التفاسير

< >
عرض

وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
١٩١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ واقْتلُوهُم حيْثُ ثَقِفْتُموهم }: حيث وجدتموهم فى حل أو حرام بدءوكم بالقتال أم لم يبدءوكم، وتقدم أنه قيل إن هذا ناسخ لقصر القتال على من بدأ. وعن ابن اسحاق وغيره: نزلت الآية هذه فى شأن عمرو الحضرمى وواقد، وذلك فى سرية عبد الله بن جحش، وأصل الثقف المهاروة فى علم شئ أو عمله، فهو متضمن لمعنى الغلبة. قال الشاعر:

فإما تقتلونى فاقتلونى ومن أثقف فليس له خلود

أى فان تغلبونى فاقتلونى، ومن أغلب فليس راجعاً إلى خلود، وليس له سبيل إلى خلود، ويجوز أن يريد فإن تجدونى فاقتلونى، ومن أجد فليس إلى خلود.
{ وأخُرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ }: أخرجوُهم من مواضع إخراجهم إياكم وهو مكة، وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم يوم الفتح بمن لم يسلم.
{ والفِتْنَةُ }: البلية التى تصيب الإنسان كالإخراج من الوطن وإنزاله عن رتبة كان فيها بلا موجب، وبهته ونحو ذلك مما يدوم به تعبهْ، وتتألم به النفس تألماً مستمراً.
{ أشدُّ مِنَ القَتْلِ }: لأنه دفعه يتطاول كذلك، وكم فتنة يتمنى الموت عندها. قال الشاعر:

لقتل بحد السيف أهون موقفا على النفس من قتل بحد فراق

وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن حوميز:

وما وجد مغلول بصنعاء موثق بساقيه من ماء الحديد كبول
قليل الموالى مسلم بجزيرة له بعد نومات العيون الليل
يقول له الحداد أنت معذب غداة غد أو مسلم فقتيل
بأكبر منى لوعة يوم راعنى فراق حبيب ما إليه سبيل

وقال الشاعر:

وما أم خشف طول يوم وليلة ببلقعة بيداء ظمياء صاديا
تهيم ولا تدرى إلى أين تبتغى مولهة حزنا تجوز الفيافيا
أضر بها حر الهجير فلم تجد لغلتها من بارد الماء شافيا
إذا بعدت عن خشفها انقطعت به فألفته ملهوف الجوانح طاويا
بأوجع منى يوم شدوا حمولهم ونادى منادى البين ألا تلاقيا

وقال البغدادى:

قالت وقد نالها للبين أوجعه والبين صعب على الأحباب موقعه
اجعل يديك على قلبى فقد ضعفت قواه عن حمل ما فيه وأضلعه
واعطف على المطايا ساعة فعسى من شت شمل الهوى بالبين يجمعه
كأننى يوم ولت حسرة وأسى غريق بحر يرى الشط ويمنعه

وقيل: الفتنة فتنة الدين وهى الشرك والكبائر فى إصرارى شركهم وكبائرهم أعظم من قتلكم إياهم فى الحرم والإحرام والشهر الحرام الذى استعظمتم. فشركهم وكبائرهم استحلت قتلهم فى ذلك الزمان وذلك الموضع وتلك الحال وقيل صدهم إياكم عن الحرم وشركهم أشد من قتلكم إياهم فيه كذلك، وقيل: الفتنة التى حملوكم عليها: وهى الرجوع إلى الشرك أشد من القتل لكم، لأن قتل المؤمن تعذيب مرة يفضى به إلى الجنة، والشرك الدائم العذاب، وأيضاً فقتلكم إياهم هين بالنسبة إلى ما أرادوه منكم من الرجوع إلى الشرك. ويجوز أن يكون المعنى شركهم أعظم مما عَيَّروكم به من قتلكم عمر بن الحضرمى. وقيل عن مجاهدِ: المعنى ارتداد المؤمن عن دينه وأشد عليه من أن يقتل محقاً.
{ ولا تُقَاتِلُوهُم عِندَ المسْجِدِ الحَرامِ }: أى لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إعظاماً له، ومن كان فى داخل الشىء صح أن يقال هو عنده، وقيل المعنى لا تقاتلوهم فى الحرم إعظاماً له، والحرم متصل بالمسجد الحرام، والمسجد الحرام أعظم الحرمة حرمة.
{ حَتَّى يُقاتِلُوكُم فِيهِ }: أى حتى يبدءوكم فيه بالقتال، هذا عند الجمهور وقتادة منسوخ بقوله:
{ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ونحوه. وقيل بقوله: { وقَاتلوهمْ حتَى لا تَكون فِتنةٌ } ونسب لقتادة، وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد: الآية محكمة ولا يجوز عنده قتال أحد عند المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل. والذى أقول به قول مجاهد لكنى أقول إن دخل مشرك الحرم أو المسجد الحرام، وأمر بالخروج فأبى قوتل ولو لم يقاتل، ويرجح قول مجاهد: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أحلت لى ساعة من النهار ولم تحل لأحد بعدى" ، ورجحه الفخر الرازى، وقال ابن العربى: روى الأئمة عن ابن عباس "أن النبى صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله تعالى إلى يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة وأنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلى، وإنما أحل لى ساعة من النهار" فقد ثبت النهى عن القتال قرآناً وسنة فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه، وأما الزانى والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه، إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها بنص الكتاب انتهى.
وقوله: { حَتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ } دليل على أن المراد بقوله { عند المسجد الحرام } فى المسجد الحرام، فإن الهاء عائدة إلى المسجد الحرام، ولا يصح عودها إلى عند لأنه لا يعود الضمير إليه، ويحتمل عود الهاء إلى الحرم المدلول عليه بقوله عند المسجد الحرام.
{ فَإنْ قَاتَلُوكُم }: بدءوا بالقتال فيه.
{ فاقْتلُوهُمْ }: فيه جزاءً لهم لا هتكاً لحرمة الحرم كما هتكوها، قرأ حمزة والكسائى: { ولا تَقتلوهم عندَ المسجدِ الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قاتلوكم } بإسكان القاف وضم التاء فى الأولين، والمعنى حتى يقتل بعضُهم البعض الآخر تقول قتلتنا بنو أسد، قال الشاعر:

فإن تقتلون نقتلكم

أى تقتلوا بعضنا فان المقتول لا يتكلم ولا يصدر منه تقتيل، وفتحهما بدون ألف فى الأخير.
{ كَذلكَ جَزاءُ الكَافِرينَ }: أى كذلك المذكور من القتال، والإخراج جزاء المشركين على شركهم وإخراجهم المؤمنين وقتلهم بعضاً من المؤمنين.