التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١٧٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يأيُّها الذِينَ آمنُوا كلُوا من طَيِّبات ما رَزَقْناكم }: مفعول كلوا محذوف، أى كلوا شيئاً أو بعضا من طيبات ما رزقناكم، وفى التعبير بشئ أو بعض مع من الابتدائية أو التبعيضية تلويح إلى ألا يرغبوا فى المأكولات، ولا يجعلوها هماً لهم، وإنما ذلك من شأن من لا يهمه أمر الدين، فلا يبالى بما تجر إليه الرغبة فيها، والطيبات الحلال، أو اللذائذ الحلال، وإنما كرره لينبه أنها رزق منه امننَّ به علينا، وليأمرنا بشكره، وما رزقناكم هو جميع ما ننتفع به من مأكول وغيره، فالمأكول بعضه، الذى يظهر لى أن قوله عز وجل: { كلُوا من طيِّبات ما رزقناكم }، مجاز مركب غير استعارى، فإن هذه الجملة موضوعة للأمر بالأكل من الطيبات، واستعملت فى معنى الزجر عن أكل الحرام، فليس قوله: { كلوا } على ظاهره من الأمر فضلا عن أن يقال إنه أمر للوجوب أو للإباحة، ويحتمل أن يكون الكلام حقيقة أمرا بالأكل أمرا إباحة إيذانا بالتوسيع فى كل شئ، وقيده بالحلال أو ردا على ما حرم على نفسه بعض ما حل، أو على من حرم على نفسه بعض اللذائذ، ويحتمل أن الأمر فى ذلك للوجوب بالنظر إلى حفظ النفس عن الجوع المؤدى إلى الموت، أو إلى تلف عضو أو منفعة عضو، أو إلى الضعف المؤدى إلى العجز عن القيام بالفرائض كالصلاة والصوم والحج، وقد يندب الأكل كالأكل مع الضعيف إذا كان ترجى بركته، وكالأكل مع الضيف إذا كان لا يأكل إن لم يأكل معه، فإنهُ يأكل إن لم يكن يجد الشبع، والحلال فى ذلك كله قيد، وحرام أكل الحرام وإيكاله، ففى مسلم عن أبى هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يأيها الرُّسل كلُوا من الطيبات واعْملُوا صالحاً } وقال: { يأيها الَّذِين آمنُوا كلوا من طيِّبات ما رزقْناكم }" . وفى الحديث تفسير الطيبات بالحلال، إذ ساق الآيتين بعد قوله: "إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب"، ثم ذكر: "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب له" وفى رواية "فأنى يستجاب لذلك" ، والأشعث بعيد العهد بالدهن، والأغبر بعيد العهد بالغسل والنظافة.
{ واشْكُروا الله }: على طيبات ما رزقناكم وتحليل ما فى الأرض لكم والشكر هو القيام بحق النعمة باستعمال الجوارح المغذاة بها، والمنتفعة بها فى العبادة وإنفاق الواجب منها.
{ إن كُنتُم إيَّاه تعبدون }: جوابه محذوف تقديره فإن عبادته لا تتم إلا بالشكر أو مدلول عليهِ بما قبله، أى فاشكروه، والعبادة العمل الصالح، وتقديم إياه للحصر، أى إن كنتم تخصونهُ بالعبادة، وقيل معناه إن كنتم عارفين بالله وبنعمة فاشكروه، وهو من الشرط الذى أريد به التثبيت وهز النفوس، فإن الشكر واجب عليهم غرفوه وعرفوا نعمه أم لا، وخصوه بالعبادة أم لا، وروى البيهقى وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"يقول الله تبارك وتعالى إنى والإنس والجن فى نبأ عظيم أخلق ويعبد غيرى، وأرزق ويشكر غيرى" ، وروى أبو داود والنسائى عن النبى ـ صلى الله عليهِ وسلم ـ أنه قال: "الطاعم الشاكر كالصائم الصابر" وروى أبو عمر، وابن عبد البر فى كتاب المسمى ببهجة المجالس: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد من نعمة فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله لُه شكرها، وما علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر لهُ، قبل أن يستغفره، وإن الرجل ليلبس الثوب فيحمد الله فما يبلغ ركبته حتى يغفر له" قال وفى التوراة أشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك فإنهُ لا زوال للنعم إذا شكرت، ولا مقام لها إذا كفرت، وقال القشيرى: قال أهل العلم بالأصول: نعم الله تعالى على ضربين، نعمة نفع ونعمة دفع، فنعمة النفع ما أولاهم، ونعمة الدفع ما زوى عنهم، وليس كل إنعامه سبحانه انتظام أسباب الدنيا والتمكن منها، بل إلطاف الله تعالى فيما زوى عنهم من الدنيا أكثر وإن قرب العبد من الرب تعالى على حسب تباعده من الدنيا.