التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٨٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا كُتبَ عَليكُم الصِّيامُ }: فرض عليكم الصوم، والصوم والصيام لغة: الإمساك عن الشئ، صام النهار أى اعتدل، وأمسك عن الميل، وقام قائم الظهيرة، وصامت الريح أمسكت عن الهبوب، وصام زيد: أمسك عن الكلام، قال الله جل وعلا حكاية: { إنىِّ نذرْتُ للرَّحمن صوماً } أى ضمناً، وصام الفرس أى كف عن المشى، وصام زيد عن الأكل أو الشرب أمسك، وصام الشئ مطلقا عن الشئ مطلقا أمسك عنه، ولا يشترط كون ما يمسك عنه تنزع إليه النفس كما قيل قال النابغة:

خيلٌ صيام وخيل غيرُ صائمة تحت العَجاج وأخرى تعلُك اللّجما

وقال امرؤ القيس:

فدعها وسلِّ الهمَّ عنك بحسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا

وقال الشاعر:

حتى إذا صام النهار واعتدل وصار للشمس لعاب فنزل

أنشد ذلك الجوهرى وصاحب الوضع رحمهُ الله، وجازاه عنا خيراً، ولعلهُ أبو زكرياء يحيى الجدوى، وقال الشيخ أحمد الشماخى رحمهُ الله فى السير. ومنهم أبو زكرياء الجدوى، وأظنه مؤلف كتاب الوضع، وهو كتاب مفيد به يقع ابتداء من أراد الفقه، ولا يقال أبو زكرياء هذا هو الجناونى وحرف بالجادوى، لأن الجناونى ذكره قبل هذا بنحوستة أوراق، ولأن الأصل عدم التحريف، ثم ذكر بعد ذلك أبا زكرياء يحيى بن إبراهيم، وقال أبو القاسم البرادى العلامة: إن صاحب كتاب الوضع هو أبو زكرياء يحيى الجناونى صاحب الديوان المقدم فى العمل على ديوان الأشياخ المتقدم عليها فيه ديوان الشيخ عامر رحمهم الله ورزقنا سلوك طريقهم. وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن عمرو بن أبى ستة: رأيت بخط قديم لبعض أصحابنا فى نسبة الوضع ما نصه: تأليف الفقيهِ أبى زكرياء يحيى بن إبراهيم قدس لله روحه وكرم مثواه إنه سميع مجيب. والصيام فى الآية مصدر، ويستعمل جمع صائم أو صائمة كما فى بيت النابغة. والصوم والصيام شرعا: الإمساك عن الأكل والشرب إجماعا، وعما يصل الجوف مطلقا عندنا من الأجسام، وعن الجماع والمعاصى فى شهر رمضان من طلوع فجر كل يوم إلى غروبه. مع نية كونه فرضا، والتقرب به إلى الله جل وعلا.
{ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبلِكُم }: يعنى الأنبياء والأمم كلهم من لدن آدم عليهِ السلام إلى عهدكم، ولو اختلفت مدة الصوم وزمانه فإنا مخصوصون برمضان على التحقيق، ثم رأيته للجمهور والحمد لله* قال على بن أبى طالب: أولهم آدم يعنى فرض الصوم على آدم ومن بعده إلى قيام الساعة، وفى ذلك ترغيب فى الصوم ووجوبه وتطيب للنفس، أى صوموه فقد صامه من قبلكم، وفرض عليهم كما فرض عليكم، ولم يفرض عليكم وحدكم، وقد شاع أن الأمر الشديد إذا عم هان لما شق الصوم على النفس، لأن فيه الإمساك عما تشتهيه من المفطرات أكده بذلك كما سهلهُ بعد بتقليله. وقيل إن شهر الصوم من لدن آدم إلى هذه الأمة هو رمضان، وزعم بعض أن هذا قول الجمهور، وزعم بعض أن المراد النصارى وجب عليهم صوم عاشوراء، تم علينا، ثم نسخ. وقيل: { الذين من قبلكم } أهل التوراة والإنجيل، قال صاحب الوضع: أهل الإنجيل*
{ لعلَّكُم تتَّقُون }: تتركون المعاصى بالصوم، فإنه يكسر الشهوة، ويضعف قوى النفس الأمارة بالسوء، وقيل: ولعلكُم تتقون عقاب الله به، وقيل: ولعلكم تتقون ما فعل النصارى من تبديل وقت رمضان بوقت آخر، والزيادة فيهِ كما يأتى أو لعلكم تتركون الإخلال بآدابه لأصالته وقدمه، أو لعلكم تنتظمون فى زمرة المتقين، لأن الصوم من علامتهم، والوجه الأول هو الصحيح. روى الربيع بن حبيب، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رحمهم الله، عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"من خاف شدة الميعة فليصم فإن الصوم له وجاء" قال الربيع: يعنى خصاء مثل ما روى "أن النبى صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجئين" ، أى مخصيين. والأملحان الأبلقان. وروى الربيع بن حبيب، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن أبى هريرة عنه، صلى الله عليه وسلم: "الصوم جِنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ولا يفسق وإن امرأ قاتله فليقل إنى صائم" ، وروى البخارى ومسلم عن أبى هريرة عنه، صلى الله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال، تعالى: إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به. يدع شهوته وطعامه من أجلى" و "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه" و "لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" زاد فى رواية "والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم" وكذلك روى البخارى ومسلم عنه، صلى الله عليه وسلم: "من خاف الميعة فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء" والوجاء الخصاء كما مر، أو دق الخصيتين، فإنه يمنع الشهوة كما يمنعها رضْح الذكر.