التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٥٢
تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ تِلْكَ آياتُ الله }: الإشارة إلى قصة الذين خرجوا من ديارهم، وتمليك طالوت، وإيتَاء التابوت، وانهزام الجبابرة، وقتل داود جالوت.
{ نَتْلُوها عَليْكَ بِالحقِّ }: أى بالوجه الثابت الذى لا يجد فيه أهل الكتاب، وأصحاب التواريخ مطعنا ولا شكا، لأنه فى كتبهم والتواريخ كذلك.
{ وإنَّك لمِن المرْسَلِينَ }: إذ أخبرتهم بذلك من غير أن تسمعه، أو تسأل عنه، وأنت أمى لا تعرف أن تقرأ كتابا أكد إثبات الرسالة بالجملة الإسمية، وإن واللام، وبأنه منهم لأن أخبار الله تعالى أنه منهم أبلغ من الإخبار بأنه رسول.
{ تِلك الرُّسلُ }: المذكورة فى السورة، أو الرسل المنزل إليك أسماءهم فى هذه السورة وغيرها وكل الرسل هكذا باستغراق من علمه صلى الله عليه وسلم، ومن لم يعلمهُ وتلك مبتدأ والرسل تابع لهُ وقوله.
{ فَضَّلنْا بَعْضَهُم عَلَى بَعْضٍ }: خبره أو { تلك الرسل } مبتدأ وخبر وجملة { فضلنا } حال من الرسل، والآية نص فى تفاوت الأنبياء فى الفضل، ولو تساووا فى القيام بالرسالة، وأجمعت الأمة على ذلك، وعلى أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم لقوله تعالى:
{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ومن كان رحمة للعالمين لزم أن يكون أفضل منهم كلهم، أما من كان فى زمانه أو بعده فظاهر، وأما من قبله فإنه بعث لتقرير أديان الأنبياء السابقة كلهم، فيما لم ينسخ، والدعاء إلى تصويبهم وتصويب أتباعهم الذين لم يبتدعوا، ولأن أمته تشهد للأنبياء بالتبليغ، ولأنه يريح الناس من المحشر بالشفاعة العامة، وبعث لرفع الآصار والأغلال وقوله تعالى: { ورفعنا لك ذكرك } يذكر مع الله فى الأذان والإقامة والدخول فى الإسلام، وليس ذلك لسائر الأنبياء، وقرنه به فى الطاعة والبيعة والعزة، والإجابة والإرضاء، { من يطع الرسول فقد أطاع الله } } { { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } }، { { ولله العزة ولرسوله } }، { { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } وذهبت معجزات الأنبياء وبعض معجزاته باق إلى آخر الدهر، وقال صلى الله عليه وسلم: "آدم ومن دونه تحت لوائى" ، وقال: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وقال: "لا يدخل الجنة أحد من الأنبياء حتى أدخلها أنا ولا يدخلها أحد من الأمم حتى تدخل أمتى" وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى اتخذ إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذنى حبيبا" (وفى حديث القدسى): "وعزتى وجلالى لأوثرن حبيبى على خليلى" ونادى الأنبياء فى القرآن بأسمائهم، وناداه صلى الله عليه وسلم باسم النبوة والرسالة: { يا أيها الرسول } } { { يا أيها النبى } فهو مميز بالتفضيل، فلنا النطق بتخييره، بخلاف سائر الأنبياء، فنعلم أنهم متفاوتون فى الفضل، ولا نصرح بتفضيل فلان على فلان، لأن لله جل وعلا أثبت التفضيل بينهم إجمالا، قال أبو سعيد الخدرى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء" والمراد فى الآية تفضيل الدرجات بحسب الحسنات، وقيل التفضيل بما يعطيهم من المعجزات، وقيل التفضل بما يوفقهم إليه من الصبر الشديد والأعمال الصالحة.
{ مِنْهُم مَنْ كَلَّم اللّهُ }: وهو موسى، إذ كلمه عند الشجرة، وفى الطور وقيل هو ومحمد عليهما الصلاة والسلام، إذ كلمه الله ليلة الإسراء، وذلك تكليم مخصوص بواسطة ملك ليس لسائر الأنبياء أو بخلق الكلام فى الهواء، أو فى جسم آخر، وذلك فوق السماء السابعة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعند نور الشجرة، وفى الطور ليوم مشهود، إعظاماً لهما، والرابط محذوف، أى من كلمه الله وقرئ { كلم الله } بنصب لفظ الجلالة، والرابط ضمير مستتر، وفيها ضعف لأن كل مصل يناجى ربه، إلا أن تكليم محمد وموسى صلى الله عليهما وسلم فوق ذلك، لأن تكليم محمد ليلة الإسراء، وموسى فى الطور بإرسال إليهما فى شأن الكلام، وبقبوله، وعند الشجرة يجزم قبول: وقرئ: كالم الله بفتح اللام بعد ألف، فتح الميم والهاء من المكالمة، ويدل له قولهم موسى كليم الله، أى مكالمه كالجليس والخليط بمعنى المجالس والمخالط.
{ وَرَفَعَ بَعضَهُم دَرَجاتٍ }: على سائر الرسل، قال مجاهد وغيره هو محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أعطى الخمس ولم يعطها أحد قبله وأعظم الناس أمة، ومبعوث للناس والجن كلهم، وخاتم النبيين. قال صاحب والكشاف: ارتقت آياته إلى ثلاثة آلاف وأكثر، ولو لم تؤت إلا القرآن لكفى، إذا كان معجزة لا يعارضه معارض إلا افتضح، ولكونه المفرد العلم فى الفضل، ومشهور بالفضل على سائر الأنبياء، أبهم إسمه هنا تلويحا بأنه المراد بلا تصريح، وفى إبهامه لذلك تعظيم ليس فى التصريح به، وكلام الله جاء على لسانه، فكأنه هو كنى عن نفسه، كما يقال من فعل هذا فيقول المخاطب: فعله أحدكم أو بعضكم، يريد نفسه، وهو أفخم من أن يقول فعلته أنا، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة، ثم قال: لو شيئت لذكرت الثالث يريد نفسه، ويجوز أن يكون المراد بالبعض جماعة كإبراهيم ومحمد وغيرهما من أولى العزم وعن ابن عباس رضى الله عنهما:
"كنا فى المسجد نتذاكر فضل الأنبياء فذكر نوح بفضل عبادته وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم الله، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو خاتم الأنبياء، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له فقال: لا ينبغى لأحد أن يكون خيراً من يحى بن زكريا إنه لم يعمل سيئة قط، ولم يهم بها" يعنى لا ينبغى لأحد غيرى بدليل قوله: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" وغير ذلك لو قال لا ينبغى الخ قيل أن يعلم أنه سيد ولد آدم ونصب درجات على تقدير فى أولى، أو على الحالية، أى ذوى درجات أو مفعول ثان لتضمن الرفع معنى التبلبغ.
{ وآتَيْنَا عيِسَى ابْنَ مَرْيمَ البيِّناتِ }: خصه بالذكر لإفراط اليهود فيه، إذا نفوا رسالته ورموه بالكذب، وإفراط النصارى فى تعظيمه إذ قالوا إنه إله أو ابن إله على خلافهم الفاسد، فبين الله أنهُ من الرسل، ولهُ بينات لا غير رسول ولا إله، أو ابن تالله، وجعل معجزاته سبب تفضيله على من فضل كإحثاء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير من الطين بإذن الله.
{ وأيَّدنَاهُ بِرُوحِ القُدُس }: قويناه بجبريل كان معه يسير حيث سار، حتى رفع فى السماء السابعة، ومر الكلام فيها، وقيل: خص موسى وعيسى بالذكر، لأن آيآتهما محسات تظهر للحاذق والأبله، ومع ذلك فما أوتى نبى بمعجزة إلا وقد أوتى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بها أو بمثلها، وما أوتى به أقوى وأبقى، وكان شرعه خاتما وناسخا لما قبله مما يدخلهُ النسخ غير منسوخ، وكان شرعه أخذ الجزية إلى نزول عيسى، وبعده القتل إلى قيام الساعة، وكان قوم موسى مغرمين بالسحر، وهانت معجزاته طبقها: كقلب العصى وبياض اليد وقوم عيسى بالطب، فكانت معجزته طبقا كإحياء الموتى وابراء الأكمه وأهل عصر محمد صلى الله عليه وسلم بالفصاحة والبلاغة، فتحداهم بالقرآن فصاحة وبلاغه.
{ ولوْ شاءَ اللّهُ }: أن يهدى الناس جميعا، أو ألا يقتلوا كفراً.
{ ما اقْتَتَل الَّذينَ مِنْ بعدِهِمْ }: أى من بعد الرسل وهم اسمهم.
{ مِنْ بعْدِ ما جاءتهم البَيناتُ }: لاختلافهم وتضليل بعضهم بعضاً، لو شاء الله فساد الأرض ما أقتتل المسلمون مع الكفار، فيكون كقوله { ولولا دفع الله الناس }، والآية دليل على إن الله شاء كفر الكافر وأراده وليس كذلك حبا، بل قضاء، فأخطأت المعتزلة إذ قالوا: لا يشاء الله الشرور، فقالوا: قد يقع ما لا يشاء الله وهو عصبان العاصى، ويشاء ما لم يقع كإيمان الكافر، وطاعة العاصى، فدعاهم ذلك إلى تفسير المشيئة بالقهر.
{ ولكنِ اخْتَلفُوا فمنِهم مَّنْ آمَنَ }: بالبيات لتوفيق الله إياه فضلا.
{ ومِنْهُم مَّنْ كَفَر }: بها لإعراضه عنه بخذلانه كالنصارى، لم يبق شئ إلا كفروا به فكفرهم بعسى جعلهم أياه إلها أو ابن الله، وكفرهم بالبعث قولهم إنما تبعث الأرواح.
{ وَلوْ شاءَ اللّهُ ما اقتتلُوا }: بأن يؤمنوا كلهم، فلا يكون قتال على كفر، وكرر هذا للتأكيد.
{ ولكنَّ الله يْفْعلُ ما يُريدُ }: مِن توفيق هذا فضلا، وخذلان ذاك عدلا، وحديث على وغيره فى القضاء بسطته فى شرح النيل، وحاصله: أنهُ لا جبر هناك، والله خالق للفعل، والبعد كاسب، وكسبه باختياره، وبخلق الله. وسأل رجل عليا عن القدر فقال: يا أمير المؤمنين خبرنى عن القدر؟ فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلحقه، فأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفى عليك فلا تفشه.