التفاسير

< >
عرض

فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٢٠
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فى الدنيا والآخرة }: أى فى أمور الدنيا والآخرة، فتأخذوا بالأصلح الأسهل الأنفع فى العقبى، وتجتنبوا ما يضركم فيهما، وفى متعلق يتفكرون، أو ويبين، ولعل للتعليل. وقيل: المعنى لعلكم تتفكرون فى أن الدنيا دار بلاء وفناء، وأن الآخرة دال إقبال وبقاء وجزاء، وهو مروى عن ابن عباس رضى الله عنه، قال الغزالى: العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة فى لحظة فإنها مصيره ومستقره، فيكون له فى كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة، فأن نظر إلى سواد ذكر ظلمة اللحد، وإن نظر إلى صورة مروعة تذكر منكراً ونكيراً والزبانية، وإن سمع صوتاً هائلا تذكر نفخة الصور، وإن رأى شيئاً حسناً تذكر نعيم الجنة، وإن سمع كلمة رد أو قبول تذكر ما ينكشف من أمره بعد الحساب من رد أو قبول، وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل لا يصرف عنه إلى أمر الدنيا، فإذا نسب مدة المقام فى الدنيا إلى مدة المقام فى الآخرة، استحقر الدنيا إن لم يكن أغفل قلبه وأعميت بصيرته.
{ ويَسْألُونك عَن اليَتَامَى }: قال ابن عباس وابن المسيب: لما نزلت:
{ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } الآية، و { ولا تقربوا مال اليتيم } الآية. اعتزلوا اليتامى وتحاموهم، وتركوا مخالطتهم والقيام بأموالهم والاهتمام بمصالحهم، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شئ فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلا وطعاماً وشراباً، فعظم ذلك على ضعفاء المسلمين، حتى قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ما ملكنا منازل تسكنها الأيتام، ولا كلنا يجد طعاماً وشراباً يفردهما لليتيم، فنزلت الآية، أى يسألونك عن مخالطة أموال اليتامى.
{ قُلْ إصْلاحٌ لَهُمْ خَيْر }: إصلاح مبتدأ ولهم متعلق به وهو المسبوغ وخير خبر أى إصلاح أموالهم بتناولها ووضعها فى الموضع الأصلح لها، وبالتجر لهم فيها، وبيع ما يخلف فساده أو أكله، وتفويض مثله أو أجود، ومواكلتهم باعتبار الصلاح لهم خير من مجانبتهم ففى الحديث:
"اتجروا فى أموال اليتامى لا تأكله الزكاة، ومن لهُ يتيم زكا ماله خيراً من أن يتركه بلا زكاة" لأن الزكاة تنميه وتطهره، وقد قيل أيضاً: يتصدق عنه بالقليل من ماله نفعاً له دنيا وأخرى، ففى الآية رفع للمشقة عمن عنده يتيم، ونفع لليتامى، وقرأ طاووس: { قل إصلاح إليهم }، أى إيصال الصلاح إليهم خير.
{ وإنْ تُخَالِطُوهُم فإخْوانُكُم }: أى فهم إخوانكم، ومن حق الأخر أن يخالط الأخ ويشفق له، ويراعى له المصالح، ففى ذلك حث على مخالطتهم فى أموالهم نظرا للأصلح لهم، سماهم بإخوان فى الدين. وقيل: المراد بالمخالطة المصاهرة بالنكاح، لأن المخالطة بالنكاح أقوى من المخالطة فى المطعوم والمشروب والمسكن، فحمل لفظ المخالطة عليها أولى، فيدخل المخالطة بالمال بالأولى. قال أبو عبيد: هذه الآية عندى أصل لما يفعله الرفقاء فى الأسفار، فإنهم يتحارجون النفقات بينهم بالسوية، وقد يتعاونون فى قلة المطعم وكثرته، وليس كل من قل مطعمه تطيب نفسه بالتفضل على رفيقه، ولما كان هذا فى أموال التيامى واسعاً كان فى غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيق فيه الأمر على الناس. قلت: وفى وصف يتامى المسلمين بأنهم إخوان لنا فى دين الله، دليل على أنهم فى الولاية، وأنهم مثابون على أعمالهم، وإن الزكاة تخرج من أموالهم، وكذا سائر أطفال المسلمين.
{ واللّهُ يعْلَم المفْسِدَ }: فى أموالهم بالمخالطة أو فى أحوالهم مطلقاً، ومنها المخالطة فى أموالهم بالإفساد.
{ مِنَ المصْلِح }: فى أموالهم بالمخالطة، أو فى أحواله مطلقاً، ومنها المخالطة فى أموالهم بالإصلاح، وذلك وعيد للمفسد ووعيد للمصلح يجارى على الإصلاح والإفساد.
{ وَلوْ شَاءَ اللّهُ }: إعتاتكم، أى إلقاءكم فى العنت وهو المشقة وتكليفكم بما يشق.
{ لأعْنَتَكُم }: أى كلفكم بالمشقة بأن يحرم عليكم مخالطة اليتامى فى أموالهم مع إيجاب القيام بهم، وقرئ بتليين همزة أعنت، وقرئ بحذفها بحركتها شذوذا أو بعد نقل فتحها لللام بعد إسقاط فتحه اللام، ونسب أبو عمرو الدانى التليين إلى البرى، برواية أبى ربيعة عنه.
{ إنَّ اللّهَ عِزِيزٌ }: غالب لا يرد عن الإعنات لو شاءه.
{ حَكِيمٌ }: فى صنعه، وعن بعض المفسرين:
{ ولو شاء الله لأعنتكم } أى أجهدكم فلم تقوموا بحق، ولم تؤدوا فريضة، وعن مجاهد وأن تخالطوهم فى الرعى والإدام، ولو شاء الله لحرم عليكم الرعى والإدام، ولعل هذا منه تمثيل.