التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ
٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }: اسم الإشارة مبتدأ و{ الكِتَابُ } نعته أو بدله أو عطف بيان له، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } من لا واسمها وخبرها خبر المبتدأ، او اسم الإشارة مبتدأ خبره { الكتاب } وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } خبر ثان أو حال من الكتاب أو مستأنفة، أو اسم الإشارة مبتدأ خبره { هُدىً } و{ الكِتَابُ } (نعت أو بيان أو بدل، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معترضة أو { الكِتابِ } خبر و{ هُدىً } خبر ثان والجملة بينهما معترضة أو الكتاب خبر والجملة خبر ثان وهدى خبر ثالث، أو هدى حال من الهاء أو من الكتاب إذا جعلنا الكتاب خبراً وهدى خبر لمحذوف، أى هو هدى، أو هدى خبر لمحذوف { لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلمُتَقِينَ } فحذف فيه الثانى لدلالة الأول أو فيه خبر لهدى، وحذف خبر لا أى لا ريب فيه، فحذف فيه الأول لدلالة فيه الثانى كما قال بعد أوقف على لا ريب فيه، قال ابن هشام: يدل على خلاف ذلك قوله تعالى فى سورة السجدة: { { الم تَنزِيلُ الكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَبِ العَالَمِينَ } والجملة بعد { الم } جواب { الم } إن جعل قسما، وإن جعل اسماً للقرآن أو السورة فمبتدأ خبره ذلك، أو خبر لمحذوف، وذلك خبر ثان أو بدل، وكذا الأعاريب بأوجهه إذا جعلنا { الم } بمعنى المؤلف من الحروف، وإنما صح الإخبار عنه على هذا مع أنه أعم بذلك الكتاب، مع أنه أخص، لأن المراد الكامل فى تأليفه البالغ غاية الفصاحة والبلاغة هو ذلك الكتاب، وإنما صح الإخبار بهدى عن القرآن وإتيانه حالا مع أنه مصدر لتأويله بالوصف، أى هاد أو تقدير مضاف، أى ذو هدى أو ذا هدى، أو للمبالغة، وإذا جعلنا خبر لا محذوفاً وفيه نعت اسمها، فالوقف على فيه كما إذا جعل خبراً للا، وإذا جعلنا خبر لا محذوفاً، وفيه خبر لهدى، والوقف على لا ريب، والإشارة عائدة إلى الم أن أول بالمؤلف من هذه الحروف الألف واللام والميم، وليس المراد خصوص الأحرف الثلاثة، بل هن وسائر حروف أب ت ث، وذلك كما تقول علمته أ ب ت ث، وتريد الحروف كلها، أى ذلك الكلام المؤلف من حروف التهجى، وهو القرآن كله، أو الإشارة عائدة إلى الم مفسراً بالقرآن أو مفسراً بالسورة سورة البقرة، وإنما صح على هذا الوجه كون السورة كتاباً لأنها جزء الكتاب الذى هو القرآن، فعبر باسم الكل واسمه هو لفظ الكتاب عن البعض، وهو هذه السورة لمزيد اختصاص، وهو طولها وكثرة الأحكام فيها، أو صح كونها كتاباً تأكيداً وتعظيماً كأنها القرآن كله أو صح باعتبار المعنى اللغوى وهو المجموع والسورة مركبة من حروف وكلمات، وجمل وآيات، وأحكام وقصص، ووعد ووعيد، وأمر ونهى، وإنما أشار إلى السورة والقرآن أو المؤلف من الحروف وهو القرآن أيضاً بإشارة البعيد، مع أن كل واحد من الثلاثة حاضر لعلو شأن كل من الثلاثة، حتى كأنه مرتفع فى الجو ارتفاعاً حسيا. قال السكاكى والخطيب القزوينى يعرف المسند إليه بالإشارة لتعظيمه بالبعد، نحو: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } قال السعد: تنزيلا لبعد درجته ورفعة محله منزلة بعد المسافة ولفظ ذلك صالح للإشارة إلى كل غائب عيناً كان أو معنى، بأن يحكى أولا، ثم يشار إليه نحو، جاءنى رجل فقال ذلك الرجل: وضربنى زيد فهالنى ذلك الضرب، لأن المحكى عنه غائب، ويجوز على قلة لفظ الحاضر نحو: فقال هذا الرجل وهالنى هذا الضرب، أى هذا المذكور عن قريب، فهو وإن كان غائباً لكن جرى ذكره عن قريب، فكأنه حاضر، وقد يذكر المعنى الحاضر المتقدم بلفظ البعيد نحو بالله، وذلك قسم عظيم لأفعلن، لأن المعنى غير مدرك حساً فكأنه بعيد، وكل ما فرغ المتكلم من التكلم به صح الحكم عليه بحكم الغائب البعيد، لأنه قد انقطع من اللسان، فلم يكن بعد انقطاعه مسموعاً فى الحضرة، وجاء القرآن الكريم على ما تعرفه العرب، والله سبحانه وتعالى منزه عن اللسان والجوارح عن كل نقص ومثال.
قال القاضى: أو لما وصل من المرسل بكسر السين وهو الله سبحانه وتعالى، إلى المرسل إليه صلى الله عليه وسلم، صار متباعداً فأشير إليه بما يشار إلى البعيد، وإنما يعنى بوصوله من المرسل سبحانه وتعالى، وصوله من اللوح المحفوظ، أو من أيدى الملائكة الناقلين، أو من السماء الدنيا، وإنما صحت الإشارة بذا مع أنه للمذكر، وإلى آلم إذا فسر بالسورة، لأنه قد أخبر عنه بمذكر وهو الكتاب، أو هدى أو كلاهما أو لأنه قد نعت بمذكر وهو الكتاب، أو عطف به عليه عطف بيان، أو بدل منه وأل فى الكتاب للكمال، والحقيقة ففيه فصاحة التعريف كأنه قبل الكتاب المنعوت بغاية الكمال المتساهل أن يسمى كتاباً، وهذا مما ينتجه قوله آلم أى المؤلف من حروف الهجاء، فاذا وقع التحدى بما ألف منها وكان من جنس كلامهم وعجزوا عنه، فلا بد أنه بالغ حد الكمال، ولا بد أن يتعلق به ريب، كما قال: لا ريب فيه، لأنه لا نقص مما تعلق به ريب، وما كان كذلك لا بد أن يكون هدى للمتعقين، كما قال هدى للمتقين، فكل جملة مستتبعة لما بعدها استتباع الدليل للمدلول، وكل جملة مقررة لما قبلها، ويصح أن تكون الإشارة إليه، أعنى إلى الكتاب على أنه نعتها أو بيانها أو بدلها، أى ذلك الكتاب الكامل، أو خبرها، أى ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، ويجوز أن تكون أل فيه للعهد الذكرى، وإنما ذكر فيما نزل هذه الآية من القرآن، مثل قوله عز وجل:
{ إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا } أو ذكر بلفظ { الم } على أنه قسم مراد به السورة أو القرآن أو للعهد الذهنى، فأن القرآن الكريم فى ذهن النبى صلى الله عليه وسلم، لا يخلو منه بتفكر فيما نزل منه وينتظر نزول الباقى، ولأنه معهود فى الكتب المتقدمة، راسخ ذكره فى أذهان من يقرؤها قد وصل ذهنه صلى الله عليه وسلم، أو للعهد الحضورى لحضور بعضه وهو ما نزل، فإن الشىء المتصل إذا حضر عندك بعضه وغاب عنك باقيه مثل حبل قربت لبعضه وتراه، وغاب عنك باقيه يصدق عليه أنه حاضر، قال ابن عصفور: كل لام واقعة بعد الإشارة أو أى فى النداء إذا كان مدخولها تابعاً لما قبله، أو واقعة بعد إذا الفجائية، فهى للعهد الحضورى، وقد قيل المراد بقوله ذلك الكتاب ما قد كان نزل من القرآن المشار إليه بإشارة الغائب تعظيما لعلو شأنه، وهو فى الحقيقة حاضر إذا اعتبر نزوله حضوراً، ويناسب العهد الذهنى ما قيل إن الله تبارك وتعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم: فى منام أو إلهام أو بوحى فى أوائل البعثة قبل أن ينزل عليه شىء من القرآن أن ينزل عليه كتاب لا يمحوه الماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، أى لا يبلى ولا يتغير ولا يندرس بكثرة التردد فيه، أى بكثرة تردده المؤدى إلى أن يمحى، فيترك فيندرس وانتفى بسبب كثرة التردد فيه بتكرار قراءته أن يكون بالياً مندرساً، وانتفى أن يكون بالياً متغيراً مع كثرة قراءته، صانه الله عن أن يغير مع كثرة من يتلوه، والحمد لله.
ولما نزل بعضه قال الله تبارك وتعالى: هذا هو ذلك الكتاب الذى وعدتك به أو وعده ذلك ببعض القرآن مثل:
{ سنلقى عليك قولا ثقيلا } كأنه قيل هذا الموعود إنزاله بعد ما نزل بعضه، ويناسب العهد الذهنى أيضاً ما قيل: إن الله وعد بنى إسرائيل أن ينزل لهم كتاباً على رسول إلى الناس كافة من ولد إسماعيل، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - صانها الله بفضله - وبها خلق كثير من اليهود نزلت الآية، أى هذا الكتاب الذى وعدت به على لسان موسى وعيسى، أن أنزله عليه فكفروا به وبما أنزل إليه:

لا تكذب إن اليهود وقد زا غوا عن الحق معشر خبثاء

والكتاب لغة الضم والجمع، ومن ذلك يقال للجند كتيبة لاجتماعه، وكتبت المال جمعته، وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة، وهو القرآن، لكثرة المعانى والألفاظ والحروف فيه، واجتماعها وانضمامها فى الألسنة والصحف واللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون اسماً موضوعا لذلك غير مصدر، بل اسم كرجل ولباس، فكما أنه سمى اللباس لملابسته ومخالطته لمن لبسه، كذلك سمى القرآن، لأنه مما يجمع ويضم كما ذكر، ولسنا نحتاج أن نقول إن تسميته كتابا من مجاز الأول بمعنى أنه سيكتبه الناس أو أن نقول إنها باعتبار الإمكان والقوة بأنه قد جمع تحقيقاً وبالفعل فى اللوح المحفوظ، نعم قد يقال سمى بذلك قبل أن يكتب فيه، لأن هذا الاسم من جملة القرآن مكتوب فى اللوح المحفوظ، فيحتاج أن نقول هى باعتبار الإمكان والقوة، ومن مجاز الأول أى يؤل إلى الكتابة، وقابل لأن يكتب فى اللوح المحفوظ وما بعده من أوراق وغيرها، أى يضم ويجمع فيها قيل إنه حقيقة فى ضم الحروف بعضها إلى بعض فى الخط، وقيل إنه حقيقة عرفته فى ضم بعضها إلى بعض فى التكلم بها وقرأ ابو عمرو بإدغام هاء فيه فى هاء هدى، وهكذا كل مثلين من كلمتين، ولو تحرك أولهما أو كان قبله ساكن إلا { فلا يحزنك كفره } وما كان تاء الخطاب أو التكلم أو منوناً أو مشدداً، ومعنى لا ريب فيه، أنه حق ليس أهلا للريب أى الشك، وليس فيه ما يوجب الشك فى لفظه ولا فى معناه لوضوح بيانه، وظهور برهانه كظهور الشمس، وكونه بالغاً غاية الإعجاز عند من نظر فيه بعقله نظراً صحيحاً، وليس المراد أنه لم يشك فيه أحد، فإنهم قد شكوا فيه، كما قال الله عز وجل: { وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } لكن أبطل ريبتهم لعجزهم عن أن يأتوا بمثله، أو بسورة مثل سورة منه، أو بعشر سور أو بآية، ولو اجتمعوا مع جميع بنى آدم الأموات، ومن سيوجد مما وجد، ومع الجن كذلك، وقيل المعنى أنه لا يشك فيه أحد من المتقين، بناء على أن للمتقين هو خبر لأمر قوله عز وجل:
{ هَدىً لِّلْمُتَّقِينَ }: أى لا ريب للمتقين فيه فيدخل قوله للمتقين فى أعاريب { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } المتقدمة فيكون فيه نعتاً لريب، ويكون هدى حالا من الهاء أو خبرها محذوف، أى لا ريب فيه للمتقين هدى للمتقين، فحذف لدلالة قوله للمتقين عليه، والأولى ما تقدم فى قوله جل وعلا: { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ } والريب الشك، وكان ابن مسعود يقرؤه لا شك فيه، فيحتمل قراءة التلاوة، ويحتمل قراءة التفسير وهو فى الأصل مصدر، من رابك إذا حصل فيك الريبة، وهى قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة، ومنه ريب الزمان لنوائبه، وقوله صلى الله عليه وسلم:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" لأن الشك ريبة الصدق طمأنينة، ورواه الترمذى وصححه، وقدم الصدق طمأنينة على الشك ريبة، وذلك أن نوائب الزمان وهى حوادثه تقلق النفس وتزعجها، وكذا ما يشك فيه، لأن الشك تساوى الطرفين وتردد النفس بلا ترجيح، فيحصل لها قلق بذلك، والريب أخص من الشك، لأنه شك مع تهمة، والمراد هنا نفى كل من الريب والشك، وخص ذكر الريب نظراً لما عند المرتابين، ومعنى الحديث أترك ما فيه شك منتقلا إلى ما لا شك فيه، فإذا ارتابت نفسك فى شىء فاتركه، وإذا اطمأنت فى شىء فافعله، فإن نفس المؤمن تطمئن إلى الصدق وترتاب من الكذب، وهذا مخصوص بذوى النفوس الشريفة القدسية الطاهرة، وقال الترمذى فى ذلك الحديث: إنه حسن صحيح، ولكن فى سنده أبو الجوز وهو رواية عن الحسن، وتوقف فيه أحمد، وقال بعضهم إنه مجهول لا يعرف، وروى الحديث أيضاً النسائى وابن حبان وقالا: إن أبا الجوز ثقة، ولفظ ابن حبان فإن الخير طمأنينة والشر ريبة، ورواه الحاكم أيضاً، والذى أراه للترمذى، وأن الكذب ريبة، وراوى الحديث هو الحسن بن على ابن أبى طالب، ورواه أحمد أيضاً عن أنس، وروى الطبرانى مرفوعاً عن ابن عمر، وليس كما قال الدارقطنى أن هذا من كلام ابن عمر، وأنه يروى أيضاً من كلام مالك، وروى الدارقطنى بإسناد ضعيف عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال لرجل: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك قال: وكيف لى العلم بذلك؟، قال: إذا أردت أمراً فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال، وأن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة" زاد الطبرانى قيل له فمن الورع؟ قال الذى يقف عن الشبهة.
والهدى الإرشاد والبيان، والدلالة، وخص المتقين به لأنهم المرتشدون بارشاده والمبينون ببيانه، بخلاف غيرهم، فإنه إرشاد وبيان ودلالة لهم أيضاً، لكن لا يقتدون بإرشاده وبيانه ودلالته، ويجوز أن يكون المراد بالهدى الإيصال إلى المقصود والتوفيق إليه. لا مطلق الإرشاد والبيان والدلالة إليه، فإنه يرد فى كلام العرب على وجهين، ومن الثانى قوله عز وجل:
{ إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء } وقوله عز وجل: { لعلى هدى أو فى ضلال مبين } بدليل أنه - صلى الله عليه وسلم - يبين الحق لكل أحد، إنما نفى عنه أن يكون الإيصال إلى المقصود والتوفيق إليه لمن أحب بيده، وبدليل مقابلة الهدى بالضلال، ومن الأول: { فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } أى بينا لهم الحق وتركوه، ولم يرد التوفيق، لأن الموفق لا يمكن أن يترك الحق إلى العمى، وقوله: { هدى للناس } أى إرشاد تجميعهم لكن من تدبره بعقله، ونظر فى المعجزات والآيات نفعه واشتفى به، ومن أعرض ازداد خساراً كما قال الله عز وجل: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } كالطعام والشراب الكريمين، فإنهما ينفعان الجسم الصحيح ويتضرر بهما المريض، لعلة فيه لا فيهما، وتخصيص بعضهم الهدى بالوجه الأول وبعضهم بالثانى مردود بورودهما جميعاً، ولا نسلم أنه لا يقال مهدى إلا لمن اهتدى، بل يقال أيضاً لمن هدى فلم يهتد، ولئن سلمناه لنقولن إنما قيل مهدى للمنفع بالهدى لانتفاعه دون غيره، ولا مدخل لذلك فى أن الهدى للدلالة، أو للدلالة الموصلة إلى البغية بتثليث الموحدة، أعنى إلى المطلوب. وإن قلت كيف يكون هدى وفيه المجمل والمتشابه؟ قلت: لزوال الإجمال بتبيينه صلى الله عليه وسلم، والمتشابه لا يضر بهم جهله، ويكفى الإيمان به، وأيضاً قد يبينه راسخ فى العلم، والمتقى من يبالغ فى الحذر من شىء يعالج الحذر منه وينفر من أن يقع فى أقل قليل منه كمحاذرة السم، فقد يحذر ما لا يكون فيه ذلك المحذور بحسب ما ظهر مخافة أن يكون فيه وهو لا يعلم به، أو أن يؤدى إلى ما هو فيه، ويختص ذلك فى الشرع بشدة محاذرة المعصية والشبهة، وما يخاف أن تكون فيه إحداهما أو يؤدى إلى إحداهما فهو يترك كثيراً من الحلال لئلا يقع فى ذلك، وفى عرف الخواص من أهل الشرع أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق سبحانه وتعالى، وينقطع إليه بجملته ظاهره وباطنه، ويجوز تفسير التقوى به فى قوله تعالى: { اتقوا الله حق تقاته } وهو التقوى الحقيقى المطلوب، وعن ابن عباس رضى الله عنهما: المتقى من يترك الفواحش والكبائر والشرك، وفي معناه التارك ما حرم الله المؤدى ما افترض، فإن ترك أداء الفرض فاحشة أو كبيرة أو بشرك، وفى معناه أيضاً من لا يراه الله حيث نهاه، وفى معناه المقتدى بالنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفى معناه تارك الاغترار بالطاعة والإصرار على المعصية، هذه العبارات كلها فى معنى عبارة ابن عباس، ويتولد من ذلك ألا يرى نفسه خيراً من أحد، وكل ذلك من الوقاية وهى الحجز بين الشيئين، فإن المتقى يحتجز من غضب الله عز وجل وعذابه، والتاء الأولى من المتبقى بدل من الواو، والثانية تاء المفتعل، وإن قلت كيف يكون القرآن أو بعضه هدى للمتقى؟.. بل هدى للضال وإلا لزم تحصيل الحاصل؟ قلت: المعنى أنه يزيدهم الهدى أو أن الاتقاء الحاصل معهم، إنما حصل لهم بهدى القرآن، أو معنى المتقين المشارفون للاتقاء على الإيجاز والتشريف والتفخيم لهم، أو أريد بالهدى غايته، لأن غير المتقين يحصل لهم مبدأة، وقرأ أبو الشعثاء جابر بن زيدرحمه الله أو سليم بن أسود: لا ريب بالرفع والتنوين على إعمال لا عمل ليس، أو على إهمالها، فعلى إعمالها عمل ليس الأحسن كون خبرها محذوفاً، وفيه نعت اسمها، أو فيه خبر لهدى، وهدى مبتدأ، أى لا ريب فيه، فيه هدى للمتقين، وعلى كل قراءة وكل وجه نكر هذا التعظيم، وإنما لم يقدم لفظ فيه على لا ريب كما قدم فيها على قول، لأنه لم يقصد نفى الريب عن القرآن خاصة وإثباته لسائر الكتب المنزلة كما قصد إثبات القول لسائر الخمور، ونفيه عن خمر الجنة فقط، فلو قيل لا فيه ريب لأوهم الكلام أن فى سائر الكتب ريباً.