التفاسير

< >
عرض

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
١٨٧
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أُحِلّ لَكُمْ لَيْلةَ الصِّيامِ الرَّفثُ إلى نِسائِكُم }: أى أحل الله لكم فى الليلة التى تصومون يومها الإفضاء إلى نسائكم بالجماع، وقرأ بعض ببناء أحل للفاعل وهو الله سبحانه، ونصب الرفث. وقرأ عبد الله بن مسعود الرفوث بالنصب والبناء للفاعل، والرفث كناية عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من رفث، وهو التصريح بأمر الجماع، كأجامع وأنيك وأدخل بين الشعاب الأربع، وأطؤك وغير ذلك من ألفاظ الجماع، ولو كان بعضها أقبح من بعض، أى أحل لكم أن تصرحوا لهن بنحو أجامعك وأطؤك، قال ابن عباس: إن الله حيى كريم يكنى، يعنى أن الرفث كناية عن النكاح كالألفاظ السابقة، وقد قال ابن عباس: النيك تصريح بالجماع وذلك أنه أنشد وهو محرم آخذ بذنب بعيره يلويه:

وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا

فقال له حصين بن قيس: أرفثت؟ قال له: الرفث ما كان عند النساء، فتراه سلم أنه صرح به لكن عند غير النساء. ولميس امرأة بغى فيما قيل. والبيت لغيره حكاه حكاية ولم يعنه، وقال ابن إسحاق: الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبلة ولمس، قال غيره أو كلام فى هذا المعنى، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، واختار بعض الرفث الدال على القبح وذكر فى المواضع الأخرى الإفضاء والتغشى والمباشرة والملامسة والدخول، وإتيان الحرث واللمس والاستمتاع والقرب، لتقبيح ما ارتكبوه من الجماع ليالى الصيام قبل أن يحل لهم، ولذلك سماه خيانة، وذلك أنهم كانوا فى صدر الإسلام يصومون من العشاء أو من النوم إن ناموا قبل العشاء المغرب، فلا يأكلون ولا يشربون ولا يجامعون إلا بين المغرب والعشاء إن لم يناموا، فأحل الله لهم الجماع فى الليلة كلها إلا قدر ما يتطهرون فيه قبل الفجر بقوله: { أحِلَّ لَكُمْ ليْلةَ الصِيام الرَّفثُ إلى نِسَائِكُمْ }، والليلة جنس، والمراد ليالى الصوم، وبقوله: { فالآنَ باشرُوهنَّ }، وأحل الله جل وعلا لهم الأكل والشرب فى الليلة كلها بقوله: { وكُلُوا واشْربُوا حتَّى يَتَبيَّن لكُم الخَيْط الأبيَض مِنَ الخَيْطِ الأسْودِ مِنَ الفَجْرِ } وذلك كله ناسخ بمرة، فالمراد بالصيام كما مر صيام النهار ولا أثر لبقاء صيام الليل فى قوله: { ليْلةَ الصِّيامِ }، قال بعضهم: كتب الله سبحانه صيام رمضان على من كان قبل هذه الأمة، لا يأكلون ولا يشربون، ولا يطؤون النساء بعد رقادهم من الليل إلى مثلها من القابلة، وكانت هذه الأمة فى صدر الإسلام كذلك، وكان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يصيبون ذلك بعد رقادهم، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية قال عمرو بن العاص: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" روى أحمد بن حنبل أن المسلمين كانوا إذا أمسوا أحل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء ويرقدوا، ثم إن عمر باشر بعد العشاء، وقيل بعد النوم، فقدم وأتى النبى صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بأنهم صنعوا بعد العشاء، وقيل بعد النوم، فنزلت الآية. قال ابن عباس: " ذلك فى أناس منهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، جاء إلى امرأته فأرادها فقالت قد نمت أنا، فظن أنها تعتل بذلك فوقع بها، ثم تحقق أنها قد نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعاً، فلما اغتسل أخذ يبكى ويلوم نفسه، ثم أتى النبى صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله أعتذر إلى الله وإليك من هذه الخطيئة، إنى رجعت إلى أهلى بعد ما صليت العشاء، فوجدت رائحة طيبة، فسولت لى نفسى، فجامعت أهلى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديراً بذلك يا عمر، فقام رجال فاعترفوا بمثل ذلك" ، فنزلت الآية. وفى رواية " جامع نساءهم بعد النوم أربعون رجلا منهم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، واقع أهله بعد صلاة العشاء، ليجعل الله رخصة فى ذلك، ثم ندم وبكى وأتى النبى صلى الله عليه وسلم وكذا غيره، وقال له: ما كنت جديراً بذلك يا عمر، وقالوا: ما توبتنا يا رسول الله؟ فأنزل الله تعالى: { وإذا سألكَ عِبادِى عَنِّى فإنِّى قريبٌ أجِيبُ دَعْوة الدَّاع إذا دَعَان } " انتهى. ويجمع بين كون ذلك بعد النوم فى قول، وبعد العشاء فى قول آخر، وبين قول فى هذه الرواية بعد النوم، وقوله: بعد صلاة العشاء بأن ذلك وقع بعد النوم، وصلاة العشاء، أو عمر بعد العشاء وغيره بعد النوم، فغلبوا عليه، كما حكى فى الوضع القصة على حد ما مر، وفيه كما مر: رجعت إلى أهلى بعد ما صليت العشاء، فوجدت رائحة طيبة، فأردتها فقالت قد صليت أو نمت، فلم أصدقها، وفيه فهل تجد لى من رخصة؟ وفيه فقعد عمر مغموماً محزوناً، فجاء ناس من المسلمين فاعترفوا بما فعلوا بعد النوم من غشيان النساء، فأنزل الله تعالى: { أُحِلَّ لكُم لَيْلَةَ الصيامِ الرَّفثُ إلى نِسَائِكُم } فقالوا: يا رسول الله ما توبتنا؟ وكيف المخرج؟ فأنزل الله تعالى: { وإذا سَألَكَ عِبادِى عنِّى فإنِّى قَريبٌ أُجِيِبُ دَعْوةَ الدَّاع إذا دَعَانِ.. } الآية وفى قوله: { أُحِلَّ لكُم.. } الآية دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن، والذى عندى أن ذلك يحتمل أن صدر منهم فى تلك الليلة، واقتصر أبو ستة، ويحتمل أنه صدر منهم قبلها، أو من بعضهم فيها، ومن بعضهم فى غيرها، أو تكرر. واستبعد أبو ستة أن يهتك حرمة الصوم عمر بلا شبهة، وأن الصواب بعد ما صلت بدل قوله بعد ما صلى كما يدل له قوله: فلم أصدقها إذا لا معنى لقوله لم أصدقها مع أنه قد صدر منه المانع.
{ هُنَّ لِبَاسٌ لكُم وأنتُمْ لِباسٌ لَهنَّ }: أى هن كاللباس لكم، وأنتم كاللباس لهن، لأن كلا من الزوجين يشتمل على الآخر عند التعانق، ولا سيما عند النوم لدخولهما عنده فى ثوب واحد، كاشتمال اللبس على لابسه قال الجعدى:

إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا

أى إذا مال المضاجع جانبها مالت، وكانت لباسا عليه، أو لأن كلا من الزوجين يستر الآخر عن الزنى ومقدماته، كما يستر اللبس عورته عن أن ترى. قال صلى الله عليه وسلم: "من تزوج فقد أحرز ثلثى دينه" أو لاحتياج كل للآخر كما يحتاج إلى لباسه ليستره ويقيه الحر والبرد، كذلك يحتاج كل للآخر فى أمر الجماع وشأن البيت وخارج البيت، وبعض لباس استعارة على مختار السعد، وتشبيه بليغ على غيره، ويجوز أن يكون لباس بمعنى ملابسات وملابسين لكثرة الملابسة بين الزوجين وهى المخالطة، ومن هذا معنى قيل لباس بمعنى سكن، كما قيل لا يسكن شئ إلى شئ كسكون أحد الزوجين إلى الآخر، وقد فسره الشيخ هود بالسكن، والجملة تعليل لقوله: { أحل } دَالة على عدم الاستغناء عنهن.
{ عَلِمَ اللَّهُ أَنَكُمْ كُنْتم تَخْتانُون أنْفُسَكُم }: تظلمونها بتعريضها للعقاب على الجماع والأكل والشرب بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، وتنقيص حظها من الثواب، وأصل { تختانون } من الخيانة فى الأمانة، وهى ألا يؤديها أو لا يصونها، ويقال للعاصى خائن، لأنه اؤتمن على دينه فخان، فكذلك ائتمنهم الله جل وعلا ألا يأكلوا ولا يشربوا ولا يجامعوا بعد النوم ولا بعد صلاة العشاء، فأكل وشرب وجامع قوم، وإنما أدخلت الأكل والشرب فى الخيانة، لأن مجموع الآية فى نسخ تحريم ذلك، ويدل لذلك أنه لما ذكر الاختيان فرع عليه التوبة والعفو، ثم فرع على التوبة والعفو الأمر بالجماع والأكل والشرب، وفسر من تقدمنى من المفسرين بالاختيان فى الجماع. كالخازن. قال ابن عباس: تختانون أنفسكم فيما ائتمنكم عليه، وهو محتمل لذلك، والاختيان أبلغ من الخيانة، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كالاكتساب والكسب، فكأنه قيل تخونون أنفسكم خيانة عظيمة.
{ فتَابَ عَليْكُم }: أي فقبل توبتكم لما تبتم.
{ وعَفَا عَنكُم }: أى محا عنكم أثر ما اقترفتم من الخيانة. روى البخارى عن البراء بن عازب: لما نزل صوم رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: { عَلِمَ اللّهُ أنكُم كُنْتُم تَخْتانُون أنفسَكُم فَتَابَ عَليْكُمْ وعَفَا عنكُم } الآية قال ابن عباس: فكان ذلك مما نفع الله به الناس ورخص لهم ويسر.
{ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ }: جامعوهن الآن، أى فى هذا الوقت الذى نزل فيه إحلال الرفث إلى نسائكم ليلة الصيام إلى قيام الساعة، والمباشرة كناية عن الجماع، مأخوذ من قولك باشره، بمعنى ألزق بشرته ببشرته والبشرة الجلدة، والآن ظرف مبنى على الفتح لأنه اسم إشارة.
{ وابْتَغوا مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ }: أى واطلبوا ما قدره الله لكم وأثبته فى اللوح المحفوظ من الولد، قال ابن عباس: { باشروهن } كناية عن الجماع، وابتغوا ما كتب الله لكم، اطلبوا بالجماع الولد، فالآية دلت على أنه لا يطلب الإنسان بالجماع قضاء الشهوة فقط، بل بقصد ما وضع الله عز وجل له النكاح من التناسل وتكثير الملة المحمدية، وقال صلى الله عليه وسلم:
"تناكحوا تناسلوا فإنى مكاثر بكم الأمم" أى اطلبوا بالنكاح ما كتب الله لكم من الولد فى الجملة، فإن كان أحدكم ممن قضى الله له بالولد رزق الولد، فتدل الآية عندى عن النهى عن العزل، وهو أن يجامع ويهرق الماء فى الخارج، فهذا لا يجوز بمقتضى هذه الدلالة ولو فى السرية، وفيه فروع ذكرتها فى شرح النيل، منها المنع فى الحرة، والجواز فى الأمة، وقيل اقصدوا ما كتب الله لكم من إباحة الجماع ليلة الصيام، لأنه المذكور فى قوله: { أحل لكم ليلة الصيام الرَّفثُ } وقوله: { فالآنَ باشِرُوهنَّ } وقيل اقصدوا ما كتب الله لكم من إباحة الجماع والأكل والشرب، لأن الأكل والشرب ولو لم يذكر، بل يذكران بعد لكنهما قد كتبهما الله لنا ليلة الصيام، وفى الآية نسخ تحريمهما ولو تأخر ذكرهما، ويحتمل القولين، قول قتادة: ما كتب الله لكم من الإباحة بعد الحظر، وقيل اقصدوا محل الجماع وهو القبل، محل الحرث دون الدبر مخرج الفرث، ويحتمل أن يكون { باشروهن } بمعنى مسوهن للتلذذ مسا يكون مقدمة للجماع، وابتغوا ما كتب الله لكم بمعنى جامعوهن واطلبوا ما كتب لكم من الولد بالجماع، وقيل اقصدوا ليلة القدر، فإنها نفع لنا مخصوصة، وما كتب الله لكم من الثواب إن أصبتموها وقمتموها، وهو قول بعيد قريب من أقوال الصوفية، وقرأ ابن عباس: وابتغوا ما كتب الله لكم. وقرأ الأعمش وآتوا ما كتب الله لكم.
{ وكُلوا واشْرَبُوا حتَّى يتبين لكُم الخَيْطُ الأبيضُ مِنَ الخيْطِ الأسْودِ من الفَجرِ }: شبه أول ما يظهر من الفجر المنتشر، وما يمتد فوقه من بقية الليل، بخيط أبيض وخيط أسود، ففى الخيط الأبيض استعارة تصريحية، وفى قوله: { الخَيْطِ الأسْودِ } استعارة تصريحية أيضاً، ومن الفجر قرينة، ولو جعلنا من للبيان، فكما أن زيداً أسد من الاستعارة على التحقيق الذى هو مختار السعد، ولو اجتمع فيه المشبه والمشبه به، كذلك الآية لأنه تمت الاستعارة، وجاء بعد تمامها قوله: { مِنَ الفَجْر } قرينة وبيانا للخيط الأبيض، ويقدر بيان الخيط الأسود هكذا، وبقية الليل، فلو قلت جاء أسد له لبد وزئير وأظفار وافرة وهو زيد، لم يخرج عن الاستعارة بقولك هو زيد، هذا ما ظهر لى، وقد كنت أول مما رستى لفن البيان أقول: إن هذا تشبيه بليغ بحذف أداة التشبيه، أى حتى يتبين لكم مثل الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وأعلل ذلك بأن الاستعارة لا يجمع فيها بين المشبه والمشبه به، والمشبه هنا مذكور وهو الفجر، والمشبه الآخر مقدر مدلول عليه بذكر الفجر، أى من الفجر أو بقية الليل، فقوله من الفجر مع ما قدرنا قرينة التشبيه كما هو قرينة الاستعارة، لأن التشبيه البليغ بحذف الأداة محتاج إلى قرينة لفظية أو حالية، كالاستعارة والمجاز المرسل، وسواء فى ذلك جعلنا من للبيان أو للتبعيض، فإن كون الخيط الأبيض والأسود بعضا من الفجر، وبقية الليل قرينة، وبيان على أن ليس المراد حقيقة الخيط الأبيض والأسود، وإن قلت كيف صح أن يكون ذلك بعضاً مع أن الفجر كله خيط؟ قلت صح على أن المراد بالخيط الأبيض ما يلى السواد فقط، وبالأسود ما يلى الأبيض فقط، وأن كلا من الفجر وبقية الليل بعض من مجموع الفجر وبقية الليل، وأوان الخيط الأبيض وهو الفجر الظاهر كله بعض من مجموع ذلك الفجر، والفجر الذى خفى بجبل أو أرض، والخيط الأسود بعض من مجموع بقية الليل، ومن الفجر حال من الخيط الأبيض سواء جعلنا من للبيان أو للبتعيض، والمحذوف حال من الخيط الأسود بواسطة العطف، سواء قدرناه بدون من لأنه معطوف على مدخول من، فله أحكام الجار والمجرور من التعلق واستتار ضمير الاستقرار فيه، والنيابة عن الاستقرار، وقدرناه بمن هكذا من الفجر ومن بقية الليل، والظاهر أن قوله: { مِنَ الفَجْر } نزل مع ما قبلهُ فى وقت واحد، وروى البخارى ومسلم عن سهل بن سعد أنه قال: لما نزلت { وكُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتبيَّنَ لكُم الخيْطُ الأبيضُ مِنَ الخَيطِ الأسْودِ } ولم ينزل قوله: { مِنَ الفَجْر } كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم فى رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله عز وجل: { منَ الفَجْر } فعلموا أنه إنما يعنى الليل والنهار، روى البخارى ومسلم أيضاً،
"عن عدى ابن حاتم، لما نزلت { حتَّى يَتبيَّن لكُم الخيْطُ الأبيضُ منَ الخَيط الأسْودِ }، عَمدت إلى عقال أسود وعقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتى، وجعلت أنظر فى الليل فلا يستبين لى، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار" وظاهره أيضاً لم ينزل من الفجر حين فعل ذلك عدى، ونزل بعد أو نزل ولم يعلم، ويحتمل أن يكون نزل وعلم، ولكنه فهم أن الحد أن يميز أحد الخيطين من الآخر بضوء الفجر، وأنه ما لم يمتاز أحل له الأكل، ولو انتشر الفجر، ونص صاحب الوضع -رحمه الله - على أنها نزلت كلها قبل فعل عدى ذلك. قال وقيل: " إن النبى صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية لعدى بن حاتم حين علمه الصوم فقال له: صم كذا وكذا فإذا غابت الشمس فكل حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود وصُم ثلاثين وما إلا أن تروا الهلال قبل ذلك قال عدى: فأخذت خيطين من شعر أبيض وأسود، فجعلت أنظر فيهما فلا يتبين لى شئ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه وقال: يا بن حاتم إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل وظلمته" فتراه قال فسر له الآية والآية اسم للآية إلى آخرها، وأيضاً قد ذكرها كلها قبل إذ قال: وإنما الصيام بالنهار دون الليل لقول الله تعالى: { كُلوا واشْربُوا حتَّى يَتبيّن لكُم الخيْطُ الأبيضُ مِنَ الخَيطِ الأسودِ من الفَجْر }.. الآية، وكان السبب فى نزول هذه الآية - على ما ذكر أهل التفسير - "أن رجلا من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة، ظل النهار يعمل فى أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع إلى أهله وقال لها قدمى الطعام، فأرادت أن تطعمه شيئاً سخوناً فأخذت تصنع لهُ، وكان الصوم الأول إذا صلى الرجل العشاء أو نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع، فلما فرغت من عمل الطعام وجدته قد نام بالعياء والكلل، فأيقظته، فكره أن يعصى الله ورسوله فأبى أن يأكل، فأصبح صائماً مجهوداً، فلم ينتصف النهار حتى غشى عليه، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا قيس مالك أمسيت طليحاً؟ فقال: ظللت أمشى فى النخل نهارى كله، أجر بالجرير فلما أمسيت أتيت أهلى فأرادت المرأة أن تطعمنى شيئاً سخيناً وأبطأت عنى ونمت، فأيقظونى وقد حرم على الطعام والشراب، فطويت فأصبحت من يومى وقد أجهدنى الصوم، فاغتم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: { كُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتبينَّ لَكُم الخَيْطُ الأبيضُ من الخيْطِ الأسْودِ } الآية" انتهى. لكنه قال: إن سبب نزول الآية أبو قيس، والجواب أن مراده بالآية هو قوله: { وكُلوا واشْربُوا } الآية، تسمية للبعض باسم الكل، فإن أول الآية هو قوله: { أحِلَّ لكُم ليلةَ الصِّيام } وقد ذكر أيضاً قبل هذا أن قوله { أُحِلَ لكُم } سبب نزوله قصة عمر وشبهه، فسبب نزول { أحلَّ لكُم } مَنْ جَامَعَ، وسبب نزول { كلوا واشربوا } قصة أبى قيس أو قصته مع قصة من أكل أو شرب بعد النوم أو بعد صلاة العشاء. والكلل: ضد النشاط، والطليح: من عيى أو هزل، والجرير: حبل يجعل على شدق البعير كأن أبا قيس ربطه بما يحمل فيه التراب، فجعل يجره به، وطويت بكسر الواو: جعت. والناجذ: من آخر الأضراس، وفى رواية البخارى ومسلم السابقة عن سهل بن سعد دلالة على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. والمذهب عندنا وعند أكثر قومنا المنع، فالجواب أنهم اعتبروا حقيقة الخيطين فى صوم النفل قبل رمضان، ولم يدخل رمضان حتى نزل قوله: { من الفجر } وتأخير البيان إلى وقت الحاجة مختلف فيه. الصحيح الجواز، وما ذكره صاحب الوضع - رحمهُ الله - من قصة أبى قيس قد ذكره أيضاً البخارى عن البراء، لكن سماه قيسا لا أبا قيس، وفى رواية صرمة بن قيس: قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى، وأن قيس بن صرمة الأنصارى كان صائماً، فلما حضر الإفطار أتى أمرأته فقال: عندك طعام؟ قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قال: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: { أُحِلَّ لكُم ليلةَ الصِّيامِ الرَّفثُ إلى نِسائِكم } ففرحوا بها فرحاً شديداً، فنزلت: { وكُلوا واشْربُوا حتَّى يَتبيَّن لكُم الخيْطُ الأبيضُ مِنَ الخَيطِ الأسْودِ مِنَ الفَجْر } والفاء فى قوله: فنزلت هذه الآية ليست سببية، فلا ينافى ما تقدم من أنها نزلت فى عمر ونحوه.
وقالت المالكية: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وبجوز تأخيره إلى وقتها، ومنع أكثر المتكلمين تأخيره إلى وقت الحاجة، وكذا أكثر الفقهاء وهو قول أبى هاشم وأبى على، ولم يصح عندهم الحديث، ومن أجازه قال إنه خارج عن العبث، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على الفعل إذا ظهر موضحه. قال عياض: كان بين طرفى المدة عام من رمضان إلى رمضان تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وذكر غير سهل بن سعد من الصحابة ما ذكره سهل، وروى
" أن سهلا جعل خيطين على وسادة، وأخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن وسادك لعريض" . وروى: "إن كان وسادك لعريض" وروى: "إنك لعريض القفا" وذلك كناية عن قلة فطنته، قال الزمخشرى أنشدتنى بعض البدويات لبدوى:

عريض القفا ميزانه فى شماله قد الخص من حسب القرارة ميط

والجمهور على أن الفجر الذى يحرم به الأكل والشرب هو المنتشر، وذلك مذهب قومنا، وبه أخذ الناس فى الأمصار والأعصار، ووردت به الأحاديث وعن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمانى وابن عباس وغيرهم: أن الإمساك يجب بتبيين الفجر فى الطرق وعلى رءوس الجبال، وذكر عن حذيفة أنه قال: تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وكذا روى عن على أنه قال: الفجر المحرم للأكل والشرب والجماع هو الشفق الأحمر، وبه قالت فرقة شاذة، وروى أن علياً صلى الفجر ثم قال: هذا حين تبين الخيط الأبيض، وروى أن حذيفة لما طلع الفجر تسحر ثم صلى، وعن مسروق: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم هذا، إنما كانوا يعدون الفجر الذى يملأ البيوت والطرق ضوءاً، والصحيح عن ابن عباس ما رواه الشيخ إسماعيلرحمه الله فى القواعد عنه أنه قال: الفجر هو المستطير. وروى البخارى ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت. وعن سمرة بن جندب، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بيان الأفق المستطير هكذا حتى يستطير هكذا" وحكاه حماد بيده رواه مسلم يعنى معترضاً، وروى الترمذى: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير فى الأفق" ، والمستطيل هو الكاذب يضمحل ثم يبدو الصادق، ورفع الشيخ هود -رحمه الله - الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الفجر فجران" ، فأما الذى كأنه ذنب السرحان فانه لا يحل شيئا ولا يحرمه، وأما المستطير الذى يأخذ بالأفق فإنه يحل الصلاة ويوجب الصوم، ومن نظر للفجر أو للغروب ولم يتحققه وشك فيه فأكل فقيل لا شئ عليه استصحابا للأصل، وقيل يقضى يومه، وبه قال مالك: وقيل ما مضى وقوله: { حتَّى يَتبيَّن } غاية لقوله: { كلوا واشربوا } لا لهما مع قوله: { باشِرُوهنَّ } لأنه لا يتبادر هذا مع الفصل بقوله: { وابتَغُوا ما كَتَبَ الله لَكُمْ }، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح جنبا أصبح مفطراً" فمن أخر الجماع حتى يتصل بالفجر ولا يكون بينهما ما لزمه من اغتسال الجنابة أو من تيمم لها أصبح مفطراً، فعلمنا أنه يقدم الجماع بقدر ما يأتى فيه بما خوطب به من اغتسال أو تيمم، وما يتم به، والسنة تبين الكتاب، فبطل قول قومنا بأنه قوله: { حتى يَتبيَّن } راجع إلى قوله: { باشِرُوهُن } وقوله: { كُلُوا واشْربُوا } وإن ذلك دال على ترك الاغتسال لا يفطر به، وأنه يجوز تأخير الاغتسال إليه.
{ ثُمَّ أتمُّوا الصِّيامَ إلىَ اللِّيل }: أكملوا الصيام من الفجر إلى دخول الليل بغروب الشمس، فإذا دخل الليل فقد أفطر ولو لم يأكل ولم يشرب ولم يجامع ولم يقعد مفطراً، روى البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى، عن عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
"إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" ، وزاد صاحب الوضع،رحمه الله ، أكل أو لم يأكل، والزيادة من الثقة مقبولة، وروى حديث: "إذا سقط القرص وجب الإفطار" أى حصل الإفطار بمجرد سقوط القرص دون الأكل والشرب، وذكروا عن أبى عبد الله بن أبى أوفى أنه قال: " كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى شهر رمضان فى سفر، فغابت الشمس فقال: انزل فاحدج لى قلت: إن عليك النهار، قال: انزل احدج لى قلت: لو أمسيت. قال: انزل احدج لى فنزلت فحدجت له، فسوت ثم قال: إذا جاء الميل من ها هنا - وأومأ بيده إلا المشرق - فقد أفطر الصائم" . وفى الآية والحديث نفى الوصال، ولا يلزم الأكل أو الشرب فى الغروب، أو فعل ما يفطر كالجماع مما يحل فى الغروب، لأن الإفطار حاصل بالغروب، فإذا لم ينو صوم الليل صدق أنهُ لم يواصل، وقيل لا بد أن يأكل أو يشرب، ومثله أن يفعل ما يفطر، وإلا كان مواصلا وليس كذلك، لأن الإفطار يحصل بالغروب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا ولو بشربة من ماء وأفطروا ولو على شربة من ماء" رواه ابن عدى عن على، فلا يدل على وجوب السحور والفطور، كما قيل إنه يدل عليهما، لأن ذلك أمر بالسحور والفطور للإرشاد للمصلحة، وهو أن يتقووا. ولئلا تتعلق قلوبهم بالطعام والشراب فى الصلاة. لا أمر وجوب، ولا أمر من أجل الخروج عن الوصل، وأما قوله: فصل ما بين صومنا وصوم أهل الكتاب أكلة السحر، فمعناه أنهم يوجبون ترك الأكل سحراً وليس بواجب، بل يجوز الأكل وأنه أفضل، ولا دليل فى الآية على جواز نية الصوم من بعد طلوع الفجر كما زعم من زعم. متعلق بقوله: { أتمُّوا الصِّيام } لأنا نقول أنموا الصيام اجعلوه كاملا كما عقدتموه ليلا، فإن إتمام الشئ يقتضى تقدم شئ منه، وما الشئ المتقدم إلا العزم على الصوم قبل الفجر، ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا صوم لمن لم يثبت الصيام من الليل" ودلت الآية على تحريم الإفطار قبل الليل فى صوم الفرض، وقسنا عليه صوم النفل، وأعان على هذا القياس قوله تعالى: { لا تُبْطلوا أعمالكم } وذكر الإمام أفلح أنهُ جاء حديث مستفيض ذكره العلماء عن شداد بن أوس، عنه صلى الله عليه وسلم: " أخوف ما أخاف على أمتى الشهوة الخفيفة قلنا يا رسول الله وما الشهوة الخفية؟ قال: يصبح أحدكم صائماً فتعرض له شهوة فيواقعها فيدع صومه" .
وأجاز بعض أصحابنا الإفطار فى النفل نهاراً لموافقة الأخ المسلم وأجازت الشافعية الإفطار من النفل مطلقاً لما رواه مسلم عن عائشة: " دخل النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شئ؟ قلنا: لا. قال: فإنى صائم، ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله أهدى لنا حيس قال أرنيه: فلقد أصبحت صائماً، فأكل" . فنجيب بأن معنى قوله: فإنى إذاً صائم، إنى ماسك عن الأكل إذا لم أجد ما آكل، ومعنى: أرنيه فلقد أصبحت صائماً أرينه لآكله لأنى أصبحت غير آكل فجعت، فالصوم الغوى والحيس الأقط والتمر والسمن، وقد يجعل عوض الأقط دقيق، وقيل أنه ينزع نواه ويخلط بالسويق. قال الخازن والأول أعرف، وروى أحمد، والترمذى والحاكم عن أم هانئ عنه - صلى الله عليه وسلم - "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" . قلنا فى سنده ضعف فإن صح فلعله فيما استثنى ليلا والله أعلم.
ويستحب تعجيل الإفطار، روى فى الوضع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تزال طائفة من أمتى على الفطرة ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور" . وأجمعوا أن التعجيل بعد تحقيق الغروب لقوله تعالى: { إلى الليل } وفى رواية الربيع، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس: "لا تزال أمتى بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور" وفى رواية: "لا تزال أمتى على الفطرة ما لم يخروا المغرب إلى اشتباك النجوم" ويحتمل هذا الحديث الصلاة، وهو الظاهر، وروى ابن حبان والحاكم من حديث سهيل: "لا تزال أمتى على سنتى ما لم تنتظر بفطرها النجوم". قال ابن عبد البر: أحاديث تعجيل الإفطار، وتأخير السحور متواترة. وروى عبد الرزاق عن عمر بن ميمون الأزدى: كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أسرع الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً، وذلك لئلا يزاد فى النهار من الليل، وأنه أرفق بالصائم وأقوم له على العبادة، وكان أهل الكتاب فيما قيل يؤخرون الإفطار إلى اشتباك النجوم. وروى مرفوعاً: ثلاث من سنن المرسلين تعجيل الفطور وتأخير السحور والأخذ باليمين عن الشمال فى الصلاة، وهذا الأخير وهو الأخذ باليمين عن الشمال فى الصلاة زيادة فى الحديث من غير ثقة، لا نقبلها لعدم ما يصححها. وأسند هذا الحديث إلى أبى ذر رضى الله عنه، وروى غيره والتبليغ فى السحور والله أعلم.
وروى أبو هريرة عن ابن ماجه، وابن حبان فى صحيحه، والترمذى واللفظ له، وقال حديث حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العدل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتفتح له أبواب السماء ويقول الرب تعالى وعزتى لأنصرنك ولو بعد حين" . وروى ابن السنى عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان فرحة عند فطوره، وفرحة عند لقاء ربه" ، قال ابن المبارك فى رفائقة: أخبرنا حماد بن سلمة، عن واصل مولى أبى عيينة عن لقيط أبى المغيرة، عن أبى بردة أن أبا موسى الأشعرى كان فى سفينة فى البحر مرفوعاً شراعها، فإذا رجل يقول: يا أهل السفينة قفوا سبع مرات، فقلنا: ألا ترى على أى حال نحن؟ قال: فى السابعة قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه: أنه من عطش نفسه لله فى يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، وكان أبو موسى يبتغى اليوم الشديد الحر فيصومه. وروى واصل بن لقيط، عن أبى بردة، عن أبى موسى الأشعرى قال: غزا الناس برا وبحرا فكنت ممن عزا فى البحر، فبينما نحن نسير فى البحر إذا سمعنا صوتاً يقول يا أهل السفينة قفوا أخبركم، فنظرنا يميناً وشمالا فلم نر شيئاً إلا لجة فى البحر، ثم نادى الثانية حتى نادى سبع مرات يقول كذلك، قال أبو موسى: قمت فى السابعة فقلت ما تخبرنا؟ قال: أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه أن من عطش فى يوم حار يرويه الله يوم القيامة: قال ابن المبارك: أخبرنا أبو بكر بن أبى مريم الغسانى، قال: حدثنى ضمرة بن حبيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شئ بابا وإن باب العبادة الصيام" .
{ ولا تُباشِرُوهنَّ }: أى لا تمسوهن للتلذذ للجماع، وما دونه. هذا قول الجمهور وقال قوم: المعنى لا تجامعوهن، قال قتادة: كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها، ثم يرجع بعد اغتسال الجنابة، فأنزل الله تعالى نهيا عن ذلك: { ولا تُباشِروهُنّ }.
{ وأنْتُم عاكِفُون فى المسَاجِدِ }: أى لا تباشروهن قبل الفراغ من الاعتكاف فى المساجد الذى ألزمتم أنفسكم، سواء المباشرة فى المساجد وغير المساجد، ليلا أو نهالاً، فى صوم أو إفطار عند مجيز الاعتكاف بلا صوم، والاعتكاف لغة لزوم المكان، وشرعاً لزوم المساجد للعبادة، وفى الآية دليل على أن الاعتكاف مشروع فى المساجد كلها، ولا يشرع فى غيرها، وإن الوطء قبل الفراغ منه حرام، وفيه إبطال العمل، وأنه مفسد الاعتكاف، لأن النهى فى العبادات يوجب الفساد إلى ما قام الدليل على عدم فساده، والاعتكاف فى المسجد الحرام أفضل، ثم المسجد النبوى، ثم بيت المقدس، ثم المسجد الجامع، ثم الذى له مؤذن وإمام، ثم سائر المساجد وهذا مذهبنا ومذهب الشافعى والجمهور لعموم المساجد فى الآية، وكذا قال مالك وأحمد وهو الصحيح، وقال أبو حنيفة: لا يجوز فى مسجد لا إمام ولا مؤذن له، وقال الزهرى: لا يصح إلا فى الجامع، وهو رواية عن مالك، وقال حذيفة: لا يجوز إلا فى المسجد الحرام والمسجد النبوى. ومسجد بيت المقدس، وهن مساجد الأنبياء. وقال عطاء: لا يجوز إلا فى المسجد الحرام والمسجد النبوى، وعن على: لا يجوز إلا فى المسجد الحرام، وإن قلت قال الله: { فى المساجد } بالجمع. قلت: من خصه بالثلاثة فلعظمهن أو بكل جامع، فلئلا يحتاج إلى الخروج لصلاة الجمعة، ومن خصه بكل مسجد له إمام ومؤذن فلأنه المسجد التام بالأذان والجماعة، ولو كان فوقه أتم كالجامع فيخرج إليه للجمعة، ومن خصه بالمسجدين فلأنهما أعظم المساجد الإسلامية، وأقل الجمع اثنان حقيقة عند بعض، ومن خصه بالمسجد الحرام فلأنه أعظم المساجد مع أن المراد عنده بالمساجد مواضع السجود. والمسجد الحرام مشتمل على مواضع سجود كثيرة، وقرأ مجاهد المسجد بالإفراد والمراد الجنس، ويحتمل المسجد الحرام والله أعلم.
ولا يجوز الاعتكاف عندنا إلا بصوم، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعى يجوز بلا صوم، والأفضل الصوم، واحتج بما رواه البخارى ومسلم عن عمر أنهُ قال: يا رسول الله إنى نذرت فى الجاهلية أن أعتكف فى المسجد الحرام. قال: فأوف بنذرك. ومعلوم أنهُ لا صوم بالليل، وكذا قال قليل من أصحابنا يجوز بلا صوم، وقيل يجوز فى غير المسجد، وجاز للمرأة مع زوج أو محرم واعتكافها فى بيتها أفضل، وأقل الاعتكاف عشرة أيام ولا حد لأكثره، وروى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها، أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه بعده ورويا عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وقيل أقله ثلاثة أيام، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعى أقله يوم يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس، وقيل أقلهُ لحظة.
{ تِلْك }: الأحكام المذكورة فى الصوم والاعتكاف.
{ حدُوَدُ اللّهِ }: حدها لعبيده ليقفوا عندها ولا يرتكبوا ما يخالفها، وقيل: حدوده فرائضه، وقيل: مقاديره التى قضاها فى الأزل، ولما صدق واحد، وأصل ذلك كله من الحد بمعنى المنع والفصل بين الشيئين، فإن قضاء الله فى الأحكام وغيرها لا يتخلف، ويقال للبواب الحداد، لأنه مانع، وحدت المرأة امتنعت من الزينة، ومن لم يقف عند حدوده بطل عمله وهلك فى الأمر الواجب، فمن جامع معتكفاً بطل اعتكافه وهلك، وقيل لا يهلك، وفى لزوم الكفارة والبدل قولان، وكفارته على التخيير كرمضان، وقيل على الترتيب كالظهار، وقال الحسن البصرى: إذا غشى اعتكف، فإن لم يجد أهدى بدنه فإن لم يجد أطعم عشرين صاعاً، وإن وطئ نسيانا أعاد اعتكاف يوم وصومه إن صام، ولا يفسد بالتقبيل عندنا، ومقدمات الجماع إلا إن أنزل بها ولو عمداً، وتكره لئلا تؤدى إلى الجماع أو إنزال، وبه قال أكثر علماء الأمة والشافعى وأبو حنيفة فى أصح قوليه، وقال مالك: يبطل بالتقبيل، وزعم بعض عن الشافعى فى أصح قوله وأكثر الأمة من العلماء أنه لا يبطل إن أنزل بلا جماع، ولا خلاف فى جواز المس بلا شهوة، ولما رواه البخارى ومسلم أن عائشة كانت ترجل رأسه - صلى الله عليه وسلم - وهى حائض وهو معتكف فى المسجد، وهو فى حجرتها يناولها رأسه، رواية كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، أى لقضاء البول والغائط وللحوائج التى يضطر إليها الإنسان، فما لا يفعل فى المسجد والترجيل تسريح الشعر.
{ فَلاَ تَقْربُوها }: لا تقربوا الحد الحاجز بين الحق والباطل، فضلا عن أن تقفوا فيه، أو تجاوزوه، شبه الحق بموضع والباطل بآخر بينهما موضع غيرهما فاصل بينهما، فهذا أشد توكيداً من قوله: فلا تعتدوها. روى البخارى ومسلم:
"لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" . وهو حديث طويل مجمع عليه، وذلك من وسطه. رواه أبو عبد الله النعمان بن بشير.
{ كَذلِكَ يُبَيِّن اللّهُ آياتِهِ للنَّاسِ }: أى يبين الله [آياته] الدالة على الشريعة والأحكام، كما بين خصوص أحكام الصوم والاعتكاف.
{ لَعلَّهم }: ترجية لهم أو تعليل.
{ يَتَّقُون }: يحذرون مخالفتها أو يحذرون عقاب الله فى مخالفتها، ويطيعون الله فى أدائها.