التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ
١٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أَوْ كَصَيِّبٍ }: عطف على قوله: { كمثل الذى استوقد ناراً } بتقدير مضافين، أى كمثل أصحاب صيب كما ذكر فى المعطوف عليه المثل، وصاحب الاستيقاد، ويدل لتقدير أصحاب أيضاً رجوع الضمير إليه فى قوله { يَجْعَلُونَ } وأن الممثل به أصحاب الصيب لا الصيب نفسه، أو لأحد الشيئين أو الأشياء، وإن شئت فقل لتلعيق الحكم بأحد الشيئين فصاعدا بقطع النظر عن التخيير والإباحة والشك والتشكيك والإبهام والتقسيم والإضراب، فإن المقيدة لأحد المعانى المذكورة بخصوصه هو التركيب بواسطتها لا هى نفسها، فإنها لا تفيد بذاتها إلا تحصيل الحكم لأحد شيئين أو أشياء، وإذا أضيف إليها أفادت أحد تلك المعانى فمجاز مثل أن يقال أو تقيد الشك أو التخيير أو الإباحة أو نحو ذلك وأما أن يقال أو للشك أو للتخير أو نحو ذلك بمعنى أنها تستعمل حيث أريد ذلك، أو أنها معونة فيه فليس بمجاز، ويعلم من قولى بقطع النظر.. إلخ أن أو حقيقة فى المعنى الموجود فى تلك المعانى جميعاً وهو مطلق حصول الحكم لأحد الشيئين أو الأشياء، مجاز فى تعيين ذلك الحصول على طريق التخيير أو طريق الإباحة أو نحوهما، وهذا أقعد من قول الزمخشرى والقاضى: إن أو فى الأصل للتساوى فى الشك، ثم اتسع فيها فأطلقت للتساوى من غير شك، مثل: جالس الحسن وابن سيرين، فإنها تفيد التساوى فى حسن مجالسة الحسن وابن سيرين من غير شك، ومثل قوله عز وجل: { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } فإنها تفيد التساوى فى وجوب عصيانه الآثم والكفور، لكن قولهما وفق باللغة، وإذا استعملت أو بمعنى الواو فمجاز لا غير، وأو فى قوله عز وعلا: { أَوْ كَصَيْبٍ } تحتمل أن تكون بمعنى الواو وأن تكون مستعملة فى تحصيل الحكم لأحد الشيئين، والحكم هو التشبيه، وذلك التحصيل على طريق التخير بمعنى أنه يصح تشبيه المنافقين بالذى استوقد ناراً، أو يصح بأصحاب الصيب كلاهما سواء فى الجواز فأنت مخير فى تشبيههم بالمستوقد أو بأصحاب الصيب، والمشهور فى التخير عدم صحة الجمع، فإيضاح تخريج الآية أن يقال المعنى: إنك إذا أردت الاختصار وتشبيههم تشبيهاً واحداً فقط فشبههم بالمستوقد فقط، أو بأصحاب الصيب فقط، وإن شئت فقل التحصيل فى الآية على طريق الإباحة، أى شبههم بهما أو بأحدهما، ولست أريد أنهما سواء فى التشبيه من كل وجه، بل سواء فى أصل الجواز كما صرحت به، إذا قلت سواء فى أصل الجواز، وإلا فتشبيههم بأصحاب الصيب أبلغ لأنه أدل على شدة الحيرة والأمر وفظاعته، ولذلك أخر فى الآية على سبيل الترقى من الأهون إلى الأغلظ.
وتعلم من كلامى أنه لا يشترط التصريح بالطلب فى التخير والإباحة أو تقديره، بل تكفى عنايته وهو ظاهر كلام ابن مالك، فإن معنى الآية شبه المنافقين بالمستوقد أو بأصحاب الصيب فإن الطلب لم يصرح به فيها، ولم يكن محذوفاً مقدراً واشترط كثير أن يكون مصرحاً به أو محذوفاً مقدراً، والصيب المطر سواء فسرنا السماء بالسحاب أو بسماء الدنيا، ويجوز تفسير الصيب بالسحاب على أن السماء سماء الدنيا، وسمى المطر والسحاب صيباً من الصوب بمعنى النزول، لأنهما ينزلان إلى الأرض، ونزول السحاب إليها نزول مائه، وقد قيل أيضاً إنهما ينزلان من السماء، وأيضاً قد يدنو السحاب من الأرض بعد ما كان أبعد، ومن استعمال الصيب وصفاً للسحاب قول الشماخى:

محا آيه نسج الجنوب مع الصبا وأسحم دان صادق الوعد صيب

وآيه جمع آية ونسج والهاء للمنزل الجنوب مع الصبا تخالفهما كتخالف الطعم والغزل لتقابلهما، فيدخل كل فى الآخر، فالجنوب ريح من ناحية سهيل عن يمين مستقبل المشرق، والصبا ريح من المشرق، والأسحم السحاب الأسود والدانى القريب من الأرض، سمى كونه بحال يطمع فى أمطاره مطراً نافعاً وعدا تنزيلا لحالة منزلة النطق بوعد الأمطار، فوصفه بصدق الوعد، والصيّب الكثير الأمطار وتلك الصفات أولى بالسحاب، فحمل الصيب عليه أولا، وإن كان يجوز حمله على المطر باطلاق أوصاف السحاب على المطر مجازاً لتقاربهما غالباً، والأكثر فى الآية على المراد المطر وهو تفسير مجاهد، وكان صلى الله عليه وسلم إذا استسقى قال: "اللهم صيباً هنيئاً" وأصله صيوب بفتح الصاد وإسكان الياء الزائدة وكسر الواو، اجتمعت الواو والياء وسكنت السابقة منهما فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فوزنه فيعل بذلك الضبط، ويجوز أن يكون أصله صويبا بوزن كريم، قدمت الياء على الواو فكان الاجتماع المذكور فالإدغام المذكور، وسكون الياء قبل التقديم ميت لكونها بعد كسرة، وبعده حى لكونها بعد فتحة، فوزنه على هذا قبل التقديم فيعل ككريم، وبعده بحسب اللفظ فيعل وفيه فى سيد من الأوجه، وقد ذكرتها فى شرح عصام الدين، ونكر الصيب تعظيماً لأن المراد نوع من المطر أو من السحاب شديد، كما نكر النار فى قوله: { كمثل الذى استوقد ناراً } وقرى أو كصائب والصيب أبلغ.
{ مِنَ السَّمَآءِ }: من السحاب أو من سماء الدنيا أحد السماوات السبع، وكلما علاك وأظلك يسمى سماء كسحاب وسقف وثوب منشور فوقك، وإذا قلنا السماء سماء الدنيا، فأل للعهد الحضورى أو الذهنى أو الذكرى، فإنه قد عهد فى الذهن من ذكر صيب ومن ذكر غيره فى غير هذه الآية، وتقرر أن الماء من السماء على المتبادر من سائر الآيات، وكذا السحاب ويؤيد هذا التبادر قوله عز وجل:
{ وينزل من السماء من جبال فيها من برد } إلا إن أراد ينزل من جهة السماء، وفى ظاهر ذلك رد على الحكماء الزاعمين أن المطر ينعقد من أبخرة الأرض، وعلى من قال ينعقد من البحر فذكر السماء مع أن المطر لا يكون إلا منها للرد عليهم، ويجوز أن تعتبر كل قطعة من السماء سماء فيكون كلما تحت تلك القطعة من أفق يسمى سماء، فتكون أل للاستغراق فيفيد أن الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء، ولا شك أن المطبق المظلم المريد المبرق كذلك أعظم تخويفاً من الغمام الذى هو دون ذلك، فهذه مبالغة عظيمة مع المبالغة لتنكير الصيب ويجمع الصاد المستعلية وتشديد ما بعدها مع الباء الموحدة التى صفتها الشدة، وبها قيل إن الصوب فرط الانسكاب والوقوع، وبأن صيب فعيل وهو صفة مشبه دالة على الثبوت سواء قلنا أصله فعيل ككريم، أو غير منقول عن فعيل أو بأنه صفة مبالغة محولة عن صائب وأصله صويب كنصير، وإذا قلنا السماء السحاب فأل للحقيقة، وإن قلنا السماء السحاب وسماء الدنيا لنزول الماء منها جميعاً وعلوها كما جمعاً بين الحقيقة والمجاز بلفظ واحد إن قيل السماء حقيقة فى أحد السماوات مجاز فى السحاب، وكان جمعاً بين معنيى كلمة واحدة قيل حقيقة فيهما وفى كلما علاك.
{ فِيهِ }: أى فى الصيب بمعنى السحاب أو بمعنى المطر أو فى السماء بمعنى السحاب.
{ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }: بيان حصول الظلمة والرعد والبرق فى الصيب بمعنى السحاب، أو فى السماء بمعنى السحاب أن فيه ظلمة سواده، وظلمة تكاثفه وظلمة تطبيقه، وظلمة الليل الحاصلة فيه وتحته، وأن فيه الرعد والبرق وإنما يصلنا البرق من داخلة، وقيل ظلمات السحاب ظلمات تكاثفه وفقط، وبيان حصول ذلك فى الصيب بمعنى المطر إن فيه ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، وظلمة غمامه، وظلمة الليل الحاصلة فيه، وأن الرعد والبرق فى أعلاه، وحيث يصوب ملتمسين به فكأنهما فيه، فلفظة فى جاءت استعارة تبعية للملابسة المخصوصة الشبيهة بملابسة الظرفية، الحقيقة تقول زيد فى البلد وما هو إلا فى موضع واحد يشغله جسمه، وما يلتحق به من ثياب التى لبسها ونحوها تشبيهاً لكونه فى بعض البلد، يكون مظروف عم جميع الظرف، ولكن يلزم على ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز بكلمة واحدة، فإن حصول الظلمات فى المطر حقيقة، اللهم إلا أن يقال إن ذلك من عموم المجاز، واختلف فى الجمع بينهما على جوازه مرجوحة، وخلاف الأصل، ويتخرج أيضاً من الجمع بينهما بتقدير فيه هكذا، فيه ظلمات وفيه رعد وبرق، وبيان التجوز المذكور كله، أن الرعد والبرق فى الجزء المتصل بحيث ينحدر المطر لا فى كله ولا هما تابعان له حيث ما تصوب، وإن قلنا المراد بالظلمات ظلمات السحاب، أضيفت إلى المطر، كان الكلام مجازاً أيضاً فى جهة الظلمات، ولذلك أن تقول المجاز مرسل لعلاقة المحاورة بأن تعتبر ظلمات السحاب، فإنهن والرعد والبرق مجاورات للمطر لا فيه، إذ لم نعتبر حصول الرعد والبرق فى المطر حيث ينحدر ويصوب، وفيه خبر، وظلمات مبتدأ، والجملة نعت لصيب أو حال من السماء أو من صيب لنعته بقوله: { مِنَ السَّمَآءِ } أو لتعلقه به أو نعت للسماء إذا جعلنا فيه للحقيقة، فإنه يجوز نعته حينئذ والحالية له، ويجوز كون النعت أو الحال فى ذلك كله هو قوله: { فِيهِ } فيكون ظلمات فاعل له مرفوعاً به، لاعتماده على منعوت أو ذى حال، وقرئ بإسكان لام ظلمات كما مر، وللتعظيم والتهويل نكر الظلمة وجمعها، ونكر الرعد والبرق، وللتنويع كأنه قيل نوع عظيم من الظلمات والرعد والبرق، فهن ظلمات داجنة ورعد قاصف وبرق خاطف، ولم يجمع رعد وبرق لأنهما فى الأصل مصدران، والمصدر يصلح للقليل والكثير، فالجمع المقصود فيهما يفيده لفظهما بلا تغيير له إلى صيغة الجمع، واعتبر أصلهما فى جواز استعمالهما فى معنى الجمع أو لأنهما باقيان على المصدرية، كأنه قيل وإرعاد وإبراق بكسر الهمزتين مصدرى أرعد وأبرق، ويقال أيضاً رعدت السماء رعداً، وبرقت برقاً، والرعد صوت يسمع من السحاب كما قال الجوهرى، وسببه فيما ألهمنى ربى سبحانه وتعالى ضرب الملك الماء بعضه ببعض، والمشهور أن سببه اضطراب اجرام السحاب واصطكاكها إذ ساقتها الريح، فاضطرابها واصطكاكها بالريح، ويطلق الرعد على الملك والمشهور الأول وهو أنسب بالآية، وهو مشترك بين الملك والصوت.
ففى بعض الأحاديث أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه إلى حيث يشاء الله، وصوته ما يسمع، وفى بعض الأحاديث أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعى بغنمه، وفى بعضها أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادى الإبل بحدائه، وفى بعضها أنه ملك يسمى به وهو الذى يستمعون صوته، فعن ابن عباس وشهر بن حوشب ومجاهد وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفته سحابة صاح بها، فاشتد غضبه فطارت النار من فيه هى الصواعق، وأكثر العلماء أن الرعد ملك، وذلك الصوت تسبيحه وزجر للسحاب، وقال على بن أبى طالب: الرعد اسم الصوت المسموع وهو مأخوذ من الرعدة، سواء بمعنى الصوت أو الملك، فإن ذلك الصوت مرتعد والملك مرتعد من صوته، وأيضاً ذلك الصوت على القول بأنه من الماء، سببه ارتعاد الماء واضطرابه، والبرق هو النور الذى يلمع من السحاب مأخوذ من قولك برق الشىء بريقاً أى لمع، قيل هو لمعان الصوت الذى يزجر به السحاب، وقال على بن أبى طالب عن النبى صلى الله عليه وسلم: المخراق حديد بيد الملك يسوق به السحاب، وقال ابن عباس: هو سوط نور بيد الملك يزجر به السحاب، وعنه أن البرق ملك يتراءى.
{ يَجْعَلُونَ }: هذا وما بعده إلى قوله: { قاموا } عائد إلى تهويل الصيب وظلماته ورعده وبرقه، فالجملة نعت أو حال لصيب أو لرعد وبرق، وهو أولى لعدم الفصل بالعطف والرابط محذوف، أى الصواعق منه أو منهما أو الرابط أل أى صواعقه أو صواعقهما هذا ما أقول. وقال غيرى الجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف حالهم مع تلك الشدة والهول الحاصلين من الظلمات والرعد والبرق والصيب؟ فقيل: يجعلون أى يجعل أصحاب الصيب، فحذف المضاف للصيب وروى هنا كقوله:

يسقون من ورد البريص عليهم بردى يصفق بالرحيق السلسل

فمن، بفتح الميم، مفعول يسقون، والبريص مفعول ورد، ومعنى ورد بلغ ووصل، والبريص نهر تشعب من بردى، وبردى نهر كبير بدمشق وألفه للتأنيث، وهو فعلى من البرودة، مفعول ثان يسقون على حذف مضاف، أى ماء بردى، وقد روعى هذا المضاف فى قوله: يصفق بالتذكير أى يصفى ماؤها، ولو روعى المضاف إليه وهو بردى لقيل تصفق، والباء بمعنى مع.
{ أَصَابِعَهُمْ }: أى أناملهم وهى رءوس الأصابع، فأطلق اسم الكل على البعض للمبالغة فى سدهم آذانهم حتى لا يسمعوا شيئاً من الصوت، فهو مجاز مرسل علاقته الكلية أو البعضية، أو هما، إذ سمى البعض باسم الكل، فالأصابع كلمة مستعملة فى غير ما وضعت له، ويجوز أن يقدر مضاف أى أنامل أصابعهم أو رءوس أصابعهم، فيكون مجاز الحذف، وعليه فالأصابع كلمة مستعملة فيما وضعت له، وفى حذفت المضاف أيضاً مبالغة إذا يبقى ظاهر اللفظ كأنهم يجعلون أصابعهم كلها لا أناملها فقط، وذلك على سبيل التوزيع، أى يجعل كل واحد أصبعاً فى أذنيه، فلكل واحد أذنان يجعل فى كل واحدة أصبعاً من أصابعه، كقولك لبس القوم نعالهم، والمراد بالأصابع السبابات إذ هى المعهودة فى سد الآذان، ولم تذكر لأن اسمها من السب فتركت لآداب القرآن ولم يسمها بالمسبحة والسباحة والمهللة والدعاء لأنهم لا يعرفونها بهذه الأسماء، لأنهن مستحدثات، أو أطلق ولم يعين بالاسم، لأنهم قد يسدون آذانهم بغيرها كالصغيرة لرقتها، فيدخل منها ما لا يدخل من غيرها، والتى تليها لغلظ أعلاها فتعم السد، وكالوسطى لغلظ أعلاها وطولها وقوتها، وكالإبهام لأنها أمكن فى العمل وأقوى وأغلظ وأوسع، ويشير إلى أنهم لشدة هولهم لا يتخيرون أصبعاً بل ما تيسر من الأصابع.
{ فِى ءَآذانِهِم }: جمع أذن.
{ مِنَ الصَّوَاعِقِ }: من للتعليل متعلقة بيجعلون نحو سقاه من العيمة بفتح العين أى سقاه لأجل شدة اشتهائه اللبن، وإنما جمعت الصاعقة على صواعق لأنها ليست صفة في الحال، وإن أبقيناها على الوصفية فصفة غير عاقل، تجمع على فواعل قياساً، والصاعقة قصفة رعد هائل معها نار لا تمر بشىء إلا أهلكته، وتؤثر فى الجبل، وهى لطيفة سريعة الخمود سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف وطفئت، وقد تكون بلا رعد. والقصف الكسر، والمراد بقصف الرعد صوته أو شدة صوته. وقال التفتازانى: شدة صوته، والتعريف المذكور ذكره الزمخشرى والقاضى وهو مجاز. والحقيقة ما قال الجوهرى: الصاعقة نار تسقط من السماء فى رعد شديد، وذكر بعض أن الصاعقة ثلاثة الموت كقوله تعالى:
{ فصعق من فى السماوات } والعذاب كقوله تعالى: { أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } والنار كقوله تعالى: { ويرسل الصواعق } }. قال الطيبى: هذه الأشياء متولدة من الصاعقة، فإنها الصوت الشديد من الجو، ثم يكون منه نار أو عذاب أو مزن، وهو مبنى على أنها الصوت، وقد مر أنه مجاز، ومثله قول بعض: الصاعقة الصيحة التى يموت كل من سمعها أو يغشى عليه، وقيل قطعة من العذاب ينزلها الله على من يشاء.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال:
"اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك" رواه الترمذى، وقال: حديث غريب، ولفظ الصاعقة مأخوذ من الصعق وهو شدة الصوت، وقد يطلق لفظ الصاعقة على كل هائل مسموع أو مشاهد، ويقال صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدة الصوت، ولفظ الصاعقة فى الأصل اسم فاعل، أى قصفة صاعقة، أو صيحة صاعقة، أى مهلكة، وتغلبت عليه الاسمية، والتاء للنقل، أعنى أنها مستصحبة من حيث كان اسم فاعل لا محدثة للتأنيث، ويجوز أن يكون فى الأصل، قبل تغلب الاسمية نعتاً للرعد، أى رعد صاعق، أى قاصف، وعلى هذا الوجه فالتاء محدثة للمبالغة، أى كثير الصعق، كما يقال زيد راوية، أى كثير الرواية، ويجوز أن يكون مصدراً بوزن اسم فاعل كعافية، وكما يستعمل لفظ كاذبة كقوله تعالى: { ليس لوقعتها كاذبة } أى كذب، وكاشفة كقوله: { ليس لها من دون الله كاشفة } أى كشف، ولاغية كقوله تعالى: { لا تسمع فيها لاغية } أى لغو، وخائنة كقوله تعالى: { لا تزال تطلع على خائنة } أى خائنة. والعاقبة كقوله تبارك وتعالى: { والعاقبة للمتقين } أى العقبى على أحد أوجه فى الآيات، وقرأ الحسن (من الصواقع) بتقديم القاف على العين، يقال صقعته الصاعقة وصقعه وصعقه بمعنى واحد، فليس أحدهما مقلوباً من الآخر، وفرعاً عليه، لأن كلا مستقل يتصرف، يقال صقع يصقع فهو صاقع صقعاً، وهن صواقع، يقال: صقعه على رأسه، وصقع الديك، وخطيب مصقع، أى مجهر بخطبته، فهما كجبذ وجذب فلو كان مقلوباً لم يتجاوز عن صورة واحدة، وقال الرغب، اللفظان متقاربان وهما الهدة الكبيرة، إلا أن الصقع يقال فى الأجسام الأرضية، والصعق فى الأجسام العلوية. انتهى، أى غالباً. أو معنى قوله يقال بعت وبدليل الآية فى القراءة الثانية وبدليل صعق عمر، وبمعنى هلك أو سكر وصعق بزلزلة الأرض.
{ حَذَرَ الْمَوتِ }: مفعول لأجله منصوب مضاف لمعرفة، والكثير فى مثله الجر بحرف التعليل قيل وهو نادر، واختلف فى قياسه كما بسطته فى النحو ورويت فى قراءتى فى شرح الشريف بن يعلى الحسنى الفاسى على الأجرومية شاهدا على ذلك قول حاتم الطائى:

* وأغفر عوراء الكريم ادخاره *

أى أغفر فعلته أو كلمته أو خصلته السيئة لادخاره وتمامه.

* وأعرض عن شتم اللئيم تكرما*

والشاهد فى الأول، وأما تكرماً فمفعول لأجله نكرة، ولذلك شواهد أخر، وقرأ ابن أبى ليلى: حذار الموت، بكسر الحاء، وبالألف بعد الذال، وفيه مبالغة أو هو مصدر حاذر، وفى الإتيان به أيضاً مبالغة، لأن المفاعلة صيغة مجالدة ومعاندة، وإن قلت كيف صح تعليلان لشىء واحد بلا بدلية ولا عطف ولا بيان ولا تأكيد لفظى، فإن من التعليلية وحذر تعليلا ليجعل؟ قلت: التعليل بحذر منظور فيه إلى يجعلون مع قوله: { مِنَ الصَّوَاعِقِ } لا لمجرد قوله: { يَجْعَلُونَ } كأنه قال سبب جعلهم أصابعهم فى آذانهم الحاصل لأجل الصواعق هو حذر الموت، أو من بمعنى عن أو فى أو عند، أى فى حال الصواعق أو عند الصواعق، أو حذر حال مبالغة أو حال بتقدير مضاف، أى ذوى حذر الموت أو بالتأويل بحاذرين أى حاذرين الموت، بنصب الموت أو حاذرين الموت بجره، او مفعول مطلق ليجعلون.. إلخ، لأن الجعل محاذرة للموت أو المحذوف أى يحذرون الموت حذراً، فحذف يحذرون وأضيف حذر الموت كسبحان الله، أى يحذرون سماع الصواعق حذر الموت، كضربته ضرب الكافر، ثم رأيت الوجه الأول قد ذكره ابن هشام، إذ قال: وزعم عصرى فى تفسير له على سورة البقرة وآل عمران فى قوله تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوتِ } أن من متعلقة بحذر أو بالموت، وفيهما تقديم معمول المصدر، وفى الثانى أيضاً تقديم معمول المضاف إليه على المضاف، وحامله على ذلك أنه لو علقه بيجعلون وهو فى موضع المفعول له لزم تعدد المفعول له من غير عطف، إذ كان حذر الموت مفعولا له، وقد أجيب بأن الأول تعليل للجعل مطلقاً والثانى تعليل له مقيد بالأول، والمطلق والمقيد متغايران، فالمعلل متعدد فى المعنى وإن اتحد فى اللفظ... انتهى.
والعصرى بإسكان الصاد نسبة إلى العصر، والمراد به ابن عقيل، وهما فى عصر واحد وبيان تعدد المعلل أن { يَجْعَلُونَ } معلل بقوله من الصواعق، وأن { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ مِّنَ الصَّوَاعِق } معلل بقوله: { حَذَرَ المَوْتِ } والموت زوال الحياة عما كانت فيه، وإن شئت فأسقط قولك عما كانت فيه، لأن لفظ الزوال يعنى عنه لأن أصل الزوال العدم بعد الوجود، وذكر صاحب شرح المواقف أن الموت عدم الحياة عما اتصف بها الفعل، وإنما ذكر قولك عما اتصف بها بالفعل لأنه عبر بالعدم، والعدم كما شاع استعماله فى العدم بعد الوجود شاع فى العدم بدون وجود، فيكون بمعنى نفى الوجود، واعتبر صاحب المطالع: الزوال بمعنى العدم، فذكر ما نصه: الموت زوال الحياة عما من شأنه الحياة، فزاد عما من شأنه الحياة ليخرج ما عدمت فيه الحياة، ولم تكن فيه بل ذلك كالحجر، ولو أبقى الزوال على ظاهره لم يحتج لهذه الزيادة، مع أن عبارته توهم تسمية الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتاً، وعلى هذه الحدود التقابل بين الموت والحياة تقابل العدم والملكة، وقال بعض: الموت عرض يضاد الحياة لقوله تعالى:
{ خلق الموت والحياة } فجعل الموت مخلوقاً والعدم لا يخلق، ورد قول هذا البعض بأن الخلق بمعنى التقدير والإعدام مقدرة، وإن قلنا الخلق بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة، وعلى قول ذلك البعض التقابل بين الموت والحياة تقابل التضاد، وفى معناه عبارة بعضهم الموت عرض لا يصح معه إحساس معاقب للحياة، والصحيح ما ذكرته أولا، وهو المشهور عن أهل اللغة، ويوافقه أن نقول: الموت مفارقة الروح الجسد، وعلى جميع الأقوال هو عرض، وأما ما ورد فى الأحاديث من أنه جسم حيث قيل إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤول بأنه لم يقصد بالموت حقيقة، بل أراد أنه تصور بصورة كبش، كما ورد فى البخارى ومسلم: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار..." الحديث، ومن لازم الموت على كل قول فساد بنية الحيوان، فتفسير الزمخشرى له بفساد بنية الحيوان تفسير باللازم، وإن قلت ما معنى تقابل العدم والملكة؟ قلت معناه تقابل انتفاء الشىء وصلاحيته للثبوت، فالملكة الإمكان والصلوح، وأقسام التقبل فيما يظهر لى أربعة، لأن المتقابلين إما وجوديان أو وجودى وعدمى، فإن كانا وجوديين لا يتصور أحدهما إلا بالآخر كالبنوة مع الأبوة، والأخوة بين الاثنين فمتضايفان، وتقابلهما تقابل التضايف، وإن تصور أحدهما مستقل ولو لم يكن الآخر فمتضادان، وتقابلهما تقابل التضاد، كالسواد والبياض، والموت والحياة، إذا فسرنا الموت بالعرض الذى لا يجامع الحياة، فإن حاصله موجود فى نحو الحجر، وليس حاصل الآخر وهو الحياة موجوداً فيه، وإن كان أحدهما عدمياً والآخر وجوديا فإن اعتبر فى العدمى كون الموضوع قابلا للوجود بحسب شخصه كعدم اللحية عن الأمرد، أو نوعه كعدمها عن المرأة، أو جنسه القريب كعدمها عن الفرس، أو جنسه البعيد كعدمها عن الشجر فهما متقابلان، وتقابلهما تقابل العدم والملكة، ومنه عدم الحياة عمن كانت فيه المسمى بالموت وعدمها من الجنين عند صاحب المطالع، وإن لم يعتبر ذلك فمتقابلان تقابل الإنجاب والسلب، كالسواد وأن لا سواد، والحياة وأن لا حياة، وقيل معنى: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعِهُمْ.. إلخ } أنهم كرهوا الجهاد إذ لا رغبة لهم فى الشهادة.
{ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ }: أى وعقاب الله أو إهلاكه محيط بهم إذا جاء فى الدنيا والآخرة لا يجدون عنه خلاصاً، فحذف المضاف، ويجوز أن يكون ذلك استعارة تمثيلية، بأن يشبه إنفاذ وعده فيهم، وتعميمه إياهم، وعدم خلاصهم منه، بخدع أو حيلة، بإحاطة المحيط على المحاط به كله للانتقام، وعدم الخلاص بحيلة أو خدع، أو شبه شمول علمه بهم، وقدرته عليهم بإحاطة القوم المحصى المطلق على المطلق به وفعل الله وصفته أقوى، ومع ذلك يشبهان بفعل غيره وذلك للإفهام والتصوير للحس، ويجوز أن تكون الاستعارة مفردة فى قوله: { مُحِيطٌ } فتكون تبعية تصريحية، بأن يشبه مجرد إنفاذ وعيده أو شمول علمه بهم، أو شمول قدرته بالإحاطة بالشىء بقطع النظر عن توابع ذلك فلا تدخل فى التشبيه، فلا منافاة بين الاستعارتين التمثيلية والمفردة، كما قيل إلا أن يقال إنه أراد المنافاة فى جمعهما فى حال واحد، فإن جمعهما لا يصح، بل تحمل على هذه فقط أو هذه فقط، والجملة معترضة، لأن ما قبلها وما بعدها متصل معنى من قصة واحدة. قلنا ما قبلها فى تهويل أمر الصيب وما بعده كذلك، لإن الصواعق من ذلك الصيب والبرق الذى كاد يخطف أبصارهم منه أيضاً، والجملة بعدها مستأنفة ونكتة الاعتراض تعقيب ذكر حذرهم بذكر أنه لا يفيدهم خلاصاً، فالاعتراض كما يكون بين المتصلين صناعة ومعنى كالفعل والفاعل، والتابع والمتبوع يكون بين المتصلين معنى وإن جعلنا جملة يكاد البرق حالا أو نعتاً لصيب أو للسماء أو حالا من هاء فيه كان الاعتراض بين متصلين صناعة ومعنى.