التفاسير

< >
عرض

لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٢٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لا يُؤاخِذُكُم اللّهُ باللَّغْوِ فى أيمانِكُمْ }: أى بالساقط عن اعتقادكم بأن يغلط لسانه إلى ما لا يريده، أو يتعمد لفظاً ولا يقصد به حلفاً جاهلا لمعناه أو لا، كقول العرب فى التأكيد لا والله، وبلى والله، ولا يقصدون الحلف وكذا أجرى لا والله فى لسان بعض البربر وبلادنا هذه للتأكيد ولا يقصدون اليمين، ويدل لذلك المقابلة بقوله: { { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } وبقوله:
{ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُم بمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكم }: أى بما حلفتم به من قلوبكم بألسنتكم قاصدين به حقيقة الحلف، ولغو الكلام ما سقط منه ولا يعتد به، وكذا من غير الكلام، ولذلك قيل لما لا يعتد به فى الدية، وأولاد الإبل لغو، ويدل لتفسير اللغو بما لا يعتمد اليمين فيه من القلب قوله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد: العتاق والطلاق والنكاح" فإنهم ولو اختلفوا فى مفهوم لكن يتبادر إنما سوى الثلاثة هزله لا يكون جداً، وعن ابن عباس وعائشة والشعبى وأبى صالح ومجاهد وعطاء والشافعى: لغو اليمين قول الرجل فى درج كلامه واستعجاله فى المحاورة لا والله وبلى والله بلا قصد حلف سوى ذكر ذلك فى حق أمر مضى، أو مستقبل أو حال، وعلى ذلك فالمؤاخذة المنفية العقاب والكفارة، أى لا إثم ولا كفارة فى لفظ اليمين الذى لا قصد معه، ولكن يؤاخذكم بالعقوبة والكفارة فى اليمين المعتمدة من قلوبكم فى الكذب عما مضى أو بالعقوبة فى اليمين المعتمدة فى ترك الواجب، أو إيقاع المعصية، ولم يوجبها أبو حنيفة فى الكذب عما مضى عمداً، وبالكفارة فى اليمين المباحة إذا حنث، وقيل يحنث نفسه فى اليمين على المعصية، وتلزمه الكفارة، وتلزمه فى الحنث بطاعة لا تجب، وقال أبو حنيفة: اللغو أن يحلف فى حق أمر مضى ثم يظهر أن الأمر على خلاف ما حلف عليه، فعنده لا كفارة فى هذا، وعندنا وعند الشافعى تلزمه، ولزمت عندنا وعنده الكفارة فى القاموس، وهو الحف عمداً على خلاف ما عليه الأمر فى الماضى أو فى الحال، خلاف لأبى حنيفة، زاعماً أنه لا حنث فى ذلك والكفارة إنما تلزم فى الحنث باليمين المنعقدة، لأن اليمين مبناها على التقوية وتطلق أيضاً على نفس القوة، والتقوية إنما تفعل فيما يستقبل، والجواب أن الحالف يميناً غموسا قد قوى كذبه بالحلف، وحنث بعدم مطابقته يمينه للواقع، وعدم المطابقة هى نفس علة الكفارة فى المستقبل، وزعم أبو حنيفة أنه تلزم الكفارة من قال: لا والله، وبل والله، ولو لم ينو اليمين إذا وقع خلاف ما قال مسند لا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها" الحديث. وقد مر إذ لم يذكر فيه فرقاً بين الجد والهزل، وقد مر أن حديث "ثلاثة جدهن جد" .. إلخ، دليل على أنه لا كفارة فيه، وزعم أن كفارة الغموس التوبة، وأن التوبة هى المراد بالكفارة فى قوله فى رواية: "فليكفر بيمينه ثم ليأت الذى هو خير" فى هذه الرواية الطاعة وغيره المعصية، وكفارة الحلف بها التوبة وهو يحمل الخصوص على العموم، فيعمل بالعام وهو خلاف الصحيح، وقيل لغو اليمين أن يحلف ألا يفعل خيراً فيجب أن يحنث نفسه فى الفرض أو يندب فى المندوب، فلا يعاقب فى الحنث فى الآخرة، بل بالكفارة فقط، وقيل لا كفارة أيضاً، وكفارته التوبة، ولكن يؤاخذكم فى الغموس بالعقاب والكفارة، وقال أبو هريرة والحسن ومالك وجماعة: لغو اليمين ما حلف به على علمه فكشف الغيب خلافه، وقال زيد بن أسلم، لغو اليمين دعاء الرجل على نفسه. وقال الضحاك: لغو اليمين هو اليمين المكفرة يحنث فيكفر فيلقى عنه الحنث بالتكفير، وكذا الحنث، فإنه قيل إثم فيكفره الكفارة، ويروى أن المؤاخذة فيما كسبت قلوبكم عقوبة الآخرة فى الغموس، ويروى عن ابن عباس فى قوله تعالى: { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم }، هو اليمين الغموس، وعن مالك: اللغو اليمين على الكذب عمداً هو ذنب، وتلقى فيه الكفارة، ومؤاخذته أكبر منه، ويؤاخذ بها فيما عقدت أيمانهم غيره.
{ واللّهُ غَفُورٌ }: للغو.
{ حَلِيمٌ }: إذ لم يعجل بالعقوبة على اليمين الغموس تربصاً بالتوبة، ولا يعجل بالعقوبة على العصاة، ولا يقطع إنعامهُ عنهم.