التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢١٨
يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إنَّ الَّذينَ آمنُوا والَّذينَ هَاجَرُوا }: أوطانهم وأحبابهم.
{ وجَاهدُوا فى سَبِيلِ الله أولئك يرْجُون رَحْمتَ الله }: ثوابه على إيمانهم ومهاجرتهم وجهادهم وأعمالهم.
{ واللّهُ غفُورٌ رَحيمٌ }: لمن تاب وعبد الله وأصحابه مغفور لهم ما فعلوه خطأ وقلة حوطة، فجرد لهم الأجر والثواب، وإنما شكوا فى السلامة من الإثم ولم يقطعوا بها، لأنه لم يصرح لهم بها، وقيل إنهم علموا بها، وإنا لما فرج عنهم ما كانوا فيه من الغم الشديد بقتالهم فى الشهر الحرام، طُمَعَوا فيما عند الله من ثوابه، فقالوا يا رسول الله: لا عقاب علينا فيما فعلنا، فهل نعطى أجرا وثوابا على أن يكون ذلك منا عزواً وطاعة؟ فنزلت الآية مبشرة بأنهم مؤمنون مهاجرون، وأن ذلك القتال منهم جهاد فى سبيل الله، وقدم الإيمان لأنه أصل الأعمال. ثم الهجرة ثم الجهاد على ترتيب ذلك فى الواقع، وأفرد الإيمان بموصول والهجرة والجهاد بمؤصول، لأنه أصل مستقل فى أرجاء الرحمة، وهما ثمرته وفرعه قد يصح بدونهما، ولا يصحان بدونه، فلم يجمع ذلك كله بموصول واحد، ولأن إفرادهما بموصول تعظيم لشأنهما لإشعاره باستقلالهما واستتباع الرجاء، والمراد بالموصولين الجنس، فيدخل فيه عبد الله بن جحش وأصحابه، أو يراد عبد الله بن جحش وأصحابه فيعلم حكم غيرهم بالمقايسة لوجود العلة وهى الإيمان، والمهاجرة والجهاد. قال عروة بن الزبير: لما عنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه شق ذلك عليهم، فتداركهم الله بهذه الآية، فأزال الله الوحشة، ثم حكمها باق أبدا فى حال القتال فى الأشهر الحرم، والمفاعلة فى هاجروا وجاهدوا للمبالغة، أى بلغوا مجهودهم فى الهجرة، والقتال والرجاء أبدا معه خوف، ويقارنه علم وإن لم يقارنه فذلك أمنية، والعمل لا يوجب الثواب لعلع فيه خللا، ولعله يختم لصاحبه بالسوء والعياذ بالله، فلذلك قال: { يرجون } وأيضاً الثواب غير واجب على العمل عقلا، إذ كل نعمة من الله فضل بل نفس العمل نعمة من الله، فالإنسان بمجرد عقله يطمع.
{ يسألوُنَكَ عَن الخَمْر والميْسِرِ }: روى أنه نزل بمكة قوله تعالى:
{ ومن ثمرات النخيل } الآية، فكان المسلمون يشربون الخمر، وقيل كانوا يشربونها قبل الآية، ثم إن عمر ومعاذا فى نفر من الصحابة قالوا: أفتنا يا رسول الله فى الخمر، فإنها مذهبه للعقل مسلبة للمال، فنزل قوله تعالى: { يَسْألُونَكَ عَن الخَمْرِ } الآية فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن ابن عوف ناساً من المسلمين فشربوا وسكروا، وصلى أحدهم بهم إماماً فقرأ: { قل يَا أيها الْكَافِرُونَ أعبد ما تعبدون } فنزل الله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فقل من يشربها، وقالوا لا خير فى شئ يحول بيننا وبين الصلاة، وحرم السكر فى وقت الصلاة، وإن شربت قبل وقت الصلاة فعل السكر يمتد إليه فكان من يشربها يشرب مقداراً لا يسكر أو يشرب بعد صلاة العتمة، فيصحوا قبل الفجر، أو يشرب بعد صلاة الفجر فيصحو قبل صلاة الظهر، وروى "أنه لما نزل: { يسألونك عن الخمر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إن الله يقارب فى تحريم الخمر" ثم نزل أشد منها وهى قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فحرم السكر فقط، وحل ما دونه، وهذا فى وقت الصلاة وغيره، على أن المراد بالصلاة مواضعها كالمسجد، ثم دعى عتبان بن مالك سعد بن أبى وقاص فى نفر، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، فأنشد سعد شعراً فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصارى بلحى بعير فشجه، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: اللهم بين لنا فى الخمر بيانا شافياً. فنزل: { إنما الخمر والميسر } إلى قوله: { فهل أنتم منتهون } فقال عمر: انتهينا يا رب. قال الفخر: علم الله أن القوم قد ألفوا شرب الخمر، وأنه يشق عليهم منها دفعة، فدرجهم فى التحريم رفقاً بهم، ويروى أنه شربها حمزة بن عبد المطلب حتى سكر فلقيه رجل من الأنصار، ومعه ناضح، أى جمل يسقى عليه النخل والشجرة أو الحرث، يتمثل ببيتين لعكب بن مالك فى مدح قومه:

جمعنا مع الإيواء نصرا وهجرة ولم نر حيا مثلنا فى المعاشر
فأحياؤنا من خير أحياء من مضى وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقال حمزة: أولئك المهاجرون، فقال الأنصارى بل نحن، فتنازعا حتى جرد حمزة سيفه، ومشى إلى الأنصارى، فهرب منه وترك ناضحه، فظفر به حمزه فقطعه، وجاء الأنصارى مشتكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إن الخمر متلفة للمال مذهبة للعقل. فغرم له النبى صلى الله عليه وسلم ناضحة، فنزل: { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية فامتنع قوم من شربها، وبقى قوم حتى دعى محمد بن عبد الرحمن الزهرى قوماً فأطعمهم وسقاهم الخمر حتى سكروا، وحضر وقت الصلاة فقدموا رجلا يقال له أبو بكر بن جعونة، وكان حليفا للأنصار، فصلى بهم، وقرأ فى صلاته: { قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون } وبلغ ذلك النبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } فقال عمر: إن الله ليقرب فى تحريمها، وأنه سيحرمها، وقد مر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فلعل عمر قال ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، أو اتفق لهما جميعا، فكانوا يشربونها بعد صلاة العتمة وبعد صلاة الفجر، حتى عمل سعد بن أبى وقاص الزهرى وليمة على رأس جزور، ودعى أناسا من المهاجرين والأنصار، وأكلوا وشربوا وسكروا، وعمد واحد من الأنصار إلى الحى جزور فضرب به أنف سعد، فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: { إنما الخمر والميسر والأنصاب } إلى قوله: { لعلكم تفلحون } وموضع التحريم: { فهل أنتم منتهون } لأن المعنى فانتهوا كقوله تعالى: { أتصبرون } أى اصبروا، وقوله تعالى: { قوم فرعون ألا يتقون } أى اتقوا، وقيل موضع التحريم: { فاجتنبوه لعلكم تفلحون }، والخمر فى الأصل مصدر خمره إذا ستره، فسمى عصير التمر والعنب خمراً لأنه يخمر العقل، أى يستره، كما سمى سكراً، لأنه يسكره أى يحجزه، من قولك سكرت النهر إذا سددته ومنعته من جرى الماء، والتسمية بالمصدر مبالغة فأما ما (كان) من عصير العنب والتمر - تمر النخل إذا غلى واشتد من غير نار - فاتفقت الأمة على أنه خمر نجس يحد شاربه، ويفسق ويشرك مستحله، كذا قيل، وفى الاتفاق على نجسه نظر: فزعم سفيان الثورى وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التحريم لا يتعداهما إلى ما اتخذ من غيرهما كالحنطة والشعير والذرة والعسل، إلا أن يسكر، وقال: إذا طبخ عصير العنب والرطب حتى ذهب نصفه فهو حلال مكروه، وإن طبخ حتى ذهب ثلثاه فهو حلال مباح، إلا أن السكر منه حرام، فبشرب ما دون السكر إن لم يقصد اللهو والطرب، ومذهب أكثر العلماء وهو مذهبنا ومذهب الشافعى: إن كل شراب أسكر كثيره فهو خمر فيحرم قليله وكثيره ما يحد شاربه، لقول عمر رضى الله عنه: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة أشياء: من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والخمر ما خمر العقل يعنى أنهم كانوا يتخذونها قبل تحريمها من الأشياء الخمسة، وأن كل ما خمر فهو خمر داخل فى التحريم، وفى رواية أن عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الخمر قد حرمت وهى من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر الفرق منه فالكف منه حرام" . والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وعن أم سلمة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومُفَتِّرِّ، أى ما يوقع الفتور فى الأعضاء، وصنف أبو على الجبائى من المعتزلة، صنف عدة كتب فى تحليل النبيذ، فلما كبر سنه قيل: لو شربت منه ما تقوى به فأبى، فقيل: قد صنفت فى تحليله. فقال: تناولته الدعارة فقبح فى المروءة، أى تناوله الفسقة دون الصلحاء فقبح فى المروءة، التشبه بهم، ومثله ما روى عن بعض أصحاب أبى حنيفة: لأن أقول مراراً النبيذ حلال أحب إلى من أن أقول مرة هو حرام، ولأن آخِّر من السماء فأتقطع قطعاً أحب إلىَّ من أن أتناول منه قطرة.. وعن على: لو وقعت قطرة من الخمر فبنيت مكانها منارة لم أأَذِّن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف ونبت الكلأ لم أرعه. وعن عمر: لو أدخلت أصبعى فيه لم تتبعنى، وعنه صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين: العنبة والنخلة" يقول إن غالبها منهما أو أشدها منهما أو أن اسمهما لما اتخذ منهما وغيره يسمى عليهما بالقياس ولا بأس بنبيذ فى سقاء إذا انتهى فسد، وأما ما يزداد جودة كل ما ترك فحرام، وعن الحسن عن أنس: نزل تحريم الخمر ورجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت أبى طلحة، فلما سمعوا نداء المنادى بتحريم الخمر قالوا: يا أنس اكفى القلل. فقال بعضهم: حتى نأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فننظر ما الذى حرم علينا. فقالوا: لا والله لا نسمع هذا الصوت بعد هذه المرة فأهريقوها، قال أنس: كانت خمرهم يومئذ من بسر وتمر، وعن الحسين: كانت عندهم خمر بالمدينة يشربونها، فلما حرمت أهراقوها فى المدينة، فما ذهب ريحها من طرف المدينة ستة أشهر، وروى " أنه قال رجل: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا نبيعها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الخمر حرام، وهى ملعونة، وملعون الشارب والساقى والدال والعاصر والمعتصر والبائع والمشترى والحامل والمحمولة إليه وأكل الثمن" ولم يحفظ عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، وروى أنه صلى الله عليه وسلم: ضربت فيها ضرباً مشاعاً وحزره أبو بكر أربعين سوطا، ثم تهافت الناس فيها فشدد الله عليهم الحد، وجعله كأخف الحدود ثمانين، ويجتنب من المضروب الوجه والقلب والدماغ والخصيتان، والميسر: القمار وهو مصدر، يقال يسرته إذا قمرته، سمى به القمار لأنه أخذ مال يسير لا بكد وتعب، فهو من اليسر بمعنى السهولة وهو قول مقاتل، وقيل: مشتق من اليسار، وهو الغنى، لأنه يسلب بيساره قال ابن عباس رضى الله عنهما: كان الرجل فى الجاهلية يقامر الرجل على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله، فنزلت الآية، ولا بد للميسر من قدح وهو السهم، وقداحه عشر لسبعة منها أنصباء على كل واحد أربعة خطوط، فذلك ثمانية وعشرون، وإن شاءوا زادوا فى بعض، ونقصوا عن بعض، مثل أن يجعل فى واحد اثنين وفى آخر ستة، والنصيب بقدر الخط والثلاثة غفل لا خط فيها، فلا نصيب لها، وتسمى أقلاماً وأزلاما، فالسبعة: الفذ والقوام والرقيب والحلس - بفتح الحاء وكسر اللام - وقيل بكسر الحاء وسكون اللام، والنافس والمسبل والمعلا، والثلاثة: السفيح والمنيح والوغد، يقتسمون الجزور بعد نحرها سبعة أجزاء، عدد القداح عند الجمهور، وقال الأصمعى: ثمانية وعشرين عدد الخطوط، ولعل بعض العرب يفعله، وبعضا يفعل ذلك، وظاهر كلام بعض أن على الفذ خطا واحداً، وله سهم، وعلى التوام خطين وله سهمان، وعلى الرقيب ثلاثة خطوط وله ثلاثة أسهم، وعلى الحلس أربعة خطوط وله أربعة أسهم، وعلى النافس خمس خطوط وله خمسة أسهم، وعلى المسبل ستة خطوط وله ستة أسهم، وعلى المعلا سبعة خطوط وله سبعة أسهم وهو الصحيح، وإذا أرادوا أن يشتروا جزوراً نسيئة ونحروها وقسموها عشرة أو ثمانية وعشرين أو سبعة أقوال، ولعل ذلك باختلاف العرب فى فعلها، ويجمعون القداح العشرة فى خريطة تسمى الربابة، ويجعلونها فى يد عدل، ويحركها فيدخل يده ويخرج باسم كل رجل قدحاً، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور، ومن خرج له قدح ولم يبق له شئ من الأقسام العشرة، كما إذا خرج أولا المعلى، ثم الرقيب، فلصاحب المعلى سبعة أعشار، ولصاحب الرقيب ثلاثة، ولا يبقى لمن بعده شئ فلا غنم ولا غرم عليه، وكذا إن خرج أولا المعلى، فله سبعة ثم المسبل فليس له إلا ما بقى وهو ثلاثة، وأصحاب الميسر ثلاثة أقسام فائزون بنصيب من الجزور، ومحرومون بلا غنم، ومحرومون غارمون، وإن قسمت الجزور ثمانية وعشرين جزءاً فهم قسمان: غانم وغارم، ومن عادتهم أن يدفع الغانمون ما غنموه إلى الفقراء ولا يأكلون منه، ويفخرون بذلك، ويذمون من لا يدخل ويسمونه الوغد - وهو اللئيم عديم المروءة والكرم. واختلف فى الميسر، فقيل اسم لذلك خاصة، وأما فى المعنى والحرمة فكل ما أشبه ذلك حرام، وقيل اسم له ونحوه.
قال ابن سيرين والحسن وابن المسيب ومجاهد وعطاء وطاووس: وكل قمار ميسر من نرد وشطرنج ونحوه، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، وهو قول ابن عباس وابن عمر، قال ابن سيرين: كل شئ فيه قهر فهو من الميسر،
"وعنه صلى الله عليه وسلم فى النرد والشطرنج: إياكم وهاتين اللعبتين فإنهما من ميسر العجم" يشير إلى ما ذكر من الأقداح من الجزور ميسر العرب، وأما السبق فى الخف والحافر والنشاب فجائز بالحديث والأثر وعن الشافعى: إذا خلا الشطرنج عن البرهان واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً، لأن الميسر ما يوجب دفع مال وأخذ مال، وهذا ليس كذلك، وتقدم الكلام على أن الحل والحرمة والإثم والطاعة من عوارض أفعال المكلفين ولا إثم فى ذوات الأشياء وأعيانها، فالمعنى ويسألك المؤمنون عن تناول الخمر والميسر أحرام أو حلال لا عن حقيقتهما.
{ قُلْ فِيهِما }: أى فى تناولهما.
{ إثْمٌ كبيرٌ }: وقرأ حمزة والكسائى كثير بثاء مثلثة وقرأ أبى أقرب وذلك من شرب الخمر، يؤدى إلى الإعراض عن الحق، فشار بها يشتم غيره ويخاصم ويضرب ويفحش ويزور. قال صلى الله عليه وسلم:
"اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث" ، ومر ابن أبى الدنيا على سكران أن يبول فى يده ويغسل به وجه كهيئة المتوضئ، ويقول الحمد لله الذى جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً، وقيل فى الجاهلية لابن مرداش لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد فى جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلى بيدى فأدخله فى جوفى، ولا أرضى أن أصبح سيد قومى وأمسى سفيههم. وأنهم كانوا يتقامرون حتى لا يبقى لأحدهم شئ ويتوارثون العداوة فى ذلك والمشاتمة، لأخذ ماله بلا عوض، وبلا رضاً من نفسه، وفيه وفى الخمر شغل عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد ذكر الله فى سورة المائدة ذلك الإثم لقوله: { إنما يريد الشيطان أَن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } إلى قوله: { وعن الصلاة } }. { ومَنَافِع للناسِ }: ككسب الأموال: بالخمر واللذة بشربها، وتقوية الضعيف وهضم الطعام، والإعانة على الباه وتسلية المخزون، وتشجيع للجبان، وتسخية البخيل، وتصفية اللون، وتنعيش الحرارة الغزيزة والزيادة فى الصحة، والمؤمن يكفيه إيمانه فى ذلك كله، ويستغنى فى خبثها، وكالتوسعة للفقراء المحتاجين بالميسر، لأن نصيب الغانم منها عائد إليهم حتى إنه قد يحصل للواحد فى المجلس الواحد مائة بعير، يفرقها للفقراء ويكسب المدح والثناء.
{ وإثْمُهما أكْبرُ مِنْ نَفْعِهِما }: أى الذنب الذى يحصل بهما كالاشتغال عن الصلاة والذكر بهما، والضرب والشتم فى الخمر أكبر من النفع الذى يحصل بهما، لأنه الذنب يضر بالآخرة ولو قصد بهما أمر الدنيا كالشجاعة فى الحرب والسخاء، ونفع الفقراء، فإنه لا عذر فى الاشتغال عن الصلاة والذكر، ولا عذر فيما فعل السكران، ولو قيل تحريم الخمر فإنه يعنف ويغرم، وقيل الإثم للفساد فإما أن يراد أن المفاسد الدينية التى تحصل منهما أكبر المنافع الدنيوية الحاصلة بها، وإما أن يراد ما فيهما من الجناية كالضرب والشتم المؤديين إلى غرم الأموال، وكالعداوة المورثة بالقمار فقيل إن الخمر حرمت بقوله: { وإثمهما أكبر من نفعهما } لأن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل، وفى هذا القول تلويح بأن التحسين والتقبيح عقليان، وهو مذهب المعتزلة، وهو باطل، وعن ابن عباس والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم يعنيان الذنب والنفع قبله.
{ وَيَسْألْونكَ ماذَا يُنْفِقُونَ }: قيل حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة فقالوا: ماذا ننفق، وقيل سأل عمر وبن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذى أنفق؟ أقليلا أنفق أم كثيراً؟ فكأنه قال: ما مقدار ما ينفقون؟ سأل هنالك عن نفس ما ينفق وعمن ينفق عليه، وهنا عن كميته واللفظ واحد، ويعلم ما سأل عنه فى ذلك من الجواب فى الموضعين، فإن الجواب بالعفو وما هو تيسر دليل على أن السؤال عن الكمية هنا، ولو كان كثيراً ما يجاب بغير ما سئل عنه لعلة، وإنما يجمع مع أن السائل واحد، لأن غيره راض بسؤاله مصغ إلى الجواب، ومحتاج إلى ما احتاج إليه من السؤال، وربما أنفقوا أيضاً فقدموا للسؤال قبل أن ينزل آية الزكاة. قال القرطبى: لما نزل فى سؤال عمرو بن الجموح:
{ قل ما أنفقتم من خير فللوالدين } قال أيضاً: كم أنفق؟ فنزل قوله تعالى:
{ قُلِ العَفْوَ }: أى قل أنفقوا العفو وهو ما تيسر، بأن فضل عن الحاجة، فكان سهلا لا مشقة فى إنفاقه، فكأنه قال أنفقوا ما سهل وتيسر، ولم يشق عليكم إنفاقه، ولا تنفقوا ما تحتاجون إليه، فتضيعوا أنفسكم، قال الشاعر يخاطب زوجته:

خذى العفو منى تستديمى مودتىولا تنطقى فى سورتى حين أغضب
فإنى رأيت الحب فى الصدر والأذىإذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب

أى خذى من أخلاقى ما يكون سهلا، ولا تنطقى فى حدتى وشدة غضبى. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: العفو من المال ما فضل عن حاجة العيال، كما يقال للأرض السهلة عفو، وأصل العفو الزيادة أو الكثرة، وهو ما زاد عن حاجة العيال. وروى " أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها فى بعض الغنائم فقال: خذها منى صدقة، فأعرض عنه، فأتاه من الجانب الإيمن فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم أتاه من الجانب الأيسر فأعرض عنه، فقال: هاتها مغضبا فأخذها فحذفها حذفاً لو أصابه لشجه أو عقره، ثم قال: يأتى أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى" والحذف: بالحاء المهملة الرمى، والتكفف: السؤال بالكف، أو سؤال الكفاف، وظهر الغنى: التمكن على الصدقة بحسب الغنى، وذكر الظهر؛ ليدل على الاستظهار عليها بالغناء، فكان الرجل بعد نزول هذه الآية يأخذ من كسبه ومن ماله وما يكفيه فى عامه وينفق باقيه إلى أن فرضت الزكاة فنسخت هذه الآية، وعن الحسن عنه صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول ولا يلوم الله على الكفاف" ، وعن جابر بن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أحدكم فقيراً فلبيدأ بنفسه ثم بمن يعول، ثم قرابته، فإن فضل شئ فها هنا وهنا" يشير إلى يمينه ويساره وأمامه وخلفه، وقيل: العفو ما زاد على ألف درهم بنفقه ويمسك الألف أو قيمتها ذهباً، وقيل: يمسك ثلث ماله وإن كان أهل ثمار أمسك ما يكفيه عامه، وإن كان يكسب أمسك ما يكفيه يومه، فشق ذلك فنزلة (الآية) الزكاة، وعن ابن عباس: العفو القليل الذى لا يتبين خروجه من المال، ومثله عن طاووس، وقال الحسن وعطاء: ما ليس إسرافاً ولا إقتارا، وعن مجاهد: العفو الصدقة عن ظهر غنى وقال قتادة: العفو أفضل المال وأطيبه، وقال الربيع: العفو ما طاب، من المال، وقيل: العفو ما لا إسراف فيه ولا إقتار، وقيل: لو كانت الآية فى الزكاة لبينت فيها وليس كذلك لجواز إن تبينه السنة، وأجاز أبو مسلم أن يكون العفو الزكاة، ذكرت إجمالا فى السنة الأولى، فكانوا يصدقون ما يفضل عن العام، ذلك تفويض فيها إلى رأيهم ثم فصلت فى الثانية وأجير أن تكون الزكاة ذكرت إجمالا فى الآية، وذكرت فى غيرها تفصيلا، وفى وقت إجمال الآية يعملون بالتفصيل، وقرأ أبو عمر وبرفع العفو، أى هو العفو.
{ كَذلِكَ }: متعلق بما بعد، أو نعتاً لمصدر محذوف، أى تبييناً ثابتاً كذلك أو تبييناً مثل ذلك، والإشارة إلى المذكور من البيان فى قوله تعالى: { قُلْ فِيهِمَا إثمْ كَبِيرٌ }، وقوله تعالى: { قل العفو } والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، ولا مانع من خطاب الواحد من جماعة هو منها قد خوطبت أيضاً، أو الجماعة المخاطبة بعد أيضاً لتأويلها بالواحد كالقبيل والجمع والفرق، وما ذكرته صحيح، لأن خطابه صلى الله عليه وسلم خطاب للجميع، ولأن خطاب من يصلح خطاب للجميع على سبيل الشمول البدلى وكأنه قيل:
{ يُبيِّن لكُم الآيَات }: تبييناً مثل ذلك التبيين الواقع فى جواب سؤالهم عن الخمر والميسر، وجواب سؤالهم عن الخمر والميسر، وجواب سؤالهم عن كم ينفقون.
{ لَعَلَكُم تَتَفكَّرُون }: فى الدلائل والأحكام.