التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٢٣٠
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَإنْ طَلَّقَها }: مر أن هذا تفضيل للطلاق الثالث فى قوله { { أو تسريح } واعترض الخلع بينهما للإشارة إلى أن الطلاق قد يقع بعضو وهو الفداء بالفداء من جملة الثلاث، وكأنه قيل ثم إن طلقها بعد التطليقتين:
{ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ }: أى من بعد هذه التطليقة الثالثة.
{ حَتَّى تَنكِحَ }: تتزوج.
{ زَوْجاً غَيْره }: والسنة قيدت طلاق التزوج فى الآية بالمسيس، ألا يكون بقصد التحليل، أما المسيس فلما روى
"أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى، وإن ما معه مثل هدبة الثوب: فقال صلى الله عليه وسلم: أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ قالت: نعم. قال: لا حتى يذوق عسيلتك" والرفاع بكسر الراء والزبير هذا بفتح الزاى، وبت الطلاق بأن أوقعه ثلاثاً، وهدبة الثوب ما يتدلى فى طرفه من غزل مسترخياً، تريد أن ذكره مسترخ كذلك، وصرح بالثلاث فى رواية من روى، " وإنما معه مثل هدبة الثوب، وأنه طلقنى قبل أن يمسنى أفأرجع رفاعة بلا إذن عمى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ قالت: نعم. قال: لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك فلبث ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجى مسنى فكذبها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: كذبت فى الأول فلن أصدقك فى الآخر فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتت أبا بكر واستأذنت فقال: لا ترجعى إليه، لأنى قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته، وقال لك ما قال، فلما قبض أبو بكر رضى الله عنه أتت عمر رضى الله عنه، وقالت له؟ أفأرجع إلى زوجى الأول، فإن زوجى الأخير قد مسنى. فقال: لئن رجعت لأرجمنك" ، واسم المرأة تميمة، وقيل عائشة، وأبوها عبد الرحمن بن عتيك القرلجى، ورفاعة هو ابن عمها، وهو رفاعة بن وهب بن عتيك القرلجى، والعسيلة تأنيث العسل على لغة من يؤنث العسل، ولهذا رد التاء فى تصغيره كيدويدية، فإنّ الثلاثى المؤنث المجرد عن التاء يؤنث بها إذا صغر، والعسيلة كناية عن لذة الجماع، والمراد غيبوية الحشفة ولو بلا لذة، وذكر اللذة إنما هو نظر للغالب، وليس المراد بالعسيلة النطفة، فإنها للأول، ولو بلا إنزال من الثانى، وقال الحسن بن أبى الحسن وحدة: لا تحل إلا بالإنزال. وفى رواية: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ترجع إلى زوجها فقال: هل غشيك عبد الرحمن؟ فقالت: ما كان ما عنده بأغنى عنه من هدبة ثوبى. فقال النبى: لا. حتى تذوقى عسيلة غيره أى غير زوجك الأول، أو غير الثانى، إن أيست من الثانى، فقالت: يا رسول الله قد غشينى فقال: اللهم إن كانت كاذبة فاحرمها إياه أى زوجها الأول، فأتت أبا بكر بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمر بعده ولم يرخِّصا لها" .
وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلّين له حتى يجامعك ويذوق من غشيانك" ندمت على قولها أن ما معه كهدبة من ثوبى. فقالت: إنه قد طاف بى، فقال لا أصدقك الآن، وما ذكرته من تفسير النكاح بالتزوج وقول الجمهور. وقيل هو هنا الوطء فيكون المس أيضاً مذكورا فى القرآن شرطا، والعقد يفيده قوله: { زوجا غيره } واستدل لهذا بأن المرأة لا تزوج نفسها، بل الولى ويرده أن النكاح بمعنى التزوج يسند إلى المرأة كالرجل، ولو كان لا يصح بلا ولى، لأنه يرضاها كما يسند إليها التزوج، ويرده أيضاً أن إسناد النكاح بمعنى الوطء إلى المرأة غير معتاد، لأنه لا يقال واطئة بل موطوءة.
وروى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير: تحل للأول بمجرد العقد، ويرده الأحاديث فى شرط الوطء، وأما قصد التحليل فلا تحل به للأول ولو طال مقامها مع قاصده وجامعها كثيراً، والحكمة فى شرط المس وعدم القصد بالنكاح التحليل للأول الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثاً، والرغبة فيها، فإذا تزوجها ووطئها لقصد التحليل أو تزوجها بدون قصده ووطئها بقصده، أو تزوجها بقصده ووطئها بدون قصده لم تحل للأول عند الأكثر، وإن تزوجها بدون قصده ووطئها بقصده ثم وطئها بلا قصد، حلت للأول، فإذا تزوجها بقصد التحليل فهو نكاح فاسد عندنا، وعند مالك وأحمد، وإن مسها حرمت عليه عندنا، وعن ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله المحلَّل له" وإنما يلعن المحلَّل له إذا تواعد مع المحلِّل على ذلك، أو علم بقصد التحليل، ومع ذلك ردها، وروى أن المحلِّل تيس مستعار. ويدل على أنه لا تحل له ولو لم يتواعد إذا قصد الثانى التحليل ما روى أن رجلاً أتى إلى ابن عمر فقال: إن رجلا طلق أمرأته ثلاثاً، فانطلق أخ له، من غير مؤامرة، فتزوجها ليحللها للأول [أفتحل؟] فقال: لا. إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وزعم الشافعى وأبو حنيفة أنهُ إذا كان التحليل فى عزمهما معاً ولم يصرحا به صح النكاح، وحلت للأول على كراهة، ويرد ما ذكرته عن ابن عمر، وكذا قال عثمان لا إلا نكاح رغبة غير مدالسة، وما روى عن عمر رضى الله عنه لأوتى بمحلِّل ولا محلِّل له إلا رجمتهما.
{ فَإنْ طلَّقَها }: الثانى.
{ فَلاَ جُناحَ عَليْهما }: أى عليها وعلى الأول.
{ أن يتراجعا }: يرجع كل إلى الآخر بنكاح جديد وصداق بعد العدة من الثانى.
{ إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ }: التى أوجبها بينهما من الحقوق، وكذلك إن فارقت الثانى، بموته أو بفداء أو تحريم تحل للأول إن مسها الثانى، وإن لم يظنا وتراجعا صح النكاح، ولم يحسن لهما ذلك، لأن فيه تعرضا للنشوز والمجازاة عليه بما لا يجوز.
وعن الحسن هذه الآية فى المفتدية، سمى الفداء طلاقا، وأجاز الرجعة فيه، وعن ابن عباس لا يرى الخلع طلاقاً ويراه فرقة بلا طلاق، والمراجعة إنما هى من الطلاق، ويقول قال الله: { فإن طلقها } ويروى
" أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لثابت بن قيس: شاطرها الصداق وطلقها" .
{ وَتِلْكَ }: الأحكام المذكورة.
{ حُدُودُ الله يُبَيِّنَها لِقْومٍ يَعْلَمونَ }: العلم الحقيق وهو المعمول بمقتصاه وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون ببيان أحكام الله تعالى.