التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
٢٤٨
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وقَالَ لَهُم نَبِيُّهم إنَّ آيةَ مُلْكِهِ أنْ يَأتِيكُم التَّابوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّنْ رَبكُم وبَقيَّة ممَّا تَركَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارونَ تَحْملُه الملائِكَةُ }: وقيل جعل لهم نبيهم ذلك آية تنبيهاً وتأكيداً ولم يسألوه آية وهو ظاهر الآية، وقيل قالوا له: إن صدقت فأتنا بالتابوت من جالوت. الآية: العلامة، والتابوت: الصندوق، وهو فعلوت بفتح الفاء والعين، من تاب يتوب، أى رجع. سمى لأنه يرجع إليه ما يخرج منه بنفسه أو بدله أو قيمته أو ثمنه، ولأن صاحبه يرجع إليه أصله توبوت بفتح الواو الأولى، قلت الفاء لتحركها بعد فتحته، فالزائد الواو والتاء الآخران، وليس وزنه فاعولا على أن يكون الزائد الألف بعد التاء والواو، وبعد الباء، فتكون التاء الأولى فاءه والأخرى لامه، والباء بينهما عينه، لأنه يلزم عليه كونه ألفا واللام من جنسه واحد، وذلك قليل كسلس وقلق، فلا يحمل عليه لقلته ولأنه لا تعرف فى العربية مادة تبت بناءين مثناتين، وقرأ أبىّ وزيد بن ثابت التابوه بهاء مضمومة وهى لغة الأنصار، كأنهم جعلوا الهاء بدلا من التاء لاتحادهما فى الهمس، وكونهما من حروف الزيادة، وذلك الصندوق من خشب الشمشاء، وهو خشب يتخذ منه المشط يموت بالذهب، خلقه الله بلا عمل نجار فيه، وقيل: هو من عود الصندل كذلك، وكان قدر ما يحمل، وقال وهب بن منبه: كان نحو ثلاثة أذرع طولا فى ذراعين عرضا، وقيل ذراعين وشبرا فى ذراعين وشبر، وكانت فيه صورة الأنبياء من آدم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مصورة فى خرق من حرير، وقد ذكرتها فى رد الشرود إلى الحوض المورود مفصلة أنزله الله على آدم من الجنة، فكان عنده ثم عنده شيث وتوارثه الأنبياء إلى أن صار عند إبراهيم، ثم عند إسماعيل إذ كان أكبر بنيه، ثم عند يعقوب؛ وتوارثوه إلى أن صار عند موسى يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، وتداوله الأنبياء بعده من بنى إسرائيل إلى أن وصل أشموئيل، وكان إذا اختلف بنو إسرائيل فى شئ تكلم وحكم بينهم، وإذا حضر القائل قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، وقيل كانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو، فإذا سمعوا منه صيحة استيقنوا النصر، ولما عصوا وفسدوا سلط عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه، وذلك أنه كان عيلا، وهو الحبر الشيخ الذى ربى أشموئيل لهُ ابنان، وهو حبر بنى إسرائيل وصاحب قربانهم. فى زمانه فأحدث أبناه فى القربان شيئا لم يكن فيه وذلك أنه يكون لصاحب القربان ما يقبض عليه كلابان فاتخذ أبناه كلاليب، وكان النساء يصلين فى بيت المقدس فيتشبهان بهن، فأوحى إلى نبيهم وزعم بعض أنه أمشوئيل إن انطلق إلى عيلا، وقيل لهُ: منعك حب الولد من أن تزجر ابنيك أن يحدثا فى قربانى وقدسى شيئا وأن يعصيانى فلا نزعنك من القربان، فلا يكون بيدك ومن ولدك، ولأهلكنك وإياهم، فأخبره أشموئيل بذلك، ففزع وسار إليهم عدوهم من حولهم، فأمر عيلا ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا، فخرجا فأخرجا معهما التابوت، فملا خرجوا جعل يتوقع الخبر، فجاءه رجل فقال إن الناس قد انهزموا، وقد قتل ابناه، قال فما فعل التابوت؟ قال: أخذه العدو، وكان قاعداً على كرسيه فشهق ووقع على قفاه فمات فمرج أمر بنى إسرائيل، وتفرقوا إلى أن بعث الله طالوت ملكا، والعدو لما أخذ التابوت أتوا به قرية من قرى فلسطين يقال لها أزدود، فجعلوه فى بيت أصنام لهم تحت الصنم الأعظم، فأصحبوا من العدو الصنم تحته، فأخذوه ووضعوه تحت الصنم، وسمروا قدمى الصنم على التابوت، فأصحبوا وقد تقطعت يد الصنم ورجلاه، فأصبح ملقى تحت التابوت، فأصبحت أصنامهم منكسة، فأخرجوا التابوت من بيت الأصنام، ووضعوه فى ناحية من مدينتهم ودفنوه فى مزبلة فى تلك الناحية، وأخذ أهلَ تلك الناحية وجعٌ فى أعناقهم حتى هلك أكثرهم، فقال بعضهم لبعض: أليس قد علمتم أن إله بنى إسرائيل لا يقوم لهُ شئ فأخرجوه إلى قرية أخرى، فبعث الله إلى أهلها فأراً فكانت الفأرة تبيت مع الرجل فيصبح ميتاً قد أكلت ما فى جوفه، فأخرجوه إلى الصحراء ودفنوه، فكان كل من تبرز هناك أخذه الباسور هناك والقولنج، وقيل أصاب رجالهم ونساءهم الباسور والفنولنج وهو فى مدينتهم، وهلكت به خمس مدن من مدائنهم، قيل تحيروا فيه، فقالت لهم امرأة من بنى إسرائيل، كانت عندهم من بنات الأنبياء: لا تزالون ترون ما تكرهون ما دام التابوت فيكم هكذا، فأخرجوه عنكم فأتوا بعجلة بإشارة تلك المرأة وحملوا عليها التابوت، ثم علقوها بثورين وضربوا جنوبهما، فأقبل الثوران يسيران قد وكل الله بهما أربعة أملاك يسوقونهما حتى وقفا على أرض بنى إسرائيل، ووضع التابوت فى أرض فيها حصاد لبنى إسرائيل بعد ما قطعت حبالها، ورجع إلى أرضهما ولم يرع بنى إسرائيل إلا التابوت عندهم، فكبروا وحمدوا الله وقيل قال بعضهم: ما أصابنا ذلك إلا بهذا التابوت، فهل لكم أن تردوه إلى بنى إسرائيل، فقالوا لا نفعل، ولكن نحمله على بقرة ونحبس عجلها ثم نوجهها إلى صفوف بنى إسرائيل، فإن أراد الله أن يرده إلى بنى إسرائيل وإلا رجعت إلى عجلها فنزل ملكان، تأخذ أحدهما بقرنها وساقها الآخر حتى دخلت صفوفهم، وقال الله: { تحملهُ الملائكة }، والحامل الثوران لأن من حفظ شيئا فى الطريق على دابة أو سفينة يوصف بأنه حمله، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: نزلت به الملائكة من السماء وبنو إسرائيل ينظرون حتى وضعوه بين أيديهم، عند طالوت، وذلك أنهم رعوه من العمالقة، وجاءوا به من جهة السماء، وقال الحسن: رفع للسماء لما عصت بنو إسرائيل فرفع لطالوت حينئذ. وقال قتادة والربيع كان فى التيه خلفة موسى عند يوشع، فجاءت به الملائكة منه حتى وضعوا طالوت فى داره، وبرجوعه أقروا بملك طالوت، وإسناد الآيتين للتابوت مجاز لأنه لم يأت بنفسه. والسكينة: فعيلة من السكون، أى سكون وطمأنينة لكم، فالهاء فى فيه للإتيان، أى فى إتيان التابوت سكون قلوبكم إلى تملك طالوت عليكم، ويجوز عود الهاء إلى التابوت على معنى أنه تسكن قلوبهم به إذا أحضروه فى القتال، وقدموه ولا يفرون، فإذا كانت قلوبهم تسكن به صح أن يقال فيه سكينة، وكأنه قيل فى حضوره قتالكم سكينة أو على معنى أن فيه فى داخله شيئا يسمى سكينة تسكن إليه قلوبهم، فقيل هو شئ كرأس هرة إذا أنّ سمع من التابوت أنين كصوت الهرة، وزف نحو العدو، وهم يمضون معه ما مضى فإذا استقر ثبتوا خلفه، وقال مجاهد صورة كانت فيه من زبرجد وياقوت لها رأس، وذنب كرأس الهرة وذنبها. وجناحان فتان فيزف التابوت نحو العدو، ويتعبونه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر، وإذا سار ساروا أو وقف وقفوا، وقال على بن أبى طالب: السكينة ريح هفافة أى سريعة المرور لها رأسان ووجه كوجه الإنسان، تخرج من التابوت فتمر على الأعداء فتفرقهم، وقال ابن عباس: طشت من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء وهى من الجنة، وقال وهب: هو روح من الله تتكلم إذا اختلفوا فى شئ أخبرتهم ببيان ما يريدون، وقيل هى صور الأنبياء، وقال عطاء هى ما يعرفون من الآيات التى يسكنون إليها وما فسرت به السكينة أولا هو أولى، لأنه يشتمل ذلك كله وغيره، وبه قال قتادة والكلبى، وكل ما سكنوا إليه فهو سكينة، فهم سكنوا بإتيانه وبحضوره، وبما فى داخله من بقايا الأنبياء ولم يرد فيه نص صريح، وقيل: التابوت القلب والسكينة ما فيه من العلم والإخلاص وإتيانه مصيره مقراً للعلم والوقار بعد أن لم يكن كذلك، والقلب يسمى بيت الحكمة ومسقط العلم وتابوته وصندوقه، وجملة { فيه سكينة } حال من التابوت، و{ من ربكم }: متعلق بيأتيكم، أو بمحذوف نعت لسكينة. والبقية: ما ترك آل موسى وآل هارون رضاض الألواح، أى ما تكسر منها حين ألقاها غضبا على عبادة العجل، وعصا موسى وثيابه ونعلاه، وعمامة هارون وقفيز من المن الذى نزل على بنى إسرائيل فى التيه، وقيل: لوحان من التوراة ورضاض متكسر، وقيل عن ابن عباس: البقية: رضاض الألواح وعصا موسى، وقيل العلم والتوراة. ومما ترك: متعلق ببقية، أو بمحذوف نعت بقية: وآل موسى وآل هارون أبناءهما على أنهما تركا أبناء وتركا عندهم تلك البقية وتوارثوها، وقيل: آلهما وأتباعهما، وقيل: أبناء بنى إسرائيل الذين بعدهما جعلوا كأنهم أبناء لهما، وعيال لهما. وقيل آل: مزيد لتفخيم شأنهما، والعرب تقول آل فلان، وتريد فلانا، ووجه ذلك إنما نسب لأحد، فإن لأهله التباسا ما به وانتساباً قال صلى الله عليه وسلم لأبى موسى: "لقد أوتى هذا مزمار من مزامير آل داود" والصوت الحسن لداود لا لأهله. قال الشاعر:

ولا بنك ميتا بعد ميت يحبه على وعباس وآل أبى بكر

وجملة { تحمله الملائكة } حال من التابوت وقرأ يحمله بمثناة تحتية.
{ إنَّ فى ذلكَ }: أى فى إتيان التابوت تحمله الملائكة، أو أن فى التابوت الأول أولى لتناسب آخر الآية أولها:
{ لآيةً لكُم }: على ملك طالوت.
{ إنْ كُنْتم مُؤْمنِينَ }: مصدقين: وذلك من كلام نبيهم أشموئيل خاطب به قومه بنى إسرائيل، يريد أنه لا يترك التصديق بها إلا من يعاند، وأما من يتبع ما فى قلبه من التصديق فلا بد أن يصدق بها لفوتها، وقيل قوله: { إن فى ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }، خطاب من الله تعالى لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.