التفاسير

< >
عرض

حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ
٢٣٨
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ }: الخمس بأدائهن أول أوقاتهن بطهر وخشوع وإخلاص ومداومة والخطاب للناس كلهم، قال ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم: "أمر بعبد من عباد لله أن يضرب فى قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله تعالى ويدعوه حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه أفاق فقال: على ما جلدتنى؟ قال لأنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت على مظلوم فلم تنصره" . وعنه صلى الله عليه وسلم: "أن الصلاة ثلاثة الطهر ثلث والركوع ثلث والسجود ثلث فمن أداها بحقها قبلت منه وقبل منه سائر عمله، ومن ردت عليه صلاته يرد عليه سائر عمله" ويروى عن النبى صلى الله عليه وسلم: "أول ما ينظر فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه نظر فيما بقى من عمله، وإن لم تقبل منه لم ينظر فى شئ من عمله" قال أنس بن حكيم الضبى: قال لى أبو هريرة: إذا أتيت أهل معرك فأخبرهم أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول ما يحاسب به العبدُ المسلم الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قبل انظروا هل من تطوع، وإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك" ، وكذا عن تميم الدارى، إلا أنه قال: "ثم الزكاة مثل ذلك تؤخذ الأعمال على حسب ذلك" ونظرت كيف أعقب الله آيات النكاح والطلاق وتوابع ذلك بالمحافظة على الصلاة، وظهر لى بعد إفراغ وسعى أنه أعقب بذلك لعظم أمر النكاح والطلاق وتوابعهما واشتغال النفس، فحذرنا مولانا سبحانه وتعالى أن نشتغل بشئ عن المحافظة على الصلوات الخمس، وأكد ذلك بالأمر بها، ولو حال الخوف فى قتال أو دون قتال فى ركوب أو مشى، ثم رأيت القاضى ذكر ما يقرب من ذلك، والحمد لله إذ قال: ولعل الأمر بها فى تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها وعد المحافظة بعلى لتضمنها معنى المداومة أو المراقبة، وصيغة المفاعلة هنا لموافقة المجرد، كأنه قيل احفظوا على الصلوات أى دوموا أو للمبالغة فى الحفظ لها، وذلك أن الفعل فى مقابلة من يفعل يكون أقوى لزيد اجتهاد فاعل حينئذ ليلا يغلب، وأما ما قيل من أن المفاعلة على بابها بل أن يكون المعنى: احفظوا الصلوات يحفظكم الله أو أن يكون المعنى احفظوا الصلوات تمنعكم من المعاصى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } أو احفظوا الصلاة تحفظكم من البلايا استعينوا بالصبر والصلاة إنى معكم، لأن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة أى بالنصر، إذ يحفظها بتنوَّر القلب بنور يسهل أداء الفرائض وترك المعاصى، ولا يصح ذلك من جهة القاعدة القريبة، ولو صح ذلك معنى حقا لأنه لم يقل الله جل وعلا: حافظوا الصلاة ولا حافظوا الله، وظهر لى الآن إبقاء المفاعلة على بابها بأن يكون المعنى الأمر بأن يتبادروا فى محافظتها، ويجتهد كل واحد أن يزيد على الآخر بالمحافظة أو بالسبق فيها ليرى الله أيهم أحسن عملا.
{ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى }: عطف خاص على عام لمزية هذا الخاص وفضيلته لأوصاف ليست فى غيره، حتى كأنه ليس من جنس ذلك العام تنزيلا للتغاير فى الوصف منزلة التغاير فى النداءات والوسطى تأنيث الأوسط الذى اسم تفضيل من الوسط بمعنى العدل والخيار كقول من قال فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم*

* يا أوسط الناس طرا فى مفاخرهم يا أكرم الناس أما برة وأبا *

وهذا يصح منه بناء اسم التفضيل بأنه يفيد الزيادة، أى والصلاة التى هى أعظم خيرا أو الوسطى من الوسط بمعنى المتوسط بين الشيئين، وهذا لا يبْنى منه اسم التفضيل، لأنه لا يقبل الزيادة فليس الوسطى محل هذا مؤنث اسم التفضيل، بل بمعنى المتوسطة بين صلاتين خالفتاها بشئ، فيكون شاذا قياسا فصيحا استعمالا بأن الفعلى بالضم والإسكان والقصر مقيس فى تأنيث اسم التفضيل الباقى على معنى التفضيل أو الخارج عنه، فعن ابن عباس: الصلاة الوسطى صلاة الصبح، قال الشيخ هودرحمه الله : ويقول ابن عباس هذا بأخذ، وعليه نعتمد وبه قال عمر وابنه عبد الله ومعاذ وجابر بن زيد وعطاء وعكرمة ومجاهد والربيع بن أنس، ومالك والشافعى، ونسب إلى على بن أبى طالب. قال مالك فى الموطأ: بلغنى أن على بن أبى طالب وابن عباس كانا يقولان: صلاة الوسطى صلاة الفجر، وكذا رواه الترمذى عن ابن عباس وابن عمر، وعن مجاهد أنها صلاة الفجر بأنها بين صلاتى الليل وصلاتى النهار، وأنها أيضا بين صلاتى جمع وصلاتى جمع بين العشا والمغرب اللتين تجمعان، والظهر والعصر اللتين تجمعان، وهى لا تجمع إلى غيرها، ويزداد إلى ذلك أنه لا يدخلها تقصير السفر، ولكن شاركتها فى هذا الأخير المغرب تقصير الخوف مع الإمام عند بعض، فتقتصر عن ثلاث إلى اثنتين عنده، ولا تتم فى حق الإمام ولا المأموم عنده ثلاثاً، بخلاف الفجر فإنها لا تنقص عنه اثنتين، بل يصلها الإمام اثنتين واحدة بطائفة، وأخرى بأخرى فقط أو تزيد كل طائفة ركعة وحدها، فقد خصت بعدم هذا التقصير عن المغرب أيضا ولأنها فى وقت مشقة لبرد الشتاء وطيب النوم فى الشتاء، وفى الصيف فتور الأعضاء وكثرة النعاس وغفلة الناس عنها، فخصت من العموم بأنها معرضة للضياع، ولقوله تعالى: { وقوموا لله قانتين } والقنوت طول القيام، ولا صلاة من الخمس تساوى الفجر فى كثرة القراءة، ولتخصيصها بالذكر فى قوله تعالى: { وقرآن الفجر } أى صلاة الفجر، وقوله { إن قرآنَ الفجر كان مشهوداً } فذكر أنها تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، فهى يكتبها ملائكة الليل فى ديوانهم، وملائكة النهار فى ديوانهم، بأنهم كلهم شاهدوها فهذا مزيد فضل وهى أيضا متصلة باستغفار الأسحار، فهى أقرب للقبول. قال الله تعالى { والمستغفرين بالأسحار } ختم طاعتهم باستغفار الأسحار، وورد أن التكبيرة الأولى منها فى الجماعة خير من الدنيا وما فيها، وقال زيد ابن ثابت وأسامة وأبو سعيد الخدرى، وعائشة فى رواية عنها وعبيد الله ابن شداد وأبو حنيفة فى رواية عنه، وابن عمر الصلاة الوسطى صلاة الظهر، قال ابن عمر هى صلاة الظهر لأنها فى وسط النهار وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهاجرة، أى وقت شدة الحر، وهو أيضا وقت القيلولة ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها، أى فكانت أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل العبادة أحزمها" أى أشدها صعوبة، فنزلت المحافظة عليها خصوصاً، وقيل هى الوسطى لأن قبلها صلاة من الليل وصلاة من النهار، وبعدها صلاة من الليل وصلاة من النهار، ولأنها وسط النهار، ولأنها تأتى بين برد الفجر وبرد العصر زمان البرد، وأخرج مالك فى موطئه والترمذى عن عائشة وزيد بن ثابت وأبو داود عن زيد "أن الصلاة الوسطى صلاة الظهر" قال الحسن: الصلاة الوسطى صلاة العصر وهو قول على وابن مسعود وأبى أيوب وأبى هريرة وابن عمر وابن عباس وأبى سعيد وعائشة فى رواية عنه، وعبيدة السلمانى وابراهيم النخعى وقيادة والضحاك والكلبى ومقاتل وأبى حنيفة فى رواية عنه، وأحمد وداود وابن المنذر والشافعى فى رواية عنه وهو قول أكثر الصحابة وجمهور الأمة. قال الثعالبى: وبه أقول وذلك أنها فى وقت اشتغال الناس أمرهم بالمحافظة عليها لئلا ينقروها نقراً أو تشتغل قلوبهم فيها باشتغال الدنيا، قيل أيضاً فى اجتماع الملائكة، وهى متوسطة بين صلاتى النهار وصلاتى اليل. روى "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتغل هو والمسلمون بحفر الخندق حول المدينة حين جاءت الأحزاب، ففاتهم صلاة العصر، فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم ناراً" وعن ابن مسعود رضى الله عنه: "حبس المشركون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقلوبهم ناراً" وملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً، أو حشى الله أجوافهم وقبورهم ناراً" وفى رواية "بيوتهم ناراً" وعن على بن أبى طالب أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال يوم الأحزاب وفى رواية يوم الخندق والمعنى واحد: "ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس" وفى رواية: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" وفى رواية: "ثم صلاها بين المغرب والعشاء" وعن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" وعن حفصة رضى الله عنها لما كتب لها المصحف إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أمليها عليك، كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فأملت عليه: والصلاة الوسطى صلاة العصر، وعن أبى يونس مولى عائشة: أمرتنى عائشة أن كتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فأذنى { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ولما بلغت أذنتها فأملت علىَّ { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }، أو صلاة والعصر { وقوموا لله قانيتن } قلت سمعت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والواو فى صلاة العصر لعطف المرادف والمرادفة المعنوية، وكذا عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم، والصلاة الوسطى وصلاة العصر، وعن ابن المليح كنا مع بريدة فى غزوة فقال فى يوم ذى غيم: بكروا بصلاة العصر، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله" ومعنى التبكير بها تقديمها فى أول وقتها، وعن ابن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذى تفوته صلاة العصر فكأنه وتر أهله وماله" أى فقدهما، وعن الربيع بن حبيب، عن جابر بن زيد، عن أنس بن مالك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فاته العصر فكأنما وتر أهله وماله" قال الربيع: سلب، وقيل نقص. وروى أبو مالك الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" كذا روى أبو هريرة، وقال قبيصة بن ذؤيب: الصلاة الوسطى صلاة المغرب وذلك أنها بين بياض النهار وسواد الليل، وأما صلاة الفجر فأقرب بالليل وأدخل إليه لشدة الظلام فيها، أو أنها تزيد بركعة على الفجر وتنقص بركعة على سائر الصلوات، وأنها لا تقصر فى السفر، وأما الفجر فلو كان لا يقصر لكن ليس فيه ما يقصر، لأن التقصير للسفر ينتهى إلى ركعتين، والفجر ركعتان، وأنها وتر النهار، وأن صلاة الظهر هى الأولى لأنها أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الخمس، فالمغرب هى الوسطى، أعنى المتوسطة، وأنها بين صلاتى سر وصلاتى جهر، والجهر فى العشاء أكثر منه فى المغرب، وحكى أبو عمر بن عبد البر محدث الأندلس عن فرقة: أنها صلاة العشاء الأخيرة، وأراد فرقة من المتأخرين، وذلك أنها بين صلاتين لا تقصران واقعتين بين طرفى النهار، وأنها أثقل صلاة على المنافقين. وعن عثمان بن عفان عن النبى صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة العشاء الأخيرة فى جماعة كان كقيام نصف ليلة" وعن أبى الدرداء، رضى الله عنه، أنه قال فى مرض موته: اسمعوا وأبلغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصلاتين فى جماعة: العشاء والصبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرفقكم. وعن أبى هريرة من طريق جابر: "ولو يعلموا ما فى العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً" وذلك من حديث، وقيل: الصلاة الوسطى صلاة الجمعة، وقيل صلاة الوتر، وقيل الصلوات الخمس كلها، والصلاة قبلها الفرض والنفل، ثم خص الخمس بالذكر للمزية، وقيل غير معلومة فى الخمس لنجتهد فى الصلوات الخمس كلهن، كما أخفى ليلة القدر، والاسم الأعظم، وساعة الإجابة يوم الجمعة، ورضا الوالدين، والصغيرة، ووقت الموت، وما يتقبل به عنه أو يشقى به، ليجتهد بالطاعة كلها، وينفر عن المعاصى كلها فى كل وقت، وفى الوقت المحدود بما خص به، واختاره جماعة. فعن ابن سيرين: أن رجلا سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى؟ فقال للسائل: واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظاً على الوسطى، ثم قال: أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ فقال السائل: لا. فقال الربيع: إن كنت حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى. قلت: زيد بن ثابت والربيع بن خيثم قد علما بالرواية فيها لكنهما أبهماها على السائل، ليجتهد بالكل.
وأصح الأقوال صلاة الفجر، وبه قلنا، ثم صلاة العصر، وبه قال الجمهور، وقرأ عبد الله بن مسعود: وعلى الصلاة الوسطى، وقرأت عائشة: والصلاة الوسطى بنصب الصلاة على المدح، أى وأخص الصلاة الوسطى.
{ وَقُومُوا للّهِ قانتِينَ }: ذاكرين له فى القيام بالقرآن، وذلك فى الصلاة والقنوة الذكر فى القيام، هذا هو المراد هنا بالقنوت، وإلا فالقنوت أيضاً الذكر فى غير القيام، كما قال الله عز وجل:
{ أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } وبذا فسر ابن عباس: { وقوموا لله قانتين }، مستدلا بهذه الآية { آمَّن هو قائم } الآية. وعليه فمعنى { قوموا } اشرعوا فى الصلاة، وكونوا فيها. وعن مجاهد: { قانتين } خاشعين بالقلب والجوارح هيبة لله عز وجل، وكان العلماء إذا قاموا للصلاة يهابون الرحمن، أى يلتفتوا، أو يقبلوا الحصى، أو يعبثوا بشئ، أو يحدثوا أنفسهم بشئ من أمر الدنيا، إلا ناسين حتى ينصرفوا، وكانوا يتكلمون فى الصلاة حتى نزلت الآية، كما رواه زيد بن أرقم: كنا نتكلم فى الصلاة حتى نزلت، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال ابن عباس وابن المسيب: المراد القنوت فى الصبح والوتر وهو الدعاء فى صلاة الصبح والوتر، وكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك على رعل وذكوان وعصية - أحياء من سليم - ثم أمر بترك ذلك، والأولى تفسيره بطول القيام فى الصلاة إذا أمكن الإطالة فيها. أو عن جابر بن عبد الله عنه صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة طول القنوت أو بالطاعة" أى مطيعين لله عز وجل كما قال الشعبى، قال الضحاك: كل قنوت فى القرآن فإنما تعنى به الطاعة، وقاله أبو سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم، وكذا قال عكرمة عن ابن عباس: { قانتين } مطيعين، وكل أهل دين غير الإسلام يقومون فى صلاتهم عاصين.