التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَأيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا كُتبَ عَليْكُم القِصاصُ فى القَتلَى }: فرض عليكم القصاص، وقرأ بعضهم فى جمع القرآن كتب بالبناء للفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، ونصب معا بعده فيقرأ بفتح الكاف والتاء، ونصب القصاص، ويقرأ كتب عليكم الصيام كما كتب بفتحهما، أى كما كتبه وهكذا والقصاص المماثلة، يقال: فلان يقص الأثر أى يتبعه، فكأنه برؤيته يحدث آخر مثله، وأيضا قد ماثله بخطواته إذا كانت إلى جهة الأثر الأول، وقص الحديث ذكره مثل ما ذكر أولا، فالمقتول يحجر يقتل بحجر، والمقتول بعصى يقتل يعصى، وهكذا. ويروى عنه صلى الله عليه وسلم: "المرء مقتول بما قتلِ به، إن سيفا فسيف وإن خنجراً فخنجر" ، فقيل على عمومه وقيل إلا النار والسم فلا يقتل بهما قاتل بهما، بل بالسيف وقتله بما قتل بهِ على العموم، أو التخصيص، قولنا وقول الشافعى ومالك ورواية عن أحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: من قتل بغير السيف قتل بالسيف، وهو رواية عن أحمد، والأول أوضح وأكمل فى الإنصاف والمماثلة التى هى القصاص، ووجه القول الثانى أن أصل القتل بالسيف، لأنهُ المعد للقتل وقطع الأعناق التى لا حياة بعدها، وأنهُ مأخوذ من ساقه بمعنى أهلكه، وإن القاتل سلك طريق القتل فسلكها كما سلكها القاتل، والحديث المذكور خص فى الأول فهو راجح به قطعا، والآية نص فى أن الواجب على القاتل القصاص، وأما الدية فهى بدل عنهُ، وبهِ قال أبو حنيفة والشافعى فى أوضح قوليه، ولو عفا ولم يسمها فلا شئ، وقيل كلاهما واجب على التخيير والواجب على التخيير يصدق عليه أنه واجب، ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره وليس نسخا لوجوبه، ومعنى الوجوب أنه إذا أراد الولى القتل لم يمنع منه ولزم القاتل الانقياد له، وإن أراد الدية لم يمنع منها بل لزم القتال أداءها، وإن شاء الولى ترك القتل والدية معا، والقول بوجوبهما قول آخر للشافعى، واحتج أبو حنيفة بالآية إذا قال كتب ثم ترتب الدية على العفو فدل الترتيب على أنها إنما نحب بالعفو عن القتل فى القتل العمد، فعلم أن القتل العمد يوجب القصاص فقط، فبطل الاستدلال بأن الواجب على التخيير يصدق عليه أنه واجب، فالقتل على قول أبى حنيفة مقتضى العمد وعلى القول الآخر هو أحد مقتضيه ومقتضاه الثانى هو الدية، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو، وتقدم آنفا بطلان استدلاله والقتلى جمع قتيل وألفه للتأنيث.
{ الحُرّ بالحرِّ والعبْدُ بالعبْدِ والأنثَى بالأُنثَى }: أى الحر يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد، والأنثى تقتل بالأنثى، فالخبر محذوف جواز ألأنه كون خاص. قال ابن هشام: ومما يخرج على التعليق بالكون الخاص قوله تعالى: { الحر بالحرّ والعبدُ بالعبدِ والأنثَى بالأنثَى } التقدير مقتول أو يقتل لا كائن اللهم إلا أن يقدر مع ذلك مضافان، أى قتل الحر كائن بقتل الحر، وفيه تكليف تقدير ثلاثة الكون، والمضافان بل تقدير خمسة لأن كلا من المصدرين لا بد له من فاعل، ومما يبعد ذلك أيضاً أنك لا تقدم معنى المضاف الذى تقدره مع المبتدأ إلا بعد تمام الكلام، وإنما حسن الحذف أن يعلم عند موضع تقديره نحو
{ { واسأل القرية } انتهى.
وكانت دماء فى الجاهلية بين حيين من أحياء العرب، وكان أحدهما يتطاول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالأنثى، فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فأمرهم ألا يقتل الحر بالحر، ولا الذكر إلا بالذكر، وقيل نزلت فى الأوس والخزرج، وكان لأحدهما تطاول على الآخر فى الكثرة والشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بلا مهر، وأقسموا ليقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلان منهم، وجعلوا جراحاتهم ضعف جراحات أولئك، فرفعوا أمرهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية. وقيل نزلت فى حيين من أحياء العرب اقتتلوا فى الجاهلية بسبب قتيل، وكان بينهم قتلى أو حروب وجراحات كثيرة، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام فوجبت المماثلة، إذ تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو الأحرار من المعاهدين، أو العبيد من المسلمين أو من المعاهدين، فلا يقتل مؤمن ولو عبد بمشرك ولو حرا، ولا حر ولو مشركا بعبد ولو مؤمنا ولا المرأة المؤمنة بالرجل المشرك، ولا أب بابن، ويقتل المشرك بمؤمن، والعبد بالحر، والذكر بالأنثى، ويؤدى أولياؤهما لأوليائه نصف ديته قبل أن يقتل، وقيل بعد أن يقتل، وذلك مذهبنا ومذهب مالك والشافعى وأحمد وقيل لا يرد أولياؤهما لأوليائه نصف ديته، والأنثى بالذكر، ويرد أولياؤهما لأوليائه نصف ديته قبل القتل أو بعده قولان، وقيل لا رد، وذهب أصحاب الرأى إلى أن المسلم يقتل بالذمى، والحر بالعبد، والصحيح الأول، وروى البخارى فى صحيحه عن أبى جحيقة سألت علياً هل عندكم من النبى صلى الله عليه وسلم شئ سوى القرآن وما فى هذه الصحيفة؟ قال الراوى: قلت لأبى جحيفة وما فى الصحيفة؟ قال: العقل وفك الأسير وألا يقتل مؤمن بكافر. وأخرج مسلم عن على نحو هذا من غير رواية أبى جحيفة، والعقل إعطاء أولياء المقتول الدية، وروى عن على أيضاً أنه قال من السنة ألا يقتل مسلم بذى عهد، ولا حر بعبد، وروى الربيع، عن أبى عبيدة، عن جابر ابن زيد، عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:
"المسلمون تتكافأ دماؤهم وأموالهم بينهم حرام وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم ولا يقتل ذو عهد في عهده ولا يقتل مسلم بكافر ولا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر" ، قال الربيع: تتكافأ دماؤهم أى هم سواء فى الدية والقتل، وهم يد على من سواهم، أى هم أقوى وأفضل من غيرهم، يسعى بذمتهم أدناهم، أى إذا أعطى أدنى رجل من المسلمين العهد يلزمهم ويرد عليهم أقصاهم، أى من رد العهد من المسلمين كان رداً، قال جابر إلا باتفاق الإمام وجماعة أهل الفضل فى الإسلام. وأخرج الترمذى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليهِ وسلم يقول: لا تقوم الحدود فى المساجد ولا يقتل الوالد بالولد" ، وهذه الآية والأحاديث مفسرة لما أبهم فى قوله: { { أنَّ النَّفسَ بالنَّفس } وإن هذه خطاب للمؤمنين، وقوله: { { أن النَّفْس بالنَّفْس } حكاية ما كتب على بنى إسرائيل فى التوراة كذا يقول الشافعى، فأما قوله إن هذا خطاب للمؤمنين وآية المائدة حكاية ما كتب على بنى إسرائيل فصحيح. وأما قوله: إن هذه بيان لآية المائدة، فلا يتعين لاختلاف الشريعتين فيمكن اتفاقهما فى تفصيل هذه الآية، ويمكن اختصاص المسلمين به، وزعم أصحاب الرأى أن هذه منسوخة بحكاية ما كتب على بنى إسرائيل فى التوراة فقالوا إن النفس تقتل بالنفس، ولو اختلفتا مطلقاً فقالوا يقتل المؤمن بالذمى، والحر بالعبد، والوالد بالولد، ويرده الأحاديث المذكورة، وحديث على إن رجلا قتل عبده فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به، وما روى أن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير، وسواء فى ذلك كان العبد لقاتله أو لغيره، وأيضا نسخ ما فى القرآن بما فى التوراة بعيد، ولو ذكر فى القرآن، وأيضا كما أنه لا تستوى دية أعضاء العبد وأعضاء الحر، لا تستوى دية ذاتهما، وأيضا آية المائدة فى اليهود ولا عبيد فيهم، لأن الاسترقاق من الغنائم وهى مخصوصة بهذه الأمة، كذا قيل والمشهور أن لهم عبيداً، وقال بنسخ هذه بآية المائدة الحسن البصرى وعطية العوفى والبصريون والكوفيون، ووجهه أن آخر الآية وهو قوله تعالى: { { ومَنْ لَمْ يحْكُم بما أنزَلَ الله } الآية ألزمنا الحكم بها، ولو كانت مكتوبة على بنى إسرائيل. قال الحسن: كان أهل الجاهلية قوماً فيهم عز ومنعة، فكان الحى منهم إذا قتلت منهم امرأة قتلتها امرأة من حى آخر، قالوا لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل منهم عبد قتله عبد حى آخر، قالوا لا نقلت به إلا حرا، فأنزل الله الآية، ثم أنزل بعد ذلك فى سورة المائدة: { وكَتبْنا عَليهِم فِيها أنَّ النَّفْسَ بالنَّفْسِ } قال: النفس التى قتلت بالنفس التى قُتِلت، وآية البقرة هذه لا تدل على ألا يقتل الحر بالعبد ولا الذكر بالأنثى، بل الأحاديث دلت على أن الحر لا يقتل بالعبد، بل عليه القيمة، وأن الذكر يقتل بالأنثى، قيل ولا تدل أيضا على أن العبد يقتل بالحر وأن الأنثى بالذكر، بل الأحاديث دلت عليه، قلت بل تدل الآية أيضا عليه فإنهُ إذا كان الحر يقتل بالحر فلأن يقتل به العبد أولى، فقيل ليس لأوليائه غير ذلك، وقيل لهم بقية الدية، وإن أمره سيده فلهم البقية، فإذا كان الذكر يقتل بالذكر فلأن يقتل به الأنثى أولى، ولعل القائل بعدم تلك الدلالة يقول إن المفهوم إنما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم، وهنا ظهر الغرض وهو أن الآية نزلت بسبب القوم المتطاولين على الآخر، قلت العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وثبتت الأخبار أنه لو اجتمع اثنان على قتل واحد أو ثلاثة فصاعداً على قتله قتلوا جميعا، سواء باشروا القتل كلهم أو بعضهم، وقيل يقتل من باشر فقط، وروى البخارى عن ابن عمر، أن غلاما قتل غيلة فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم، وقيل قال ذلك فى امرأة قتلت، قال البخارى: قال مغيرة بن حكم: إن أربعة قتلوا صبيا، فقال عمر ذلك. وروى مالك فى الموطأ عن ابن المسيب أن عمر قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليهِ أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً، والغيلة أن يقتله من غير أن يعلم ما يريد به، ونمالأ اجتمع إن قتل عبدان أو أعبد عبداً فلمالكه القيمة، وله قيل قتلهم جميعاً على أن يضمن على الرءوس ما زاد على قيمة عبده وقيل لا ضمان لهم.
{ فمَنْ عُفِى لهُ مِنْ أخيهِ شَئٌ }: من واقعة على القاتل وعُفى ترك والأخ ولى المقتول، ويجوز أن يكون هو المقتول على حذف مضاف فى الوجهين، أى من دم أخيهِ، وسمى ولى المقتول أخا للقاتل، لأن فرض الكلام على أنه عفى والعفو يكون من أخ لأخيه للرقة عليهِ، ولكل من له حب فكأنه أخ القاتل، ولما بينهما من الجنسية الآدمية والحرية، أو الآدمية والعبودية ومن الإسلام ونكتة التعبير بالأخ أن يستعطف أحدهما على الآخر، ويشير إلى أن القتل لا يخرج القاتل من اسم الإسلام إلى الشرك، وأيضا سماه أخا لما بينهما من الملابسة، إذ الولى يطالب القاتل بالدية ويأخذ هامنه، فالقاتل يعطيه، وإذا الأخ هو المقتول ففى تسميته أخا، الأوجه المذكورة كلها غير الأخير، ويجرى الولى على مقتضى الأخوة بين القاتل والمقتول، وشئ واقع على بعض دم المقتول والدم يطلق بمعنى الدية وبمعنى القتل، وكما ينسب الدم للمقتول كذلك ينسب لوليه، أى القتل الذى يستحقه فى ذمة القاتل وكذا الدية تنسب إليهما، أى فمن ترك له شئ من دم أخيه، أى ترك بعض الورثة القتل أو ترك بعض سهمه من القتل أو كان الوارث واحداً، أو ترك بعض ماله من القتل لا القتل كله.
{ فاتِّباعٌ }: فى إعطاء الدية وأخذها.
{ بالمعْروفِ }: أو من ترك له شئ من دم أخيه، أى من ديته فاتباع فى أخذ الباقى وإعطائه بمعروف، وعلمت من كلامى أن من للتبعيض متعلقة بمحذوف حال من شئ، ويجوز أن تكون للابتداء متعلقة بعفى، وعلى هذا الوجه تكون داخلة على ما هو فاعل فى المعنى، لأن الأخ هو العافى فلا يقدر مضاف على هذا الوجه، والأخذ عليه هو الولى لا غيرن وعلمت أن شئ نائب فاعل عفى بمعنى ترك، وأن الهاء عائدة إلى من، وإذا قلنا إن المعنى شئ من دم أخيه الذى هو القتل، فالآيتان بلفظ شئ إشارة إلى أنه إذا ترك بعض القتل أو أقل قليل لم يجيز له القتل ولا لباقى الورثة إن كانوا، لأن شيئا من الدم قد بطل، والروح لا تتجزأ حياة وموتا، وإن قلنا شئ من دية أخيه فالإتيان بشئ إشارة إلى وجوب المعروف فى الاتباع بالباقى، ولو كان المتروك قليلا جداً، وإنما عدى عفى بنفسه إلى المفعول به ليضمنه معنى ترك، والتضمين شائع فى القرآن وغيره من كلام العرب وهو مرجوح بالنسبة إلى عدم التضمين وهو الأصل، وأنهُ إذا لم يكن على التضمين فالمعروف أن يتعدا إلى المفعول به الذى هو ذنب أو مذنب يعن كقوله تعالى:
{ { عفى الله عنها } وقوله تعالى: { عفى الله عنك } ويجوز أن يكون شئ مفعولا مطلقا ناب عن الفاعل فيكون واقعا على المفعول، أى شئ من العفو ومن للابتداء أو شئ من عفو أخيه، فتكون من للتبعيض. وإذا جمع بين الذنب والمذنب عدى إليه بعن، وإلى المذنب باللام تقول عفوت له عن ذنبه وضعف عفوت له ذنبه والقوى أعفوت الشئ بالهمزة أى تركته. قال صلى الله عليه وسلم: "اعفوا" بإثبات الهمزة المفتوحة، وإن قلت هلا قيل فمن عفى لهُ من أخيه شئ على أن شيئا مفعول به نائبا الفاعل من قولك عفى أثره أى محاه وأزاله بتعديه بنفسه، قلت لا يراد هنا هذا لأنه خلاف الأصل، ولأن المستعمل فى القرآن والسنة أن يكون مفعوله بعن إذا كان ذنبا، وعن ابن عباس ما حاصله أن من يراد بها القاتل وعفى يتضمن عافيا وهو ولى الدم، والأخ هو المقتول، وشئ هو الدم الذى يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، فالعفو على بابه وبذلك قال جماعة من العلماء، وقال مالك: من يراد به الولى وعفى بمعنى يسر لا على بابه فى العفو، والأخ يراد به القاتل، وشئ هو الدية والأخوة أخوة الإسلام، وقيل إن الآية لفظها فيمن نزلت فيهم وعفى بمعنى فضل، على أن قوما تقاتلوا فى الجاهلية، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصص على استواء الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فمن فضل لهُ قتيل أو قتيلان أو قتلى من الفريق الآخر الذى هو كالأخ فاتباع بمعروف واتباع خبر لمحذوف، أى فالحكم ابتاع بالمعروف يتبع ولى المقتول القاتل فى شأن الدية بالمعروف من الرفق واللين وترك العنف والتهديد، والاقتصار على الدية، بل من البر أن يترك لهُ بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدية مائة بعير فمن ازداد بعيراً فمن أمر الجاهلية" ولم يفرض رسول الله صلى الله عليهِ وسلم فيما دون الموضحة شيئاً.
قال الربيع بن حبيب عن أبى عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم:
"الدية مائة من الإبل" ، وبهذا السند عنه صلى الله عليه وسلم "دية المرأة نصف دية الرجل" ، وبه عنه صلى الله عليه وسلم: "دية الخطأ فى ثلاثة أعوام فى كل سنة ثلث، ودية العمد فى عام واحد" ، وفى رواية "تؤخذ دية العمد فى ثلاثة أعوام والنصف فى عامين، والثلث فى عام" ، يعنى أنهُ إذا كملت الدية أعطيت فى ثلاثة أعوام ثلث فى كل عام، وإن لزم نصف الدية فقط ففى عامين، وإن لزم ثلثها فقط ففى عام وهذا ما ظهر لى بعد إفراغ الوسع، ثم رأيت ما يناسبه فى نوازل نفوسه ما نصه: وفى دية الخطأ أنها تعطى أثلاثا الثلث فى عام والنصف فى عامين، وتأويل ذلك إذا جنى أحد بالخطأ ما يبلغ ثلث الدية فإن عاقلته يعطون ذلك فى عام واحد، وإن جنى ما يبلغ أرشه نصف الدية فإن عاقلته يعطون فى العام الأول الثلث، ثم يعطون فى العام الثانى السدس فهذا معنى قولهم: الثلث فى عام والنصف فى عامين والحمد لله، ويجوز أن يكون اتباع خيراً لمحذوف، أى فالواجب اتباع بالمعروف أو فاعلا لمحذوف أى فليكن اتباع بالمعروف.
{ وأداءٌ إليهِ بإحْسانٍ }: عطف على اتباع فى أوجه إعرابه، فالاتباع عائد إلى الولى، والأداء إلى القاتل، ويجوز أن يقدر فعلى الولى اتباع بالمعروف، وعلى القاتل أداء إليهِ بإحسان، أو فعلى الولى اتباع بالمعروف، وله أداء إليه بإحسان، وهاء إليه عائدة إلى الأخ الذى هو الولى بالمعروف من المقام، على أن الأخ غيره وإحسان القاتل ألا يمطل الولى بالدية ولا يدافعه ولا يعيره ولا يعطيه ببخس، ويجوز أن يكون الاتباع والأداء كلاهم على القاتل الذى عفى له فعليه اتباع عفو الولى بالمعروف، وأداء إليهِ بإحسان
{ { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
} { ذلكَ }: المذكور من جواز القتل والعفو عن القتل بأخذ الدية.
{ تخْفيفٌ مِنْ ربِّكُم }: تسهيل من ربكم عليكم.
{ ورحْمةٌ }: إنعام ونفع لكم بالتوسيع إذ لم يضيق عليكم كما ضيق على اليهود بإيجاب القصاص، ولم يجز لهم الدية، وكما ضيق على النصارى بإيجاب الدية ولم يجز لهم القتل، والمسلمون مخيرون بين القتل والدية، وقيل كان على النصارى العفو لا دية ولا قتل، ولا شك أن المسلمين مخيرون بين الثلاثة، وقيل نزلت الآية لإزالة الأحكام التى قبل مبعثه، صلى الله عليه وسلم وهى أن اليهود توجب القتل، والنصارى توجب الدية، والعرب تارة توجب القتل وتارة توجب الدية، وكانوا يعتدون فى الحكمين، فإن وقع القتل على شريف قتلوا به عدداً، ويأخذون ديه الشريف أضعاف دية الخسيس.
{ فَمنِ اعْتَدَى بعدَ ذَلكَ }: جاوز حكم الله المذكور من التخيير بأن ابتدع حكما آخر أو زاد عليهِ أو أبدل بعضهُ، بأن قتل إنسانان أو أكثر فى واحد أو ثلاثة أو أكثر فى اثنين.. وهكذا أو حراً بعبد، أو جمع الدية والقتل أو رجع لى أحدهما وإليهما بعد العفو عنهما، أو فعل ما خالف الحق.
{ فلهُ عذابٌ أليمٌ }: فى الآخرة كانوا فى الجاهلية يؤمنون القاتل بأخذ الدية أو بقبولها، ثم إذا ظفروا به وتمكنوا منه قتلوه وله مع ذلك عذاب آخر فى الدنيا هو أن يقتل حقاً من حقوق الله يقتله الإمام، ولو عفى ولى المقتول الثانى إذا قتل بعد العفو مطلقا أو بعد العفو عن القتل أو بعد أخذ الدية، وهذا الحكم معلوم من السنة، ويحتمل أن يراد بالعذاب الأليم عذاب الآخرة وهذا القتل الواجب. وقال مالك: ولى المقتول الثانى مخير بين القتل والدية والعفو المطلق، كولى المقتول ابتداءاً وعذابه فى الآخرة، وقال قتادة: يقتل ولو عفى الولى وإن قتله هو العذاب المذكور فى الآية، وإن الاعتداء هو القتل بعد العفو عن القتل أو عنه وعن لادية، وأن عذاب الآخرة يفيده الآى الأخر والأحاديث الأخر، ومذهبنا وجوب قتله، وأنهُ حق لله لا يزيله عفو الولى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا أعافى أحداً قتل بعد أخذ الدية" رواه الشيخ هودرحمه الله عن جابر بن عبدالله مرفيعا إليه صلى الله عليهِ وسلم.