التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ
٢٥٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا أنْفِقُوا ممَّا رزقْناكُم }: ما وجب عليكم من الزكاة، أصعب الأشياء على الإنسان بذلك النفس فى القتال، وبذلك المال فى طاعة الله عز وجل، نذكر إنفاق بعد بذل النفس لكونه شاقا صعبا، وذلك تفسير الحسن. وقال ابن إسحاق: أنفقوا فى الجهاد لما ذكر الجهاد أمر بالإنفاق فيه، بنفق فيه، ينفق من يجاهد ومن لا يجاهد إعانة فى الدين، وقد مر أن الفرض فى الآية المتقدمة الإنفاق فى الجهاد فى بعض القول، وذكر الجهاد بعده ثم أكد هنا بذكر الإنفاق أيضاً فيه، وقيل المراد هنا الإنفاق فى وجوه البر كلها من التطوع وقال ابن جريح: المراد الصدقة الواجبة، والتطوع، فتشمل الزكاة وصلة الرحم.
{ مِنْ قَبْل أنْ يأتىَ يَومٌ }: هو يوم القيامة.
{ لا بَيْعٌ فِيهِ }: فتحصلوا فيه ما تنفقون لتداركوا به ما لزمكم من الإنفاق فى الدنيا أو ندب لكم أو تحصلون ما تغدون به من العذاب أو تشترون به الجنة أو البيع الافتداء.
{ وَلاَ خُلَّةٌ }: فيه فيغنيكم فيه أخلاؤكم فى دفع العذاب، أو يسامحوكم به الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين والخلة الحب، يتخلل الأعضاء، والخليل الصديق يداخلك.
{ ولاَ شَفَاعةٌ }: فيه فتنفعكم الشفاعة يحط ما عليكم، ولا شفاعة
{ إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولا } والمراد لا خلة ولا شفاعة فيه تدرك بهما ما ترك فى الدنيا، وليس الخلة والشفاعة قيتان فيه بين المؤمنين لذلك والمتبادر من قوله: { من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة }: أن يكون المراد بقوله: أنفقوا الإنفاق الواجب، وعلى كل حال لا مفعول لانفقوا لعدم تعلق الفرض، أى استعملوا الإنفاق مما رزقناكم، ومن متعلقة بأنفقوا، وهى للابتداء أول مفعول محذوف، ومما رزقناكم نعته، أى أنفقوا شيئاً ثابتا مما رزقناكم، أو متعلق بأنفقوا، وذلك الشئ على إطلاقه فى الندب، ومقدار الواجث فى الوجوب، ومن للابتداء أيضاً على أن مما نعت أو للتبعيض، ومن قبل متعلق بأنفقوا، ومن للابتداء ولو جعلنا الأولى للابتداء وعلقناها به أيضا لاختلافهم زمانا ومكاناً، وإذا اختلف الظرفان جاز تعلقهما بعامل واحد، ولو بلا تبع، نحو جلست فى الدار فى اليوم، وخبر المبتدأ بعد لا الثانية، والثالث محذوف كما رأيت، أو يقدر لهما خبر واحد، أى ولا خلة ولا شفاعة فيه، أى ثابتتان فيه، ويجوز أن تكون عاملة عمل ليس فى المواضع الثلاثة، إلا أن الأكثر حذف خبرها، ويجوز أن تعمل الثانية، ويعطف على اسمها ما بعد الثالثة فيقدر الخبر مثنى، ويجوز عطف مدخولهما على مدخول الأولى، فيقدر الخبر جمعا أو مفردا بتأويل الجماعة، أى لا بيع ولا خلة ولا شفاعة ثابتات، أو ثابت فيه، ولم يفتحن لأنهن فى جواب ما كان مرفوعا، كأنه قيل هو فيه بيع أو خلة أو شفاعة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بفتحهن على البناء، وكذا فى { { لا بيع فيه ولا خلال } فى ابراهيم، { لا لغو فيها ولا تأثيم } فى الطور.
{ والكافِرُونَ }: أى الذين لم يشكروا النعمة بأن وحدوا الله، وفسقوا بترك الواجب كالزكاة، وأشركوا، وقيل المراد بالكافرين الفاسقون بترك الزكاة، فأما على أن الكفر يطلق على الشرك وما دونه من الكبائر فظاهر، وهو مذهبنا ومذهب بعض متأخرى قومنا وبعض سلفهم، وأما على أنه لا يطلق إلا على الشرك وهو باطل، ووجههُ تشبيه تارك الزكاة بالمشرك، لأنه ولو اعتقد وجوبها لكنه لم يعطها كما لم يعطها المشرك، فإن الترك لها من صفات المشرك لإنكاره لها وفى ذلك تهديد وتغليظ.
{ هُمُ الظَّالمُونَ }: لأنفسهم بما فعلوا من المعاصى، وذلك حصر للكافر فى الظلم، فكل كفر نفاق أو كفر شرك ظلم لا يوجد كفر إلا وفيه ظلم النفس وغيرها، أو ظلم النفس، وعن عطاء بن دينار: أن الكافرين بمعنى المشركين، وأنه لو قال والظالمون هم الكافرون لكان كل من فعل كبيرة مشركا، والحمد لله إذ قال: { والكافرون هم الظالمون }، ولم يقل والظالمون هم مكافرون، والمشرك ظالم بشركه وغيره إذ وضع العبادة فى غير موضعها.
{ اللّهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ }: أى لا متأهل للعبادة سواء، وخبر لا محذوف أى لا إله موجود ولا إله يصح أن يوجد إلا هو، فإنه موجود واجب الوجود وألهوية غير غير موجودة ولا جائزة، بل مستحيلة، وقيل لا يقدر لها خبر فى ذلك ونحوه، وفى نحو لا بأس ولا ضير، والصحيح الأول، لأن التصريح به فى مواضع دليل على تقديره، حيث لم يصرح به، وإنما لم اجعل هو خبرا لها لأنها لا تعمل فى المعرفة، بل هو بدل من المستتر فى الخبر المقدر، وجملة لا واسمها وخبرها خبر المبتدأ وهو الله.
{ الحىُّ القيومُ }: الحى معناه نفى ضده فقط، أى لا يموت، وإلا فإنه لا يوصف بتنفس أو حركة أو سكون أو رطوبة أو يبوسة وغير ذلك من صفات الخلق، وهو موجود مخالف للخلق من الأعراض والأجسام تعالى عن ذلك علوا كبيراً، ويجوز أن يراد بالحى لازم الحياة فى الحملة، أى العالم القادر، ولا يقال كيف يمدح نفسه بالعلم والقدرة، وهما حاصلان لغيره، لأنا نقول قدرته وعلمه عامان دائمان لا أول لهما، وهما نفس الذات الذى لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شئ، والقيوم صفة مبالغة كثير القيام بأمر خلقه، وعظم القيام به كالرزق والإيجاد والإحياء والإغناء والإفقار والإعزاز والإذلال وغير ذلك مما يحتاج إليه الخلق، وما تقتضيه الحكمة، وذلك قول مجاهد، وقيل القائم بلا زوال ولا تغيير، وقيل القائم على كل نفس بما كسبت، ونسبه بعض لمجاهد والربيع والضحاك، ووزنه فيعول، اجتمعت الياء والواو وقبل واو فيعول، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، وقرأ عمر وابن مسعود القيام بفتح القاف وتشديد اليام وقرئى القيم بفتح القاف وكسر الياء مشددة، ويروى أن عيسى عليه السلام إذا أراد إحياء الموتى قال: يا حى يا قيوم، ويقال: إن بنى إسرائيل سألوا موسى عن الإسم الأعظم فقال: اهيا شراهيا، أى يا حى يا قيوم. قال غالب القطان: مكثت عشر سنين أدعوا الله أن يعلمنى اسمه الأعظم الذى إذا دعى به أجاب، وإذا سئل أعطى، فأتانى آت فى منامى ثلاث ليال متواليات يقول: يا غالب، يا فارج، ويا كاشف الغم، يا صادق الوعد، يا موفى بالعهد، يا منجز الوعد، يا حى يا قيوم لا إله إلا أنت، ويقال: إن دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق: يا حيى يا قيوم، وعن على: لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبى عليه الصلاة والسلام فإذا هو ساجد يقول: يا حى يا قيوم، فترددت مرات وهو على حاله لا يزيد على ذلك، إلى أن فتح الله له، وهذا يدل على عظمة هذا الاسم، وعن ابن مسعود كان صلى الله عليه وسلم إذا نزل بهم هم أو غم قال:
"يا حى يا قيوم برحمتك أستغيث" وعن أنس قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "ما منعك أن تسمعى ما أوصيتك به تقولين إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حى يا قيوم، برحمتك أستغيث أصلح لى شأنى كله ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين" وعنه صلى الله عليه وسلم: "{ الله لا إله إلا هو الحى القيوم } الآية تعدل ثلث القرآن" وورد أنه من قرأها أول ليلة أو نهاره لم يقربه شيطان، وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "لكل شئ سنام وأن سنام القرآن البقرة وفيها آية هى سيدة آى القرآن آية الكرسى" ، قال الغزالى كانت سيدة آى القرآن لأن فيها الإسم الأعظم الحى القيوم، وعن الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أى القرآن أعظم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: سورة البقرة، قال أتدرون أيها أعظم؟ قالوا الله ورسوله أعلم. قال: { الله لا إله إلا هو الحى القيوم }" الآية وعن ابن عباس: أشرف سورة فى القرآن سورة البقرة، فقيل له أيها أعظم قال: آية الكرسى وعنه صلى الله عليه وسلم: "أن أعظم آية فى القرآن آية الكرسى من قرأها بعث الله ملكاً يكتب من حسناته ويمحو من سيآته إلى الغد من تلك الساعة" وقال: "من قرأ آية الكرسى فى دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت" ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعة آمنه الله على نفسه وجاره، والأبابيات حوله. وعنه صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأتها حين: أوى إلى فراشك لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح" ومن حديث أبى هريرة المشهور حين ترصد للذى يأخذ تمره وعلمه فى المرة الثالثة وهو شيطان: "إن قارئ آية الكرسى لا يقرب شيطان بيته" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا المنذر أتدرى أى آية من كتاب الله معك أعظم، قلت: لا إله إلا هو الحى القيوم. فضرب فى صدره وقال: ليهنك العلم أيا أبا المنذر" وعن واثلة " أن النبى صلى الله عليه وسلم جاءهم فى صفة المهاجرين فسأله إنسان: أى آية فى القرآن أعظم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { الله لا إله إلا هو الحى القيوم } " وعن أبى هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حين يصبح آية الكرسى وآيتين من أول { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } حفظ يومه حتى يمسى ومن قرأها حين يسمى حفظ ليلته تلك حتى يصبح" ومعنى أن هذه السورة أو هذه الآية أفضل أو أعظم أو نحو ذلك؟ أن الثواب المتعلق بها أكثر، وقال أبو الحسن الأشعرى والباقلانى: فضل وأعظم بمعنى فاضل وعظيم، وقال ولو بقيا على التفضيل لزم تنقيص بعض القرآن، بل أكثره، والجواب بقاءه على معنى عظم الثواب، ولا يسأل الله لم جعلت فى قراءة كذا ثوابا أعظم من ثواب كذا، وأيضاً يلزمهم ذلك أيضاً فى عظيم وفاضل لأن مقابلهما ناقص، ولا ناقص فى القرآن، وإن كان كله عظيما وفاضلا وهو الواقع فما فائدة تخصيص بعض؟ قال العلماء: تميزت آية الكرسى بكونها أعظم آية فى القرآن لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الألوهية والوحدانية والحياة والعلم والقيومية والملك والقدرة والإرادة، والله تعالى أعظم مذكور، فما كان له ذكرا من توحيد وتعظيم كان أعظم الأذكار، فالله إشارة إلى الذات لا إله إلا هو إشارة إلى توحيد الذات، الحى القيوم إشارة إلى الصفات الذات أو جلاله، فإن معنى: { القيوم } الذى يقوم بنفسه ويقوم به غيره، وذلك غاية الجلال والعظمة، و{ لا تأخذه سنة ولا نوم }، تقديس له من صفات الحادث له ما فى السماوات وما فى الأرض، إشارة إلى الأفعال كلها، وأن جميعها منه وإليه { من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه }، إشارة إلى انفراده بالملك والحكم والأمر، وأن من يملك الشفاعة إنما يملكها بتشريفه إياه والإذن فيها، وهذا نفى الشركة عنه فى الحكم، والأمر { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } إلى قوله: { شاء } إشارة إلى صفة العلم وتفضيل بعض المعلومات، والانفراد بالعلم حتى لا علم لغيره إلا ما أعطاه ووهبه على قدر مشيئته وإرادته، { وسع كرسه السماوات والأرض }، إشارة إلى عظمة ملكه وكمال قدرته، { ولا يؤوده حفظهما } إشارة إلى صفة القدرة وكمالها وتنزيها عن الضعف والنقصان، { وهو العلى العظيم } إشارة إلى أصلين عظيمين فى الصفات، وقال بعض من أثبت التفضيل فى القرآن بعضه على بعض، أن مرجعه إلى ذات اللفظ فلفظ التوحيد أفضل من غيره، وقيل إلى أشياء كالعمل، فآيات الأمر والنهى أولى من غيرها، وإلى ذات مسمى اللفظ، فلفظ التوحيد أفضل، وإلى تعجيل الثواب كاية الكرسى والإخلاص والمعوذتين، فإن قارئها يتعجل بقراءتها لاحتراز مما يخشى والاعتصام بالله، وتنادى بتلاوتها عباد الله تعالى والثواب لما فيها من التوحيد، وممن أثبت التفضيل إسحاق بن راهوية، وابن العربى والغزالى والقرطبى وممن منعه ابن حبان ومالك ويحيى بن يحيى ولذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد سورة دون أخرى، ويعترض بحديث الذى يقرأ سورة الإخلاص وحدها فى جميع صلاته، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحبك لحبها" والحى خبر محذوف، أى هو الحى القيوم، والقيوم خبر ثان، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا وثالثا للفظ الجلالة وأن يكون بدلا منه، وأجاز الكسائى وصف ضمير الغيبة، فيجوز على قوله: إن يكونا نعتين لهو، ويجوز أن يكونا نعتين للفظ الجلالة، لكن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر، وقيل هو جائز حسن لا محذور فيه كقولك: زيد قائم الفاضل، ويدل للوصف قراءة الحى القيوم بالنصب على القطع، وإنما يقطع النعت.
{ لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ ولاَ نَوْمٌ }: السِّنةُ فتور يتقدم النوم وتاؤه عوض عن فائه المحذوفة وهى واو. قال الرقاع.

لولا الحياء وأن رأسى قد غشى فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارها عينيه أحولُ من جآذر جاسم
وسنان أقصَده النعاس فرنَّقت فى عينه سِنة وليس بنائم

وقيل السنة ذلك الفتور، وهى النعاس أيضاً، وقيل السنة فى الرأس، والنعاس فى العين، والنوم فى القلب، وقدمها فى الذكر لتقدمها فى الوجود عن النوم، والإفقياس المبالغة تقديم النوم، والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا وهذه الجملة تأكيد لقوله: { الحى القيوم }، لأن النائم والناعس قاصر الحفظ والتدبير، ولذلك لم يدخل العاطف على قوله لا تأخذه وكذا قوله:
{ لهُ ما فى السماوات وما فى الأرض }: تأكيد للحى القيوم، ولقوله { لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم }، لأن تدبير الكائنات فى السماوات والأرض لا يستقيم مع النوم. والنعاس، وفيه احتجاج على تفرده بالألوهية، والمراد بما فى السماوات وما فى الأرض ما وجد فيهما، وهو غيرهما كالحيوانات والنبات والملك وبنى آدم، ومنهما كالخاصيات التى أودع الله الأرض من قوة النبت والحرارة والبرودة، وكل جزء من أجزائهما فإنه كلما فرضت جزءاً على حديث صح أن يطلق عليه أن جملة السماء أو فى جملة الأرض، وقال بنو إسرائيل لموسى: هل ينام ربنا؟ فقال موسى على لسانهم كما سأل عن الرؤية على لسانهم لا اعتقاد الملائكة: أينام ربنا؟ فأوحى الله للملائكة أن يوقظوه ثلاثة ليال ولا يتركوه ينام، ثم قال خذ بيدك قارورتين مملوءتين، ففعل فألقى الله عليه النعاس فجعل ينعس وينتبه حتى نعس نعسة فهرب أحدهما على الأخرى لفشل يديه فانكسرتا، فأوحى الله إليه قل لهؤلاء إنى أمسك السماوات والأرض بقدرتى، فلو أخذنى نوم ونعاس لزالتا. رواه ابن عباس ولم يذكرونه على لسان قومه، بل قال: سأل الملائكة، وعن أبى هريرة أنه سمع على المنبر رسول صلى الله عليه وسلم يقول: "وقع فى نفس موسى هل ينام الله؟" وذكر مثل ما مرَّ عن ابن عباس من أنه سأل الملائكة، ولعله وقع فى قلبه ضرورة ولم يعتقده؛ ومع ذلك لأجل زيادة الفائدة.
{ مَنْ ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِنْدهُ إلاَّ بإذْنِهِ }: الاستفهام إنكارى فهو نفى بدليل إلاَّ، أى انتقى لعظم شأنه تعالى وكبريائه أن يخلص أحدا غيره منه تعالى بتوسل وخضوع إليه، فكيف يخلصه عبادا ومحاربة إلا بأن يأذن له فى الشفاعة، وكيف تشفع الأصنام الجمادات لعبادها مع ضعفها، ومع أنها تلعن عابديها، زعم المشركون أنها تشفع لهم فنزلت الآية مخبرة أنه لا شفاعة لأحد عنده إلا بإذنه، وإنما يشفع الأنبياء والمؤمنون، وعنده متعلق بيشفع أو بمحذوف حال من ضمير يشفع، والمعنى على الأول: من ذا الذى يوقع عنده الشفاعة، وعلى الثانى من ذا الذى يشفع حال كونه قريبا إليه تعالى عن النسب، وقرب المسافة، وهذا أقوى، فإنه إذا كان لا يشفع القريب فكيف يشفع البعيد، والباء متعلقه بقوله: { يشفع } أى لا يشفع أحد عنده بأمر من الأمور إلا بإذنه أو بمحذوف حال من المستتر فيه، أى لا يشفع فى حال إلا ثابتاً بإذن الله، ومن ذا اسم استفهام مركب خبر، والذى مبتدأ أو بالعكس أو من مبتدأ أو بالعكس، والذى تابع وقيل ذا زائد.
{ يَعْلَم ما بَيْنَ أيْدِيِهِم وما خَلْفَهم }: قال مجاهد وعطاء والسدى { ما بين أيديهم } ما قبلهم من أمور الدنيا وما خلفهم ما بعدهم من أمور الآخره، وقال الضحأك: والكلبى. بالعكس لأنهم يقدمون على الآخرة ويخلفون الدنيا. وراءهم وقال عطاء عن ابن عباس: { ما بين أيديهم } ما من السماء إلى الأرض { وخلفهم } السماوات، وقيل: { ما بين أيديهم } ما بعد انقضاء آجالهم وما خلفهم ما قبل أن يخلفهم، وقيل بالعكس، وقال الحسن: ما بين أيديهم من خير أو شر، وما خلفهم وما يفعلونه بعد، وقيل بالعكس، وقيل: { ما بين أيديهم وما خلفهم } ما يحسونه، وقيل بالعكس، وقيل ما بين أيديهم ما يدركونه، وما خلفهم ما لا يدركونه، وعلى كل حال فالمراد أن عالم بأحوال الشافع والمشفوع والمشفوع له، فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب، والهاء فى أيديهم وما خلفهم لما فى السماوات والأرض، لأن فيه العقلاء فغلبهم على غير العقلاء، والمراد العقلاء وغيرهم، أو عائد إلى ما دل عليه { من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه } من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، فيكون المراد العقلاء وخاصة..
{ ولاَّ يُحيطُون بِشَىءٍ مِنْ عِلْمهِ إلاَّ بما شَاءَ }: أى لا يعلمون شيئا من جميع وجوهه، وجوده وجنسه، وقدره إلى ما شاء الله أن يعلموه، فالإحاطة بالشئ معرفته من كل وجه، والعلم المعلوم، أى من معلوماته، وعطف الجملة على ما قبلهما لأنهما معاً فى تفرده تعالى بالعلم الذاتى التام، وإنما أثبت ما شاء لخلقه، لأن العلم بمعنى المعلوم، فالمعلوم واحد والعلم مختلف، علم الله ليس كعلم المخلوق، ويجوز أن يكون ما شاء ما علمه الناس بالوحى.
{ وَسِعَ كُرْسِيه السماوات والأرْضَ }: هو جسم عظيم محيط بالسماوات والأرض أمام العرش، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"ما السماوات والأرضون السبع مع الكرسى إلا كحلقة فى فلاة وفضل العرش على الكرسى كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة" ومعنى إحاطته بالسماوات والأرض أنه أوسع منهن، فإنه أمام العرش دون العرش فوق السماوات السبع، وقال صلى الله عليه وسلم: "السماوات السبع فى الكرسى إلا كدراهم سبعة ألقيت فى ترس" ، رواه ابن عباس، وذكروا أن كل قائمة من قوائم الكرسى طولها مثل السماوات والأرض، وأن الكرسى تحمْلهُ أربعة أملاك، لكل ملك أربعة أوجه وأقدامهم على الصخرة التى تحت الأرض السابعة السفلى، ملك على صورة آدم يسأل الرزق والمطر لبنى آدم من السنة إلى السنة، وملك على صورة الثور يسأل الرزق للأنعام من السنة إلى السنة، وملك على صورة الأسد يسأل الرزق للوحوش من السنة إلى السنة، وملك على صورة النسر وهو يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة، وأن بين حملة الكرسى وحملة العرش سبعين حجابا من ظُلْمة، وسبعين حجابا من نور، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، ولولا ذلك لاحترقت حملة الكرسى من نور حملة العرش، وقال السدى: الكرسى تحت الأرض، والصحيح الأول وعليه فقيل يمكن أن يكون هو فلك البروج. وقال الحسن: الكرسى هو العرش، لأن السرير يوصف بأنه عرش، وبأنه كرسى، لأن كلا منهما يتمكن عليه المخلوق ولا يوصف الله بالعقود ولا بالقيام ولا بالتحيز، ولكن العرش والكرسى خلقان من مخلوقاته، كما خلق السماوات والأرض لحكمة، والكرسى فى الأصل اسم لما يقعد عليه الإنسان ولا يفضل عن مقعدته، وكأنه منسوب فى الأصل إلى الكرسى بكسر الكاف، وهو الأبوال والأبعار المتلبد بعضها على بعض، وقد قيل: إن كراسة الكتاب سميت لتركب بعض أوراقها على بعض، وقال ابن عباس: كرسيه تعالى علمه، كما يطلق على كرسى العالم على علمه تسمية لصفة العالم باسم مكانه الذى هو الكرسى، أو تشبيها للعلم بالكرسى، من حيث إن كل واحد منهما أمر يعتمد عليه، وقيل كرسيه ملكه، لأن الملك يجلس على الكرسى، فيسمى الملك بالضم باسم مكان الملك بفتحها، لأن الكرسى محل الملك، فيكون محلا لملكه، وفى الميم قبل الكرسى هو الاسم الأعظم، لأن العالم يعتمد عليه، وقد قيل: سميت كراسة الكتاب لما فيها من العلم، وهذا يناسب القول الأخير والقول بأن كرسيه علمه، وقيل قوله: { وسع كرسيه السماوات والأرض } تمثيل لعظمته تعالى، وليس المراد الجسم المذكور فى الأحاديث، وفيه خروج عن الظاهر، ووجهه أنه تعالى خاطب الخلق بما يعرفون فى ملوكهم، كما جعل الكعبة بيتاً يطوف الناس حوله، كما يطوف بيوت ملوكهم، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم، وذكروا أن الحجر الأسود يمين الله فى أرضه، جعله موضعاً للتقبيل، كما تقبل الناس أيدى عظمائهم، وكما أثبت الميزان بمعنى تجويد الحساب وإتقانه، فكذلك أثبت العرش والكرسى.
{ ولا يؤُده حفظُهما }: لا يثقله حفظ هذين الفريقين الاثنين أحدهما السماوات والآخر الأرض، من الأود بمعنى الاعوجاج، ومن حمل ثقيلا يميل به جسده، يقال آده بمعنى أثقله، ولحقته منه مشقة وحفظ مصدر مضاف للمفعول، والفاعل غير مذكور، وهو الله، أى حفظه إياهما مع عظمهما، فلا يشق عليه شاق.
{ وهُوَ العَلىُّ }: على القدر والشأن لا علو المكان لتنزهه عن المكان فهو علىَّ عن صفات النقص من الشبه والشركة، وصفات الخلق كلها فهو قاهر ما سواه، لا يساوى ولا يدانى، ولا يعلى عليه، وقيل معناه تنزهه عن أن يحيط به وصف الواصفين وإدراك المدركين، وقيل معناه أن الملك له وحده والقهر وما لغيره عارية منه.
{ العَظِيمُ }: المستحقر بالإضافة إليه كل ما سواه، فهو عظيم الشأن حتى لا يحيط به فهم، لا عظم مقدار لتنزهه عن الجسم كما تنزه عن العرض.