعل هو المشركون كذلك، ووجه ذلك أن المشركين لا يخلون من حب الله حبا ما لأنهم يقرون بوجوده ورزقه، كأنهم يحبونهُ ويتقربون إليه بالأنداد، فيجمعون فى قلوبهم حب الله وحب الأنداد ولو تفاوتا عندهم، أو يسوون بينه وبينها فى الحب حتى إذا اضطروا أخلصوا لله تعالى، كما قال الله تبارك وتعالى:
{ { فَإذا رَكبُوا فى الفُلْك دَعَوُا الله مخلصين له الدين } وقال عز وجل: { { تدْعُونهُ تضرُّعاً وَخُفْيَةً لئن أنْجيْتَنا من هذه لنكونَنَّ مِنَ الشاكرين } }. ومحبة المؤمن لله، جل وعلا، إرادة طاعته والاعتناء بمراضيه، ومحبة الكافر له ميل قلبه إليه من حيث المنافع ودفع المضار، وهذا أيضا موجود فى المؤمن ومحبة الله لعبده إرادة إكرامه وتوفيقه للطاعة وصونه عن المعاصى أصلا، أو عن الموت عليها بإصرار.
{ والَّذِينَ آمنُوا أشدّ حُبّاً للهِ }: من حب المشركين للأنداد، لأن المؤمنين يطيعون الله، ويخلصون له، ولا يشركون به غيره فى السراء ولا الضراء، ولا يتركونه. والمشركون يعبدون الأصنام حتى إذا اضطروا أخلصوا لله، وإذا نجاهم عادوا إلى عبادة الأصنام، ويعبدون صنما، وإذا رأوا غيره أحسن منه، أو تشاءموا به رفضوه وعبدوا غيره، ويجمعون بين أصنام، ومن يعبد صنمين أو أصناما ناقص الحب لمعبوده، لاشتراك فى عبادته، بخلاف المؤمن العابد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، عبادة لا تزول لأنها بالذات. وعبادة الكافر لصنمه لأغراض فاسدة موهومة نزول بأدنى سبب، ولأن الله، جل وعلا، أحب المؤمنين أولا فأحبوه، فبحبه إياهم أحبوه، ومن شهد له معبوده بالحب فهو أشد حبّاً وأتمه، ولأن المؤمن يعظم الله أبدا، والكافر قد يهين صنمه، وقد يعبد عجيناً فيأكله، وقد أكلت باهلة إلههم عام المجاعة. ورضى الله عن عمر بن الخطاب قد كان بهذه الحالة، فهداه الله إلى الإسلام والحمد لله، ومن أراد أن يحبه إنسان فليقرأ [على ماء]: { ومِنَ النَّاسِ مَنْ يتَّخذُ مِنْ دُون الله أندادا يحبُّونهم كحُب الله }، يسقه أو يرش به وجهه أو غصن ريحانة، ويناوله للشم، وتفعل فى الحب إذا أضيف إليها:
{ { وألْقيتُ عليْكَ محَبةً منِّى ولتُصْنع عَلَى عَيْنى } وآية الكرسى، ومن كتب: { ومنَ النَّاس مَنْ يَتخذُ من دُونِ الله أنداداً }، { والسَّماء بَنَيْناها }، إلى { الماهدون }، { وما يأتيهم مِنْ ذكر } إلى { مُعْرضين } فى قرطاس ويشرب الماء الذى يغسل ذلك به بعد ما يقرأ ذلك على الماء كان محبوباً، ومن كتب: { يُحبُّونهم كَحُب الله والَّذينَ آمنُوا أشدُّ حبًّا لله } وكتب قبلها أربعين تاء فى رق غزال ويبخره بالمايعة والنوبان، وعلقه عليه أو على غيره كان ممن عليهِ علق محبوباً عند كل من يراه.
{ ولَوْ تَرى }: يا محمد أو يا كل من تمكن منه الرؤية، والذين مفعوله، وهذه قراءة نافع وابن عامر ويعقوب، وقرأ الباقون: { ولو يرى } بالمثناة التحتية، والذين فاعل، وقيل فاعله ضمير السامع، أو الرائى، والذين مفعول.
{ الَّذين ظَلمُوا }: أنفسهم باتخاذ الأنداد، وهذا من وضع الظاهر موضع المضمر ليشنع عليهم بالظلم، ومقتضى الظاهر ولو تراهم أو ولو يراهم أو ولو يرون، لأنهم المتخذون الأنداد المتقدم ذكرهم.
{ إذْ يروْنَ العّذابَ }: متعلق بترى أو بيرى، كذا قالوا والتحقيق أن إذ مفعول يرى، وأن القوة بدل اشتمال من إذا ومن العذاب، ومفعول ترى، أو يرى على القراءتين، الثانى على أن الرؤية علمية أو الحال على أنها بصرية وهو التحقيق محذوف، أى ولو تراهم لم تنفعهم أندادهم أو ولو يراهم السامع لم ينفعهم أندادهم، أو ولو يراهم الرائى لم تنفعهم أندادهم، وإذا جعلنا الذين فاعل يرى فالتقدير ولو يرى الذين ظلموا أندادهم، لم تنفعهم. وجواب لو محذوف ناصب لقوله:
{ أنَّ القُوَّة للهِ جَميعاً }: على قراءة يرى بالتحتية، مع جعل الذين فاعله تقديره لعلموا { أن القوة لله جميعاً } ولا يملك غيره نفعا ولا ضرا، ويحتمل أن يكون { أن القوة لله جميعاً } مفعول ليرى التحتية، والذين فاعله، وجواب لو محذوف تقديره: ولو يرى الظالمون، أى يرون العذاب أن القوة لله جميعاً لندموا عن عبادة الأنداد من حيث أنها لم تتأهل للعبادة، وأنه لا قوة لها تنفعهم بها أشد الندم، أو لعلموا أنه لا قوة للأنداد، أو أنها لا تنفع، وأما الجواب على قراءة ترى بالفوقية فتقديره: لرأيت أمراً عظيما، وأما على التحتية وجعل الفاعل ضمير الرائى أو السامع فتقديره: لرأى أمراً عظيما، وإن قلت: فما العامل فى قوله: { أنَّ القُوَّة لله جميعاً } فى قراءة المثناة، وفى قراءة التحتية مع جعل الذين مفعول به؟ قلت: يجعل معمولا للجواب المحذوف على التعليل، أى لرأيت أمراً عظيما، لأن القوة لله جميعاً أو لرأى أمراً عظيماً، لأن القوة لله جميعاً، ويجوز على الأوجه كلها، وقراءة التحتية والفوقية جعله بدل إضراب انتقالى من العذاب، أى إذ يرون أن القوة لله جميعاً، لأنهم يرون ذلك يوم القيامة، أو بدل اشتمال، لأن كون القوة لله جمعياً له اتصال بتعذيبه الكفار، وليس بعضه، و { إذ } فى الآية للاستقبال بدليل المضارع بعدها، ويجوز أن تكون للمضى على أصلها مجاز التحقق الوقوع كأنهم قد رأوا أنهم سيرون، ويرون كذلك مستعمل فى معنى الماضى المجازى كذلك، وقرأ ابن عامر يرون بالبناء للمفعول، فتكون الواو على قراءته مفعولا أولا نائبا عن الفاعل، والعذاب مفعولا ثانياً، وذلك من الإرادة البصرية المتعدية لاثنين بالهمزة، أى إذا أراهم الله العذاب.
{ وأنَّ اللهَ شديدُ العَذَابِ }: عطف على أن القوة لله جميعاً فى جميع أوجهه. وقرأهما يعقوب بكسر إن على الاستئناف، أو إضمار القول، ويقدر الجواب قبلهما، ويجوز أن يقدر بعدهما على أنهما معترضان، والقول يقدر جملة مستأنفة أو معترضة أو حالا، أو يقدر مفرداً حالا، أى يقولون وقائلا أنت أو ذلك الرائى أو جمعا، أى قائلين أو يقدر جملة جوابا للرائى لقالوا { أن القوَّة للهِ جَميعاً } وهذا الوجه الأخير على أن الذين فاعل يرى بالتحتية، وجميعاً حال من الضمير الاستقرارى المستتر فى قوله: { لله } لا توكيد للقوة خلافا لابن عقيل، إذ أجاز التوكيد به، ولو غير مضاف لضمير مؤكد، ويجوز أن تكون لو للعرض، ويجوز أن تكون للإيقاع للتمنى. وإن قلت: فهل يجوز أن يقدر ولو ترى الذين ظلموا يا محمد إلخ، لعلمت أن القوة لله جميعا أو أن الأنداد لا تنفع أو نحو ذلك؟ قلت: لا يجوز لأنه يوهم أنه لا يعلم ذلك قبل يوم القيامة، وليس كذلك، اللهم إلا أن يكون الخطاب له، والمعنى لمن يصح أن يخاطب بذلك، ثم إنه يجوز تقدير الرؤية فى الدينا، أى ولو ترى فى الدنيا وقت رؤيتهم العذاب، أو حالهم إذ رأوا العذاب فى الآخرة لرأيت أمراً عظيماً على إذ مفعول ترى أو مفعوله محذوف تقديره حالهم، كما رأيت أو ولو يرى الرائى أو السامع أو الذين ظلموا فى الدنيا حالهم، إذ رأوا العذاب فى الآخرة أو رأوا فى الدنيا، وقت يرون العذاب فى الآخرة، لعلم أو لعلموا أن القوة لله جميعاً إلخ، أو أن الأنداد لا قوة لها أو لاتنفع، ويجوز كونها فى الآخرة، أى لو كان هذا الوقت وقت الآخرة، أو حصرت الآخرة فى الدنيا، وترى الذين ظلموا، أو ير الذين ظلموا وقدر بعضهم ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم حين اليوم رأوا العذاب فى الآخرة، وعن الحسن: كان الكفار فى الدنيا غافلين عن عزة الله وقوته وشدة عذابه.