{ الشَّهرُ الحرامُ }: الذى أمرتم بقتالكم إياهم فيه.
{ بالشَّهرِ الحَرامِ }: الذى قاتلوكم فيه، ويقدر مضاف، أى قتال الشهر الحرام الذى أمرتم بقتالهم فيه، بقتال الشهر الحرام الذى قاتلوكم فيه، وإضافة القتال للشهر من إضافة الفعل إلى الزمان الذى وقع هو فيه، والباء للتعويض والبدلية، ويجوز تفسير الشهر المذكور أولا بالشهر الذى قاتلهم المشركون فيه، والثانى بالشهر الذى أمروا بقتال المشركين فيه استعظم المسلمون القتال فى الشهر الحرام، ولو قاتلهم المشركون فيه، فرد الله عليهم بأن الشهر بالشهر، كما أن من قاتل فى المسجد قوتل فيه، وهم فى ذلك هاتكون لحرمة الشهر، ظالمون وأنتم مجازوهم على ذلك محقون. حلال لكم حرمة الشهر بترخيص الله جل وعلا. روى أن المشركين قاتلوا المسلمين عام الحديبية فى ذى القعدة بالسهام والحجارة، واتفق خروجهم لعمرة القضاء من ذى القعدة من قابل، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته، فقيل لهم: قاتلوهم فيه ابتداءً كما قاتلوكم فيه ابتداء فى العام الماضى، وقيل: إن قاتلوكم فيه وهم ضعاف، فقاتلوهم وأبلغوا فيهم كما فعلوا بكم فى العام الماضى، وإن منعوكم فقاتلوهم، وعن ابن عباس: رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم وصدوهم عن العمرة فى العام السادس من الهجرة، ففعل بهم المسلمون ذلك عام سبع، ويحتمل أن يكون المعنى الشهر الحرام الذى غلبكم الله عز وجل فيه ودخلتم عليهم الحرم للعمرة والحج الذى صدوكم فيه عن العمرة أو بالعكس، وذلك مغالبة، لأن المشركين ردوهم عن العمرة وصالحوهم على أن يعتمروا من قابل، لكن المشركين مع المصالحة مغلوبون فى حينها وفى القابل، ومريدون للنقض لكن أعز الله الرحمن الرحيم الإسلام والمسلمين فلم يستطيعوا النقض، ويحتمل أن يكون المعنى على التسلية، أى منعوكم فى العام الماضى فدونكم فاعتمروا فى هذا فكأنكم لم تمنعوا كما فاته طعام فأعطى آخر فقيل له هذ بذاك.
{ والحُرُماتُ }: جمع حرمة وهى ما يجب تعظيمه ومنعه من النقائص.
{ قِصاصٌ }: مصدر بمعنى مفعول، أى والحرمات مقاصص بها بفتح الصاد الأولى، أى كل حرمة هتكت ينتقص من هاتكها بمثلها إن حلت، وإلا فيعوض كرجم الزانى وجلده وقطع السارق بعد الرد لما سرق، فلما هتكوا حرمة الشهر هتك مثل فعلهم فى ذلك الشهر فى قابل، هتكوا الحرمة بالصد عن العمرة، فدخل المسلمون عنوة من قابل، وأمروا بالقتال إن قوتلوا، ويجوز إبقاء القصاص على المصدرية فيقدر مضاف، أى: حرمكم الحرمات قصاص: أو شأنها قصاص، ويجوز أن يكون المراد بالحرمات: حرمات ما الكلام فيه خصوصاً وهنّ حرمة الشهر الحرام، وحرمة الحرم وحرمة الإحرام، فقاتلوهم فيهن كما قاتلوكم فيهن، أو إن قاتلوكم فعلى الوجه الأول يكون قوله: { الحرمات قصاص } حجة وبرهان وتقرير لقوله: { الشهر الحرام } وعلى الوجه الثانى وهو كون الحرمات ثلاثاً يكون توكيداً له،
وقيل المراد إن بدءوكم بالقتال فيه فاقتلوهم.
{ فَمن اعْتدَى عَليْكُم فاعْتدُوا عَليْهِ بمِثْلِ ما اعْتَدَى عَلَيْكُم } هذا تفريع على قوله: { الحرمات قصاص } أى فإذا ثبت لكم أن الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم بالقتل فى الشهر الحرام أو الحرم أو الإحرام فجازوه على اعتقاده، بأن تقاتلوه مجازاة وكفا لشره، وسمى المجازاة على الاعتداء لأنها لازمة اعتدائهم لما سببه له، ولتشابه الصورتين، وللمشاكلة وهكذا فى مثل ذلك، وخص المجازاة بالمثل وأكد هذا الخصوص بقوله:
{ واتَّقُوا اللّهَ }: بأن تفعلوا فى الأنتصار ما لا يجوز لكم، وأن تزيدوا على مثل ما اعتدوا عليكم. ذكروا عن مجاهد أن المشركين صدوا النبى - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فصالحهم على أن يرجع من العام المقبل فى ذلك الشهر، فيدخل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام، وكان ذلك فى ذى القعدة فأدخله الله من العام المقبل مكة وقضى له منهم وهو قوله: { الشهر الحرام بالشهر الحرام }، وقال الحسن: إن استحللتم منا القتال فى الشهر الحرام استحللناه منكم، فإن الحرمات قصاص، وكان ذلك قبل أن يؤمروا بقتالهم كافة، وكأنه قدر القول فى قوله: { الشهر الحرام } أى قولوا لهم الشهر الحرام بالشهر الحرام، قال الحسن: فمن اعتدى عليكم فاستحل منكم القتال فاعتدوا عليه، أى فاستحلوا منه، وذكر الكلبى أنه لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم مكة من العام المقبل بعد أن صالحهم على دخولها وإقامة ثلاثة أيام فيها خرجت قريش إليه كهيئة صف القتال، فخاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يفى لهم المشركون فقال الله جل وعلا: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم }، بمعنى إن قاتلوكم دون البيت، أى: عنه، فقاتلوهم، وقال السدى: إن اعتدوا عليكم فقاتلوكم فى ذلك العهد فقاتلوهم، وقيل: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا فى ذى القعدة ومعهم الهدى حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون فصالحهم نبى الله أن يرجع عامه ذلك حتى يرجع من العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال ولا يدخلها إلا بسلاح الراكب، ولا يخرج منها بأحد من أهل مكة فنحروا الهدى بالحديبية، وحلقوا وقصروا، فاقتص الله له منهم فأدخله مكة فى ذلك الشهر الذى ردوه فيه فى ذى القعدة، فقال: { الشهر الحرام بالشهر الحرام } الآية وروى أن قريشاً خلوا له مكة ثلاثة أيام وخرجوا منها إلى رءوس الجبال.
{ واعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ مَعَ المتَّقِينَ }: الحفظ والإرشاد إلى مصالحهم والنصر.