التفاسير

< >
عرض

وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
١٩٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وأنفِقُوا } من أموالكم.
{ فى سَبِيلِ اللّهِ }: الجهاد. لما أمرهم بالجهاد أمرهم بالإنفاق فى مصالحه لأنه إنما يتهيأ بالإنفاق، ويجوز أن يراد بسبيل الله: طاعة الله عموماً كالحج والعمرة وصلة الرحم والصدقة على الناس والعيال والجهاد، وتجهيز الغزاة. روى البخارى عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"من احتبس فرساً فى سبيل الله إيماناً واحتساباً لله وتصديقاً بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله فى ميزانه يوم القيامة" ، وروى الربيع بن حبيب، عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم. "الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فالذى هى له أجر فرجل ربطها فى سبيل الله فأطال لها فى مرج أو فى روضة فما أصابت فى طيلها ذلك من المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعة طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواؤها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منهُ لم يرد أن تشر منهُ كان لهُ ذلك حسنات فهى له أجر، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله فى رقابها ولا فى ظهورها فهى له ستر، ورجل ربطها فخراً ورياءً ونواء لأهل الإسلام، فهى على ذلك وزر" . وقال الربيع: أطال لها: أطال الحبل لها لتتمكن من الرعى، واستنت: مرحت تجرى، ولم ينس حق الله: لم يتركه، ولواءً لأهل الإسلام عداوة لهم، وروى خديم بن فاتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة فى سبيل الله كتب الله له سبعمائة ضعف" أخرجه الترمذى والنسائى، وروى أبو صالح عن ابن عباس موقوفاً أنه قال تمنع فى سبيل الله ولو بسهم، وذكر بعضهم أن الله تعالى أعطاهم رزقاً ومالا فكانوا يغرون ولا ينفقون أموالهم فى سبيل الله فأمرهم الله بالإنفاق فيه.
{ ولا تُلْقَوا بأيدِيكُم إلىَ التَهْلُكةِ }: الباء صلة لتأكيد النهى والأيدى مفعول تلقوا بمعنى الأنفس، والمعنى لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة، قال ابن هشام: تزاد الباء فى المفعول نحو ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. وقيل: ضمن تلقوا معنى تفضوا فليست زائدة، قال السهر لى وقيل: المراد لا تلقوا أنفسكم بأيديكم، فحذف المفعول به والباء للآلة كما فى كتب بالقلم. أو المراد بسبب أيديكم كما يقال لا تفسد أمرك برأيك، وقيل: المعنى لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم، وهذا أيضاً على زيادة الباء، ومن ملك أمره لشئ صح أن يقال: ألقى أمره إلى ذلك الشئ، والإلقاء الطرح، وعدى بإلى لتضمنه معنى الإنهاء، والتهلكة والهلاك والهلك بمعنى حكاه الفارسى فى حلبياته عن أبى عبيدة، وقيل: التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه. والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه، وأصل التهلكة والهلاك والهلك انتهاء الشئ إلى الفساد وهو مصدر كالتضرة بفتح التاء وضم الضاد وتشديد الراء بمعنى الضرورة، وأصله التضررة باسكان الضاد وضم الراء الأول، نقلت ضمتها إلى الضاد وأدغمت فى الراء بعدها، وكالتسرة بفتح التاء وضم السين وتشديد الراء بمعنى السرور، وأصله التسرورة بإسكان السين فنقل وأدغم، كذلك حكى النظرة والتسرة سيبويه، ويحتمل أن يكون الأصل التهلكة بكسر اللام أبدلت كسرته ضمة كما قيل فى الجوار بالكسر الجوار بالضم.
والنهى عن الإلقاء بالأيدى إلى التهلكة عام فى جميع الأبواب، ولو خص سبب النزول أو فسرها السلف فى خصوص فشمل ذلك ترك الجهاد فبذل المسلمون، وترك الإنفاق فيه فلا يتوصل إليه، وإنفاق المرء ماله كله فيحتاج وبخله فيهلك به دنيا وأخرى، ولذلك سمى البخل هلاكاً، وترك الكسب فإنه مخل بالمعاش، وحمل الرجل على عسكر من غير أن يترجح له فى ظنه أنه يقتل أحداً منهم أو اثنين فصاعداً، والوضوء والاغتسال بماء ضار لبرده أو حره أو مع مرض يضره الماء معه، والتطهر بماء وقد احتاج إليه لشربه أو طعامه، ولا غناء عنه أو احتاج إليه أحد أو دانته ونحو ذلك، وفى صحيح البخارى أن أبا أيوب الأنصارى كان على قسطنطينية فحمل رجل على عسكر العدو فقال قوم: ألقى هذا بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إن هذه الآية نزلت فى الأنصار حين أرادوا - لما ظهر الإسلام - أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم، وأما هذا فهو الذى قال الله تعالى فيه:
{ وَمِنَ النَّاس مَنْ يَشْرِى نَفْسَه ابتْغاءَ مرْضَات الله } وإنما قال أبو أيوب هذا لأنه رأى من الرجل إخلاصاً وشجاعة، وعلم منه أنه طمع فى نكاية العدو والتأثير فيهم، سواء يرجع أو يموت، وقال القوم ما قال عملا بظاهر الأمر كيف يصنع واحد فى عسكر، وروى أحمد والترمذى والحاكم، وصححاه عن أبى أيوب الأنصارى أنه قال: لما عزَّ الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها، فنزلت الآية، ولا شك أن ترك القتال يسلط العدو على إهلاك المسلمين، قال أبو عمران واسمه أسلم: كنا بمدينة الروم فأخرجوا لنا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى غيرهم فضالة بن عبيدة، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس سبحان الله يلقى بيده إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصارى فقال: أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، وآثرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسنا وأولادنا وأموالنا فقال: بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثَّرَ ناصريه، فلو قمنا فى أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: { وأنفِقوا فى سَبيلِ الله وَلاَ تُلْقوا بأيْديكم إلى التهلكة } وكانت التهلكة الإقامة على الأموال وصلاحها وترك الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً حتى دفن بأرض الروم.
وذكر بعض أن هذا حديث غريب صحيح، ومات أبو أيوب فى آخر غزوة غزاها بأرض قسطنطينية، ودفن فى أصل سورها، فهم يتبركون بقبره ويستسقون به، قال مسلم بسنده عن أبى هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
"من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من النفاق" قال ابن المبارك: فنرى أن ذلك كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" النهى عن ترك الإنفاق فى سبيل الله قال ابن عباس: أنفق فى سبيل الله وإن لم يكن لك إلا سهم أو مشقص، ولا يقل أحدكم لا أجد شيئاً، والسهم ما يرمى به، والمشقص سهم فيه نصل عريض فهو خاص، والسهم عام، وقيل: كان رجال يخرجون فى البعوث بغير نفقة فإما أن تنقطع بهم وإما أن يكونوا عالة، فأمرهم الله تعالى بالإنفاق على أنفسهم فى سبيل الله، ومن لم يكن عنده شئ ينفقه على نفسه فى الغزو فلا يخرج لئلا يلقى نفسه فى التهلكة وهوله يهلك من الجوع والعطش والمشى، وقيل: الإلقاء إلى التهلكة أن يذنب الرجل ذنباً فيستعظمه فييأس من رحمة الله، فيترك العبادات وينهمك فى المعاصى، روى عن البراء بن عازب أنه قال: كان الرجل يذنب فيلقى بيده فيقول لا يغفر الله لى فلا يجاهد ولا يعمل ولا ينفق فى سبيل الله، وقال مجاهد: لا يمنعكم خوف الفقر من النفقة فى سبيل الله، يقولون: إن أنفقنا نهلك جوعا، أى لا تقولوا ولا تعتقدوا أن الإنفاق فى سبيل الله يفضى إلى الهلاك بالجوع، وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه لكم، وذكر الشيخ هود والبخارى عن حذيفة رضى الله عنه: أن الآية فى النفقة، أى لا تزعموا أن الإنفاق يفضى إلى الهلاك، وقال الحسن البصرى: ترك الإنفاق فى سبيل الله إلقاء بأيديكم إلى التهلكة، والتهلكة ما يهلكهم عند الله، واختاره الشيخ هودرحمه الله ونسب بعضهم قول مجاهد السابق إلى ابن عباس وحذيفة وجمهور الناس، وكلام الشيخ هود والبخارى عن حذيفة يحتمله.
{ وأحْسِنُوا إنَّ اللّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ }: أحسنوا بالإنفاق والجهاد وأدوا الفرائض إن الله يثيب المحسنين على إحسانهم، أو أحسنوا بالإنفاق على من لزمتكم نفقته، أو أحسنوا فى الإنفاق لا تنفقوا أموالكم كلها، ولا تمسكوا عن الإنفاق أحسنوا أعمالكم وأخلاقكم، وَذكروا عن بعض الصحابة: أحسنوا فى أعمالكم بامتثال الطاعات.
وقال زيد بن أسلم: أحسنوا فى الإنفاق فى سبيل الله وفى الصدقات، وقال عكرمة: أحسنوا الظن بالله عز وجل، وتقدم حديث:
"أنا عند ظن عبدى" . وروى مسلم عن جابر بن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل وفاته بثلاثة أيام: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" وأخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم: "من حسن عبادة المرء حسن ظنه" . قال ابن عبد الحق فى العاقبة: أما حسن الظن بالله عز وجل عند الموت فواجب للحديث، والظاهر عندى أن الإحسان فى الآية على عمومه فى أنواعه وفى الفرض والنفل، قال أبو عمر بن عبد البر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة" قال أبو جزء الجهنى: " قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أوصنى. قال: لا تستحقون شيئا من المعروف أن تأتيه ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستسقى ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه" .
وقال صلى الله عليه وسلم: "أهل المعروف فى الدنيا أهل المعروف فى الآخرة" وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لله عباداً خلقهم الله لحوائج الناس هم الآمنون يوم القيامة" .