التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكِتَاب }: من للتبعيض، لأنهم يكتمون بعض الكتاب لا كله وهم اليهود يكتمون ما فى التوراة من صفات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما فيها من تصديقه متعلق بمحذوف حال من مال أو من المحذوف، أى ما أنزله الله حال كونه بعض الكتاب، أو من للابتداء متعلق بيكتمون وليست بيانا لما أو لضميرها المحذوف: لأنهم لم يكتموا كل الكتاب بل بعضه.
{ ويشْتَرونَ به }: أى بما أنزل الله، أو بالكتاب إثباتا بيانا ونفيا وزيادة، أما الإثبات فهم يقرءون التوراة ويقرءونها ويعلمون بعض ما فيها بالأجرة، وأما النفى فهو محوهم منها صفات محمد وما يصدقها أو كتم ذلك أو تأويله بتحريف، أو يأخذون الأجرة على ذلك، ويعيرون وقت نبوته فعل علماءهم ذلك وأكابرهم لئلا تزول عنهم الرياسة والمآكل التى يأكلونها من السفلة والعامة، وأما الزيادة فرسمهم فيها ما حرم برسم الحلال والعكس وتبديل صفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغيرها، ليرى الناس أنه غير النبى المبعوث آخر الزمان، وقيل الكاتمون اليهود والنصارى، والكتاب التوراة والإنجيل، وزعم المتكلمون أن التوراة والإنجيل بلغا من الشهرة إلى حيث يتعذر كتم بعض ما فيهما أو محوه، وليس كذلك لأنهم قوم سوء، وقد غيروهما قبل سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وزادوا ونقصوا، ففعلوا ذلك أيضا بعد ولادته وبعد بعثه إلا قليلا منهم، وزعم هؤلاء المتكلمون أن كتمهم هو التحريف بالتأويل ليصرفوا الرسالة عنه، صلى الله عليه وسلم، وليس هذا الحصر بشئ، والآية ولو نزلت فى الأحبار والرهبان لكنها تتناول من كتم الحق من الموحدين لغرض من الدنيا، ويجوز عود الهاء إلى الكتم، أى يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون بالكتم.
{ ثَمَناً قَليلاً }: هو مآكلهم المذكورة، سماها ثمنا لأنها عوض عن الحق، وسماها قليلا لقلة ما فى الدنيا كله، وبالنسبة إلى ما عوضوه عنه، وبالنسبة إلى ثوابهم فى الآخرة لو أطاعوا أو إلى عذابهم فيها.
{ أولئك ما يأكلونَ فى بطونهم إلاَّ النارَ }: شبه ما يأكلونه من المآكل المذكورة والرشاء بالنار، فسماه باسم النار لأنهُ سبب للنار وملزوم لها، ومعاقبون بها عليه، فكأنه عوضه وبدله. قال أعرابى تزوج امرأة فلم توافقه:

أكلت دما إن لم أرعك بضره بعيدة مهوى القرط طبيعة النشر

كان أخذ الدية عند العرب عاراً لأنها تتضمن قتل الأعزة وتجسر عليها، وعلى الإهانة بالأقارب، فحلف بأنه يكون كالذى أكل دما، أى أخذ الدية المسببة أو اللازمة عن الدم المعبر عن القتل إن لم ينزع مخاطبته التى هى زوجه بامرأة يتزوجها عليها، طويلة العنق، بحيث يبعد مسقط ما تعلق فى أذنها ومسقطه الكتف، طيبة الرائحة. وتقول العرب: أكل فلان الدم، أى الدية المبدلة منه. وقال الشاعر:

يأكلن كل ليلة إكافا

أى ثمن الإكاف فسماه إكافا لأنهُ ثمنه، وذلك مجاز مرسل، ويجوز أن يكون شبه ما يأكلونه من المآكل المذكورة والرشاء بالنار، فسماه باسم النار، لأنهُ يحرق نور القلب ويزيد بطلانا للحسنات، كما أن النار تحرق الحطب، وتذهب المنفعة من الشئ الذى لا تليق به، فيكون ذلك مجازاً استعارياً، ويجوز أن يكون المعنى ما يأكلون يوم القيامة فى بطونهم إلا النار إذا دخلوا النار أكلوا منها كما كانوا يأكلون ما لا يحل، فذلك حقيقة لا مجازا، والوجه الأول هو قول الربيع وغيره: قال سمى مأكولهم ناراً، لأنهُ يؤل بهم إلى النار، ولزم الإنسان ألا يأخذ مالا على عمل الطاعة ولا على المعصية، وهذا مسقط عظيم تهاونت به المالكية إلا قليلا منهم، إذ أجازوا عمل الطاعات بالأجرة كالأذان والإقامة وتعليم الصبيان، وقد رددت عليهم فى الشامل، ففى سنن داود عن عبادة بن الصامت أنهُ قال: "علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن، وأهدى إلى رجل منهم قوسا فقلت: ليست بمال، وأرمى عليها فى سبيل الله، لآتين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلأسألنه، فأتيه فقلت: يا رسول الله رجل أهدى إلى قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمى عليها فى سبيل الله. قال: إن كنت تحب أن تطوق من نار فاقبلها" وفى رواية فقلت: "ما ترى فيها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: جمرة بين كتفيك تقلدها وتعلقتها" ، وإن قلت معلوم أن الأكل ما يكون إلا فى البطن، فما فائدة قوله: { فى بطونهم } قلت: تهويل الأمر وتفظيعه وتأكيد الزجر، فإن الأكل ولو كان يشعر بالبطن لكن قد تصيب السامع بعض غفلة من استشعار كل الألم فى ذلك وإذا قيل فى بطونهم فكأنه قيل يأكلون النار، وتباشر أمعاءهم، ثم تتصل بكبدهم ورئتهم وقلبهم ونحو ذلك، فيستشعر الألم كل الاستشعار، هذا ما ظهر لى، ويحتمل أن يكون قال: { فى بطونهم } ليدل على أنهم يملئونها نارا، ولو قال ما يأكلون إلا النار، لم يشعر الكلام بأن بطونهم مملوءة بها، والعرب إذا أرادوا أن يقولوا ملأ بطنه بطعام، قالوا أكل فى بطنه، كأنهم قالوا باشر الطعام أمعاءه ومعدته كلهن حتى إذا ضاق بهن البطن، أى أكل مقدار ما يشبع بدليل أنهم إذا أرادوا أن يصرحوا بأنه لم يملأ بطنه قالوا أكل فى بعض بطنه. فقال الشاعر:

كلوا فى بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميصص

أى لا تشبعوا بأن سننكم سنة ضامرة، قليلة الخير خفيفته، ولا تتركوا الأكل بالكلية لتعفوا عن سؤال الطعام وما تشترونه به، وفى ذكره تعالى { بطونهم } تهجين عليهم بأنهم باعوا الجنة، ورضى الله بمطعم حقير قليل منقطع.
{ ولا يُكلِّمهُم اللهُ يَومَ القيامة }: هذا عندى من المجاز المركب غير الاستعارى كقوله.

هواى مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثمانى بمكة موثق

فإن هذه الجملة معناها بحسب الوضع انتفاء الكلام من الله سبحانه إليهم يوم القيامة، واستعملت هنا فى معنى غير ذلك، وهو أنه غضبان عليهم عدو لهم محرومون مما للمؤمنين من الكرامة، ولا شئ أعظم عليهم من أن يروا المؤمنين فى خير دونهم، ويدل ذلك ما ثبت من أنه يسألهم، وأنه يقول لهم: اخسئوا فيها إلى غير ذلك، فلم يكن نفى الكلام هنا حقيقة، ولك أن تقول هذه الجملة كناية عن الغضب والحرمان، والكناية لا يمنع فيها إرادة المعنى الحقيقى، فيكون المعنى على إرادته مع لازمه أنه غضبان عليهم يحرمهم ولا يكلمهم فى بعض المواضع، ولو كان يكلمهم فى بعض، أو لا يكلمهم كلام خير، وإن أريد لازمه فقط، كان المعنى أنه غضبان يحرمهم ويكلمهم فى بعض كلام سوء أو حساب، وهذا تقول لا رماد له أصلا، أو له قليل، فلأن كثير الرماد تريد أنه جواد، ويجوز أن يكون { لا يكلمهم } مجازا مرسلا مرادا به الغضب والحرمان، لأنهما سبب لعدم الكلام فى الجملة ملزومان له، ويجوز أن يكون لا كناية هناك ولا مجاز، بل حقيقة، والمعنى لا يكلمهم فى بعض المواضع أو لا يكلمهم بخير، بل بسوء وتوبيخ. قال الطبرى: لا يكلمهم بما يحبون، أو لا يرسل الله، جل وعلا، إليهم السلام مع الملائكة.
{ ولا يُزكِّيهم }: لا يطهرهم من ذنوبهم، بل يلقيهم فى النار بسببها، أو لا يثنى عليهم بل يذكرهم بسوء على رءوس الخلائق وبما لا شئ أحب إليهم من ستره، أو لا يسميهم أزكياء كما تقول زكاة، تريد سماه زاكياً وفسقه أى سماه فاسقاً. وقد أوضحت هذا المعنى فى شرح اللامية.
{ ولهُم عَذابٌ أليمٌ }: عذاب مؤلم وهو عذاب النار يصل وجعه قلوبهم.