التفاسير

< >
عرض

شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٨٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ شَهْر رَمضَانَ }: خبر لمحذوف، أى عن شهر رمضان، أى الأيام المعدودات، أو الأيام المعدودات شهر رمضان، أو بدل من الصيام على حذف مضاف، أى كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان. والذى نعت، أو شهر مبتدأ خبره الذى، وقرئ بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أى صوموا شهر رمضان، أو مفعول لتصوموا فى قوله: { وأنْ تَصُوموا خير } ولكن يلزم عليه الإخبار عن المصدر المنسبك من أن والفعل قبل مجئ معموله وهو كالموصول الاسمى، والموصول الاسمى لا يخبر عنهُ قبل تمام صلته، أو بدل من أيام معدودات، وكذا يلزم لو جعلناه ظرفا لتطوع، ويجوز أن يكون مفعولا أو لا لتعلمون، وهدًى مفعولا ثانيا، وسمى الشهر شهراً لشهرته، وسمى باسم الهلال، لأنه يتبين به ولكن سمى الهلال شهراً لشهرته، ويقال شهر الشئ إذا ظهر، وشهرته أظهرته يتعدى ويلزم، ورمضان فى الأصل مصدر رمض إذا احترق، فهو فى الأصل مصدر مصروف يقبل التعريف بأل وغيره، ويقال الرماض أى الاحتراق، ورمض رمضانا احترق احتراقاً، وأعجبنى رمضان الكفار أى احتراقهم ثم جعل علماً لهذا الشهر، فمنع للعلمية وزيادة الألف والنون، وإضافة الشهر إليه إضافة عام لخاص بيانية، أى شهر هو رمضان، فليس شهر من جملة العلم كعبد الله علما فى هذه الوجوه، ويحتمل أن يكون شهر رمضان علما مركبا من متضايفين كعبد الله، فالعلمية تحصلت بالجزأين، وإذا تحصلت بالجزأين كان منها نصيب للجزء الثانى فيجمع فيمنع الصرف إذا انضمت إليها علة أخرى تمنع معها، كزيادة الألف والنون وتاء التأنيث نحو أبى هريرة وأبى مسألة، وليس الجزء الثانى قبل ذلك علما مستقلا، ولا سيما لو كانه: ومن ذلك ابن داية للغراب، وداية اسم لموضع القتب من البعير، لأنه ينقر فيه، والوجه الأول عندى أحسن، أوجب كثير الوجه الثانى حتى زعموا إن قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان" على حذف مضاف، أى شهر رمضان للعلم به، وساغ حذف جزء العلم لأنهم أجروا مثل هذا العلم مجرى المضاف إليه، وهذا كما يحذف الجزء الثانى من سعد الدين لقبا للتفتزانى، فيقال السعد بإدخال ال للمح الأصل، وكما يقال فى قطر الندى: القطر، وفى شذور الذهب الشذور، وزعم التفتزانى المذكور أنهم أطبقوا على أن العلم فى ثلاثة أشهر هو مجموع المضاف إليه، أى شهر رمضان، وشهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وسمى شهر رمضان لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش، أى احتراقهم أو لارتماض الذنوب فيه، روى محمد بن منصور السمعانى، وأبو زكريا يحى بن مندة فى أماليهما، عن أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب" ، انتهى أو لوقوعه أيام رمض الحر، أى شدته حين سموه بهذا الاسم، وكان قبل ذلك يسمى نائقا، أى من عجا لأنه يزعجهم إضجاراً، وقال قوم: سمى رمضان لرمض الفصال فيه من الحر، وقيل: لرمض الحجارة والرمضاء الحجارة المحماة، والقولان متقاربان، وقيل: الرمض مطر يأتى فى الخريف يغسل الأرض، فسمى رمضان لأنه يغسل الأبدان من الذنوب غسلا، ويطهر به قلوبهم تطهيراً. وإن قلت: إن سمى لشدة الحر فيه فى ذلك الوقت فلم سمى بعد زوالها، قلت: التسمية لا تزول بزوال موجبها فى الأعلام، فلو سميت ابنك أحمر لحمرته حين ولد، ثم انتقل لبياض أو غيره لم يزل اسمه أحمر، ولا يلزم تسمية كل شهر وقع فيه حر باسم رمضان، لأن وجه التسمية لا يوجبها، وقال قوم: رمضان اسم الله تعالى فقولك شهر رمضان بمعنى شهر الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا رمضان ولكن انسبوه كما نسبه الله فى القرآن" ، وقال: { شهر رمضان }، ولم تصح هذه الرواية للحديث السابق: "من صام رمضان" اللهم إلا أن يقال تسمية رمضان مخصوصة به صلى الله عليه وسلم أو أراد لا تقولوا رمضان مسمين به الشهر، أما على كونه اسما لله تعالى ناوين اسم الشهر قبله فجائز، وقال ابن مالك فى شرح التسهيل: إن الحكم إن الحكم إذا علق برمضان ولم يذكر الشهر عمه، وإن ذكر الشهر جاز عم أو خص، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم "من صام رمضان إيمانا وإحتسابا" لأن صومه كله واجب.
وقال الله تعالى: { شَهْر رَمضَانَ الّذى أنْزلَ فِيهِ القُرآنُ } والإنزال فى ليلة منه، وصوم رمضان فرض فى السنة الثانية من الهجرة، لليلتين مضتا من شعبان قبل غزوة بدر الكبرى، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، على رأس ثمانية عشرة شهرا من الهجرة، فبين فرضه وغزوة بدر شهر وأيام، ويأتى ذلك فى محله إن شاء الله تعالى. قال الفراء فى أول صوم فرض مخيراً بينه وبين الفدية ثم نسخ الفداء بقوله: { فَمنْ شَهِد مِنْكُم الشَّهر }، ثم نسخ تضييق الإفطار فيما بين المغرب والعشاء، أو بين وبين النوم، والصحيح أنه فرض قبله صوم، ثم نسخ وهو عندنا عاشوراء وقيل ثلاثة أيام من كل شهر، وقال القرطبى: عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهن الأيام المعدودات فى قولين، ونسخ برمضان، وقيل الأيام المعدودات رمضان نسخهن.
{ الَّذِى أُنزلَ فيهِ القُرآنُ }: كله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ونزل بعد ذلك إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فشيئاً فى سائر السنة والسنين بعدها، ويجوز أن يكون المراد: الذى بدأ فيه إنزال القرآن إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وإن قلنا: القرآن الجنس الصادق على كل جزء من كتاب الله الكريم، فيكون المعنى: الذى انزل فيه شئ من حقيقة ما يقرأ، أو فلنا بتقدير مضاف، أى أنزل فيه بعض القرآن، والإنزال على الوجهين أيضاً من السماء الدنيا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يراد أنزل فيه القرآن جملة إلى السماء الدنيا، وبعضه منها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه: والظاهر أن المراد نزوله إليه - صلى الله عليه وسلم - قال صلى الله عليه وسلم -
"نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشر، والقرآن لأربع وعشرين" رواه أحمد وغيره عن وائلة ابن الأسفع، ويروى أن جبريل نزل على أبينا آدم عليه السلام اثنتى عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مرات، وعلى إبراهيم اثنين وأربعين مرة، وعلى نوح خمسين مرة، وعلى موسى أربعمائة مرة، وعلى عيسى عشر مرات، وعلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرين ألف مرة. وروى أبو ذر عن النبى، صلى الله عليه وسلم: "نزلت صحف إبراهيم فى ثلاث ليال مضين من رمضان" وفى رواية "فى أول ليلة من رمضان" وأنزلت توراة موسى فى ست ليال مضين من رمضان، وأنزل إنجيل عيسى فى ثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل زابور داود فى ثمان عشر ليلة مضت من رمضان، وأنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فى الرابعة والعشرين لست بقين بعدها" فيكون بدء نزول القرآن فى شهر رمضان فى ليلة القدر أو يومها عليه - صلى الله عليه وسلم - وذلك قول ابن سحاق وأبى سليمان الدمشقى، وعن ابن عباس: أنزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ فى ليلة القدر رابعة وعشرين من شهر رمضان، توضع فى بيت العزة فى السماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام على محمد - صلى الله عليه وسلم - نجوماً فى ثلاث وعشرين سنة، فذكر قوله: { فلا أقسم بمواقع النجوم } وفى رواية نجوما ثلاث آيات، وأربع آيات، وخمس آيات وأقل من ذلك وأكثر، وفى رواية: كان جبريل ينزله رسلا رسلا فى الأوامر والنواهى والأسباب، وروى الربيع بن جبيب، عن عبد العلاء بن داود، عن عكرمة عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نزل القرآن كله جملة واحدة فى ليلة القدر إلى سماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث فى الأرض شيئاً أنزل منه حتى جمعهُ" قال: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضى بالقضية فينزل القرآن بخلاف قضائه، فلا يرد قضاءه: فيستقبل حكم القرآن، ويجوز أن يكون المعنى: شهر رمضان الذى أنزل فيهِ القرآن فى شأنه من كونه فرضا، وجواز الإفطار للمريض والمسافر وغير ذلك مما دلت عليه الآية تصريحا وضمنا، كما تقول: نزلت الآية فى الصلاة، ونزل الآية فى الزكاة، ونحو ذلك من الفرائض، وكمنا تقول نزلت الآية فى أبى بكر، ونزلت الآية فى عمر، ونزلت فى قوم كذا، ثم رأيته قولا لمجاهد والضحاك والحسن بن الفضل. والقرآن اسم لهذا الكتاب المنزل على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهو مشتق من القرء وهو الجمع، لأنهُ جمع آيات وسور هاديا أو ذا هدى، وأحكاما وقصصاً وأمثالا وغير وذلك مذهب الزجاج، لكنه قال: هو وصف مشتق من القرء بمعنى الجمع، يقال قرأت الماء فى الحوض، أى جمعته، ولعلهُ أراد أنه وصف فى الأصل. قال أبو عبيدة: سمى بذلك لأنه جمع السور بعضها إلى بعض. وقال الراغب: لا يقال لكل جمع قرآن، ولا لجمع كل كلام قرآن، وإنما سمى قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب السابقة المنزلة، وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها، وحكى فضرب قولا أنه سمى قرآنا لأن القارئ يلفظه من فيه، أخذاً من قول العرب: ما قرأت الناقة سلاً قط، أى ما رمت بولدها، أى ما أسقطت ولدا، أى ما حملت قط، والهمزة فى ذلك كله أصل، والألف والنون زائدتان، ووزنه فعلان، وإذا سمع أو قرئ قرآن بلا همزة فكذلك، لكن نقلت حركة الهمزة للراء فحذفت الهمزة، وكذا قال اللحيانى وقوم: إنهُ مهموز، وإن الزائد هو الألف والنون مصدر فى الأصل من قرأت بوزن فعلان كالغفران والرحجان. سمى به الكتاب تسمية للمصدر، وقال الشافعى وجماعة: هو اسم علم ليس مشتقا خاص بكلام الله وهو غير مهموز، ووزنه فعال، وبه قرأ ابن كثير هنا، وحيث وقع وقرانا وقرانه حيث وقع إذا كان اسما بغير همزة، والباقون بالهمزة، وإذا وقف حمزة وافق ابن كثير، أخرج البيهقى والخطيب وغيرهما عنه أنهُ كان يهمز قرأت ولا يهمز القرآن، ويقال اسم الكتاب الله مثل التوراة والإنجيل وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، وقال قوم منهم أبو الحسن الأشعرى: مشتق من قرنت الشئ بالشئ إذا ضممت أحدهما إلى الآخر، لقرن الآيات والحروف والسور، وقال الفراء: مشتق من القرينة، لأنهُ يصدق بعضه بعضاً ووزنهُ أيضاً على القولين فعال بأصالة النون، ورد الزجاج ذلك بأن ترك الهمزة تخفيف بحذفه بعد نقل حركته، واختار السيوطى قول الشافعى.
{ هُدًى للنَّاس }: من الضلالة وهو حال من القرآن مبالغة أو بمعنى هاديا أو ذا هدى.
{ وَبَيِّناتٍ مِنَ الهُدَى }: دلائل واضحات مما يهدى به إلى الحق، فالهدى هدى مصدر بمعنى مفعول، أى من الكلام المهدى به، أو بمعنى فاعل، أى من الكلام الهادى، وليس متكررا مع قوله: { هُدًى للنَّاس }، كما علمت من تفسير فهو كقولك زيد عربى من خالصى العرب، وزيد عربى محض فى العرض، أو المعنى هذا على الإجمال، { وبينات من الهدى } على التفصيل.
{ والفُرْقانِ }: عطف على الهدى، أى وبينات من الكلام الفارق بين الحق والباطل، والهدى الثانى والفرقان جنس ما به الهداية، والفرق بين الحق والباطل مطلقا، أو جنس كلام الله تعالى مما هو كتاب، وهو كتب الله، ومما هو وحى غير كتاب الله.
{ فَمَن شَهِدَ }: حضر فى وطنه غير مسافر عنه.
{ منكم }: أيها المؤمنون، وخصهم لأنهم المنتفعون بالخطاب، ولو كان غيرهم أيضا مكلفا أو أيها الناس المكلفون كلهم.
{ الشَّهرَ }: شهر رمضان مفعول لشهد، لأن شهد متعد كحضر، وإن شئت فاجعله ظرفا، وقدر المفعول، أى حضر وطنه فى الشهر، وإن شئت فاجعله لازما والشهر ظرفاً، بمعنى من لبث فى الشهر أو أقام فيه وإن قلت: كيف صح أن يكون مفعولا والمسافر أيضا شاهد للشهر؟ قلت: لأن المعنى شهد الشهر وحضره وهو فى وطنه.
{ فَلْيصُمْهُ }: الهاء مفعول به على التوسعة، أو ظرف ولا إشكال فى جعل الشهر مفعولا به إذا أريد به الهلال، أى فمن عاين الهلال ورآه فليصم صومه، فحذف آخرا. ووجه: إضافة الصوم للهلال أنه يكون برؤية الهلال، وكذا إن قدر أولا، أى فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه، أى فليصم الشهر لكن لا بد على الوجهين، من أن المعنى من أن المعنى من عاين الهلال فى الوطن، والفاء فى قوله: { فمنْ شَهِد } للتفريع على قوله:
{ وأنْ تَصُوموا خَير لكم } وأنزل فيه القرآن، والفاء فى قوله: { فليصمه } رابطة لجواب من، ويجوز أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبره: من، وشرطها وجوابها فتكون الفاء فى { فَمنْ شَهد } زيدت لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط، ومقتضى الظاهر فمن شهده منكم فليصمه، وموضع الظاهر موضع المضمر للتعظيم، وإذا جعلنا من شهد تفريعا على قوله: { أنزل فيه القرآن } أو جعلناه وما بعده خبرا لرمضان، أفاد التفريع أن كون الصوم خيراً سبب لوجوبه، وأفاد الإخبار بذلك على رمضان، أن إنزال القرآن فى رمضان سبب لوجوب الصوم، لأن الذى: كَالمشتق، وتعليق الحكم بالشتق، يؤذن بعليته ورمضان موصوف بالذى فله حكم الذى.
{ ومَنْ كانَ مَرِيضاً أوْ علىَ سفرٍ فَعِدةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر }: هذا تخصيص من عموم من شهد الشهر، فإن المريض، والمسافر ممن شهده، لكن لما لم يطق بالمرض، أو شهده فى غير وطنه لم يجب عليه الصوم، وكرر لهذا التخصيص، أو لئلا يتوهم نسخ عدم وجوب الصوم على المريض والمسافر بعموم { فَمْن شَهدَ منكُم الشَّهر فَلْيصُمه } كمن نسخ به
{ وعلىَ الَّذينَ يطُيقونه فِدْيةٌ طعامُ مِسْكين } وإن قلت فمن لم ير الهلال، ولكنه أخبر وليس مسافراً ولا مريضا ولا غير قادر، فهل يصوم؟ قلت يلزمه الصوم لأن معنى شهادة الشهر دخول الشهر وهو فى وطنه، وحكم أميال وطنه حكم وطنه، وإن قلت: فقد قدرت فى وجهين من شهد الهلال، قلت شهادة غيره إياه فى حكم شهادته، ويكفى الواحد المتولى إذا كان حرا، قيل ولو امرأة أو أمه أو عبداً إن لم يجر لنفسه نفعا فى خبره، أو يدفع به ضرا، وهذا مذهبنا، وبه قال أبو ثور، وأما الإفطار فلا يجوز إلا بأمينين عندنا وعند الشافعى، وأجازه قوم من المخالفين أيضاً بواحد متولى، وقال مالك: لا يصام إلا بأمينين، ولا يفطر إلا بهما كسائر الشهادات.
{ يُريدُ الله بِكمُ اليُسْرَ }: السهولة فى جميع تكاليفكم.
{ ولا يُريدُ بكُم العُسْر }: الحرج، ولذلك أباح الإفطار للمريض والمسافر، وحمل الآية على العموم أولى من أن يقول يريد الله بكم اليسر فى الإفطار للمرض أو للسفر، ولا يريد بكم العسر بإلزام المريض والمسافر الصوم، كما قال مجاهد والضحاك: اليسر: الفطر فى المرض والسفر، والعسر: الصوم فيهما، وأخذ بعضهم من الآية أن الإفطار فى السفر أولى، قال أبو حمزة: إن كتاب الله قد جاء بذلك، ورب الكعبة قال: الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وعن ابن عباس: إنما أراد الله بالإفطار فى السفر اليسر عليكم، فمن يسر عليه الصوم فليصم، ومن يسر عليه الإفطار فليفطر، وفى خبر آخر: ما خير رجل بين أمرين فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحب إلى الله تعالى. وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ما عرض لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمران إلا أخذ بأيسرهما ما لم يكن إثما، وكان أبعد الناس من الإثم، وما غضب رسول الله لنفسه قط، وروى البخارى عنه - صلى الله عليه وسلم:
"يسروا ولا تعسروا" وكان يحب التخفيف واليسر على الناس، وروى البخارى ومسلم بسندهما عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا سكنوا ولا تنفروا" وروى البخارى ومسلم، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبى "يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا" قال البخارى موسى ومعاذ: "حدثنا أبو اليمانى، قال حدثنا حماد بن زيد عن الأزرق ابن قيس، قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو بزرة الأسلمى على افرس فصلى وخلى فرسه، فانطلق الفرس فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأى وأقبل يقول انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال ما عنفنى أحد منذ فارقت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: إن منزلى متراخ فلو صليت وتركتها لم آت أهلى إلى الليل، وذكر أنه قد صحب النبى - صلى الله عليه وسلم - فرأى من تيسيره، ولا يخفى أن العسر المنفى فى الآية العسر فى التكليف بالأحكام، والمثبت فى قوله { فإن مع العسر يُسْراً إن مع العسر يسراً } التضعيف بالقضاء بالمصيبة، فلا منافاة. وقرئ: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } بضم السين تبعاً للياء والعين، أو هو الأصل والإسكان تخفيف عنه أكثر استعمالا منه.
{ ولِتُكْمِلَوا العِدَّةَ }: وقرأ أبو بكر عن عاصم (بفتح الكاف وتشديد الميم واللام) متعلق بمحذوف تعليل له، أى وارعوا عدة الأيام المعدودة التى هى شهر رمضان { لتكملوا. العِدَّة }: والجملة مستأنفة أو معطوفة على صوموا أياماً معدودات. والعدة عدة أيام رمضان. روى البخارى ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [قال]:
"الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له" وفى رواية: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وروى الربيع بن حبيب، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن أبى سعيد الخدرى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى رمضان: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأقدروا له" وفى رواية أخرى: "فأتموا الثلاثين" وروى الحسن البصرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احصوا هلال شعبان لرمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمى عليكم فأتموا ثلاثين، فإن الشهر يكون تسعا وعشرين" وذكر عن ابن عمر مرفوعاً إليه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الشهر تسع وعشرون - وقال بكفيهِ هكذا وهكذا وهكذا وضم الخنصر فى الثالثة - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وإن حال دونه غمام أو غيابة فأكملوا العدة ثلاثين، فإن فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون" يعنى أنه أشار بأصابعه العشر مرتين، وأشار فى المرة الثالثة بتسعة غير الخنصر. روى الربيع بن حبيب، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد مرسلا، "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الشك وهو آخر يوم من شعبان، ويوم الفطر ويوم الأضحى وقال: من صامها فقد قارف إثما"
وروى الربيع بن حبيب، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن عمر ابن الخطاب بلاغاً أنه صلى بالناس العيد، ثم انصرف وخطب الناس، ثم قال إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم ويوم تأكلون فيه من شككم، وروى عن كثير من العلماء أنهم قالوا "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام ستة أيام من السنة: يوم الفطر ويوم النحر، وأيام التشريق، واليوم الذى يشك فيه من رمضان" . وذكر محمد بن سيرين قال: انطلقت فى اليوم الذى يختلف فيه من رمضان، فلم أر أحدا ممن كنت آخذ منه إلا وجدته مفطرا إلا رجلاً واحدا كان يحسب حسابا له، ولو لم يحسبه كان خيراً له، وكان فيمن أتيت أنس بن مالك، ومسلم بن يسار، ويجوز أن يكون المراد بإكمال العدة قضاء ما أفطروا فيه لمرض، أو سفر.
ويلتحق لذلك إفطارها لحيض أو نفاس، وإفطار كل من أفطر للإفطار بوجه من الوجوه، ويجوز أن يكون العطف على المعنى، فيكون من العطف المسمى فى سائر الكلام عطف توهم، وذلك بأن يعطف لتكملوا على قوله: { يريد الله بكم اليسر } كأنهُ قيل: لأن الله يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، ولتكملوا العدة، أو اللام صلة للتأكيد فى مفعول يريد بواسطة العطف، وهو عطف على اليسر، أى يريد الله بكم اليسر وإكمال العدة، أو يقدر له يريد، أى ويريد لتكملوا العدة كقوله جل وعلا:
{ يُريدونَ ليطفئوا نور الله } }. { وَلِتُكَبِّرُوا اللّهَ علَى ما هَداكمُ }: متعلق بمحذوف علة له، أى اقضوا ما أفطرتم لمرض أو سفر، لتعظموا الله بالحمد والثناء على هدايته إياكم، فإن القضاء نعمة يجب الشكر عليها إذا جاز الإفطار، وقام القضاء مقامه، ويجوز عطفه على { لتكملوا العدة } بما فى { لتكملوا العدة } من الأوجه، فيجوز أن يكون المعنى ولتكبروا الله عند إكمال العدة على إرشاده إياكم لمعالم دينه، وما مصدرية، وعلى للتعليل أو الاستعلاء المجازى، أى: لأجل هدايته إياكم، أو بانين على هدايته إياكم، هذا ما ظهر لى، واقتصر ابن هشام على التعليل، وفى قول القاضى: إنه عدَّ التكبير بعلى لكونه بمعنى التعظيم بالحمد، والثناء إشارة إلى أن على للاستعلاء، ويضعف كون ما اسما موصولا، أى على ما هداكم إليه، لأن فيه حذف العائد المجرور بحرف لم يجر بمثله الموصول، ويجوز كون هدى متعديا لاثنين كقوله جل وعلا: { وهَديْناهُما الصّرَاط المستقيم } }، { { اهدنا الصراط المستقيم } ، } أى على ما هداكم إياه أو على ما هداكموه، فيكون حذفه على القياس، وقد علمت أن معنى التكبير تعظيم الله، والتعظيم فعل القلب وعمل الإنسان والجوارح دليل عليه، وتبع له بأى لفظ كان لفظ تكبير أو غيره، وبأى عبارة كان، وقيل المراد تكبير يوم الفطر، وذكروا عن جعفر بن محمد أن أباه كان يكبر ليلة الفطر، فلا يزال يكبر حتى يصلى مع الإمام صلاة العيد، وكان بعضهم يجهر بالتكبير حتى يغدو إلى المصلى، وذكروا أن عليا كان يكبر على بغلته يوم الفطر وهو متوجه إلى المصلى، ومن السنة أن يكبر الإمام على المنبر فى المصلى يوم العيد سبع تكبيرات قبل أن يخطب الخطبة الأولى، ثم يكبر قبل أن يخطب الخطبة الآخرة سبع تكبيرات. قال مالك: ذلك تكبير الرجل من حين خروجه من منزله إلى أن يخرج الإمام إلى المصلى، ولفظهُ عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثة ثلاثة. ومن العلماء من يكبر ويهلل ويسبح فى أثناء التكبير. ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وقيل التكبير تعظيم الله باللسان بأى لفظ كان، وعن ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا. وقال الشافعى: ويجب أظهار التكبير فى العيدين، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يكبر فى عيد الفطر ويكبر فى عيد الأضحى.
{ ولَعلَّكُم تَشْكُرونَ }: تعليل أو ترجية متصل بمحذوف، أى ويسر لكم أو رخص لكم فى الإفطار لعلكم تشكرون الله على ذلك، فإنه نعمة أو على نعمه مطلقاً، أو معطوف على ما سبق، ويجوز كون تلك التعاليل متعلقة بمحذوف دل عليه ما سبق، أى: وشرع الله وجوب الصوم على من شهد منكم الشهر، ووجوب القضاء على من أفطر لمرض أو سفر، ووجوب مراعاة عدة ما أفطر، والترخيص فى الإفطار لتكملوا العدة... إلخ. على سبيل اللف، وتعاليل متعلقة بمحذوف وتقديره: ليسهل عليكم، ولتكملوا: ولتعلموا ما تعلمون ولتكملوا، ويجوز أن يكون لتكملوا ولتكبروا أمرين معطوفين على ليصمه الثانى أو الأول، أو على صوموا أياما معدودات، وفى ذكر الهداية والشكر تلويح بأن المسلمين موفقون إلى أداء الصوم كما فرض عليهم، ووجب عليهم التكبير والشكر لذلك التوفيق، لا كالنصارى المخذولين حتى إغروا الصوم.