التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أوْ كالَّذِىَ مرَّ }: الكاف اسم بمعنى مثل مضاف للذى مفعول لمحذوف، أى: أوَ رأيت مثل الذى مر، أى ما رأيت مثله، وهذا المقدر معطوف على قوله: { ألم تر إلى الذى } ودل عليه قوله { ألم تر إلى الذى حاج } وأدخل الكاف هنا دون { { ألم تر إلى الذى حاج } لأن منكرى إحياء الموتى كثير، والجاهل بكيفية الإحياء أكثر، بخلاف مدعى الربوبية، ويجوز أن تكون الكاف حرفاً زائداً، والذى معطوف على الذى، ويجوز أن تكون الكاف اسما معطوفا على المعنى ويقال له فى غير كلام عطف توهم جعل الكلام كأنه قيل فيه أرأيت كالذى حاج؟ فقال: { أو كالذى مر } وبه قال الكسائى والفراء وأبو على الفارسى، ويجوز أن يكون معمولا لمحذوف معطوف على إيت من قوله: { فأت بها من المغرب } أى فأت بها من المغرب أو أحى مثل إحياء الله الذى مر، ولم يعطف الكاف على الذى لأنه يلزم عليه دخول إلى على الكاف الاسمية، وإنما يدخل عليها ما سمع كعن، فلا يحمل الكلام على دخول غيرها، كذا قيل، ويبحث أنه يجوز عطفها على الذى بناء على أن من يستعملها اسما يتصرف فيها بالعوامل، وبأنه يقرب أن يكون على المنع اغتفر فى الثانى ما لم يفتقر فى الأول، ولو قلنا هذا الاغتفار سماعى، وضعف هذا العطف، لأن المراد النظر إلى نفس الذى مر لا إلى مثله، ويجاب بإرادة الكناية والذى مر هو عزير بن شرحيا عند قتادة وعكرمة والضحاك والسدى وقال وهب ابن منبه: هو أرميا، قال: ابن إسحاق أرميا هو الخضر، وقيل كافر بالبعث وعليه أكثر المفسرين، من المعتزلة، ونسب لمجاهد واعترض بأن الله لا يخاطب الكافر، وقد خاطبه بقوله: { كم لبثت }، وبأنه لا يقال: { نجعلك آية للناس } إلا فى حق الأنبياء والجواب أنه لا مانع من ذلك، مع أنه قد يكون الخطاب بقوله: { كم لبثت }، بواسطة ملك، بل قيل يؤيد قول مجاهد نظم هذا مع نمرود، وأيضا يقال: كلمة الله لأنه آمن بعد البعث لقوله: { أعلم أن كل شئ قدير }.
{ عَلَى قَرْيةٍ }: قرية بيت المقدس حين خربه بختنصر، هذا قول وهب ابن منبه، وقتادة والضحاك والربيع وعكرمة. وقال زيد بن أسلم: هى قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقيل المؤتفكات، واشتقاق القرية من القرى بالياء وهو الجمع كالقرء بالهمزة، وقيل دير سلعى إياد وقيل دير هرقل، وقيل قرية العيد، وهى على فرسخين من بيت المقدس.
{ وهىَ خَاوِيةٌ عَلَى عُرُوشِها }: ساقطة على شقوقها، والعرش السقف، وذلك بأن تسقط سقوفها أولا، ثم تسقط عليها حيطانها، أى ساقطة الحيطان على العروش، ويجوز أن يكون المعنى خاوية من أهلها، أى خالية منهم ثابتة على سقوفها، أى ليست مجردة عن السقوف، بل سقوفها موجودة، فعلى الوجه الأول تتعلق على بخاوية، وعلى الثانى بمحذوف خبر ثان أو حال من ضمير خاوية، والجملة حال من ضمير مر.
{ قالَ أنَّى يُحْيِى هذهِ اللّهُ بعد مَوْتِها }: أى أنى يعمر الله هذه القرية بعد خرابها شبه عمرنها بالإحياء بجامع الانتفاع وخرابها بالموت بجامع عدمه، وأنى يحيى الله أهل هذه القرية بعد موتهم، ولما حذف الأهل لم يبق له ضمير يتصل بالموت، فأضيف الموت لضمير ما ناب عن أهل، وهو هذه فإن كان الذى مر على القرية مؤمنا فذلك اعتراف بالقهور عن معرفة طريق الإحياء، واستعظام لقدرة المحيى وازدياد لقوة الإيمان وهو الصحيح، وإن كان كافرا فذلك استعاد للبعث وإنكار له، أى أنَّى يحيى الله أهل هذه وأنى ظرف زمان استفهامى بمعنى متى متعلق بيحيى، أو اسم غير ظرف، بل بمعنى كيف فهو حال من لفظ الجلالة.
{ فَأماتَهُ اللّهُ مِائَةَ عام }: أراه الله الآية فى نفسه تدله على قدرة الله على إحياء الموتى، أو على قدرته على عمران القرية، والأول أنسب، ولا يخفى أن الإماتة لا تمتد مائة عام، بل تقع فى أدنى زمان، فلا يتعلق مائتان بأمات على ظاهره، بل يتعلق به تأويله بمعنى ألبثه الله ميتا مائة عام، والباثة ميتا فرع إيقاعه ميتا، ويجوز تعليقه بمحذوف مستأنف، أو محذوف، أى فأماته الله فلبث ميتا مائة عام، أو أماته لبث فى موته مائة عام، أو يجوز تعليقه بمعمول حال مقدرة، أى فأماته مقدارا لبثه مائة، وأولى من ذلك أن يتعلق بأمات باعتبار ما فيه من معنى الفعل اللازم المعدى بالهمزة، لا باعتبار ما فيه من معنى متعدية، كأنه قيل صيره ميتا مائة عام، فعلق مائة بميتا وهذا كما قيل فى خوفا حال أو مفعول لأجله، باعتبار ما فى يريكم من معنى الفعل الثلاثى، وسمى العام عاما لأن الشمس تعوم فيه جميع البروج.
{ ثُمَّ بَعَثه }: بالإحياء ليريه كيف يحيى الله هذه بعد موتها، وإنما قال: بعثه لإحياء مع أن المار قال أنَّى يحيى، لأن البعث أدل على أنه عاد كما كان حيا عاقلا مستعد للمعارف والاستدلال.
{ قالَ }: الله تعالى به بخلق كلام أو بملك أو بنبيى:
{ كَمْ لَبثْتَ }: وكم ظرف للبث بعده متعلق به، وإنما كان ظرفا لأن المعنى كم عام أو كم يوم كم ساعة أو نحو ذلك، أو مفعول مطلق واقع على اللبث، أى كم لبثت:
{ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بعْضَ يَوْمٍ }: وذلك أن الله أماته أول اليوم المائة، وبعثه آخر اليوم الأخير منها، فظن أن بعثه فى آخر اليوم اليوم الذى مات فيه، وهو يظن أن الشمس قد غربت، فالتفت فرآها فقال: أو بعض يوم، وقيل أماته صحى، ولما قال يوماً أضرب عن ذلك، بأن قال: أو بعض يوم، لأن اليوم لم يكمل له، وقيل قال لبثت يوما يظن ذلك ظنا، فخاف خلاف ذلك، فتكون كاذبا أو كاذب، فقال: أو بعض يوم شكا منه.
{ قالَ }: الله يخلق كلام أو بالملك أو بالنبى: { بَلْ لَبثْتَ مِائَةَ عامٍ فانْظُر إلَى طَعَامِكَ وشرابك لم يتَسَنَّهْ }: لم يتغير، وعلامة الجزم حذف الألف والهاء للسكت، تقرأ فى الوصل شذوذا، والأصل يتسنن بثلاث نونات، أدغمت الأولى فى الثانية، وقلبت الثانية، وقلبت الثالثة ألفا، فإن القاعدة أنه إذا اجتمع ثلاثة أحرف متجانسة آخر الكلمة، خفف بقلب الثانى من جنس الفاء كلملم، أصله لمم بتشديد الميم الأولى أو بقلب الثالثة ألفا كتقضى، أصله تقضض، وتسرى. أصله تسرر، وربى، أصلهُ ربب، فيقال تسنى يتسنى، فحذفت الألف للجازم، ومعلوم أن المجزوم يحذف بحذف الآخر إذا كان الباقى ثلاثة أحرف، يجوز إلحاق هاء السكت به وقفا فقيد يتسنه وقفا ووصلا شذوذا، وقيل كل ما فيه هاء السكت فى القرآن يجب الوقف عليه، ويجوز أن يكون الأصل يتسنى يتفعل من السنة على لغة من يجعل لام سنة واوا حذفت، وعوض عنها الهاء، ويجمع على سنوات فيقال سانيته أسانيه مساناة، بقلب تلك الواو ياء لكونها فوق ثلاثة، أى عاملة بالسنين، فيقال تسناه بتسناه بذلك المعنى، فحذف للجازم ألفه ولحقته هاء السكت، فأصل لم يتسنه على هذا لم تمض عليه سنة، لكنه استعمل فى معنى لم يتغير، لأنهُ يلزم فى الجملة من مضى السنة على الشئ أن يتغير أو المعنى على الشبيه، أى انظر إلى طعامك وشرابك لم تمض عليهِ السنة، أى كأنه فى عدم تغيره لم تمض عليه السنة، وهذا المعنى يليق به تفسير الطعام والشراب بما لا يسرع فساده، وقرأ الكسائى وحمزة لم يتسن بغير الهاء فى الوصل على القياس، ويجوز أن تكون الهاء أصلا وسكونها جزما، وهى لام سنة المحذوفة المعوض عنها التاء على لغة من يجعل لام سنة هاء فيقول سنهاة وسانهته مسانهة، وتسنه يتسنه تسنهاً، والكلام فيه كالكلام فى الذى قبله سواء لضمير المستتر فى يتسنه عائد للطعام والشراب معاً، ولكن أفرد لتأويلها بالشئ الواحد وهو ما تقوم به بنية الحيوان، أو ما يسيغه لبطنه، ويجوز عوده لشرابك، ويدل لهُ قراءة ابن مسعود: انظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنه، فإما أن يقدر مثله لطعامك، أى فانظر إلى طعامك لم يتسنه وشرابك لم يتسنه، وإما أن يكتفى بالأمر بالنظر إلى ما هو طعامه بعينه وصفته، ومثل هذا ممكن فى الشراب، لكن الشراب لما كانت إفاته أزيد لأنه يتغير أيضا بالنقص بالهواء، ضم إليه لم يتسنه وعلى كل وجه، فالمراد أنهما لم تتغير ذاتهما بالنقص، ولا باللون ولا بالطعم ولا بالرائحة، قيل: كان طعامهُ تيناً أو عنبا، وشرابه عصيراً أو لبنا، وقيل شرابه ماء فى قلة، وقيل خمر قديمة ليست من عصير تلك الشجرة.
{ وانْظُرْ إلى حِمَارِكَ }: قال وهب ابن منبه: انظر إليه كيف زال، لحمه وتفرفت عظامه، وبليت، وكان له حمار قد ربطه ونحييه الآن وأنت ترى، وقال الضحاك ووهب بن منبه فى رواية عنه: انظر إليه حيا سالما فى مربطه بلا علف ولا شراب بإذن الله، والحبل المربوط به جديد بقى فى عنقه جديداً والقادر على إحيائه مائة عام بلا طعام ولا شراب قادر على إحياء ما مات، وعمران ما خرب، والوجه أدل لما فيه الكلام، وهى إحياء هذه، لأن الكلام ليس فى الإبقاء على غير العادة، بل فى رد ما فات، وإنما يتم الاستدلال الذى مر على القرية ويتحقق برؤيته حماره ميتاً ثم يراه يحيى وبنفسه إن رأى نفسه تحيا شيئا فشيئا، وبوجود أولاده شيبا وهو شاب، وإلا فالمعاند لا يكتفى بقول الله تعالى: { قد لبثت مائة عام } فإنه يكذب المائة أيضاً، وكذا يزداد يقين الموقنين بذلك، وإنما مد على الكل ما قال الله تعالى والأنبياء والمسلمون:
{ وَلنجْعلكَ آيةً للنَّاسِ }: أى وفعلنا ذلك لنجعلك آية للناس، يؤمن بها المنكر للبعث، إلا إن عاند، ويزداد بها إيمان المؤمن به، وقيل الواو زائدة فجاء قومه وقرأ لهم التوراة بلا نظر، وقد فقدت كتبها وحفاظها، ووجدوا نسخة تطابق ما يقرأ وأخبرهم بأخبار صدق، ووجد أولاد أولاده شيوخا، فهم إذا حدثهم بشئ قالوا حديث مائة سنة.
{ وانْظُرْ إلى العِظَامِ }: عظام حمارك، قال له ذلك بعدما أحياه كله، وبقيت عظام حماره، فأحيا حماره شيئاً فشيئا وهو بنظر، أو انظر إلى عظام نفسك وقد أحيا الله رأسه إلى عينيه، أو عظامه وعظام حماره، أو عظامهما وعظام الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، وليس ينظر إلى ذلك كله بمرة، بل ينظر إلى نفسه ثم غيره وقد مر قول أن حماره لم يمت.
{ كَيْفَ نُنْشِزُها }: نحييها ونبعثها من موتها، وقرئ بفتح النون الأولى وضم الشين من نشر، بمعنى انتشر وقرأ الكوفيون وابن عامر ننشرها بالراء المعجمة، وضم النون الأولى، وكسر الزاى أى نرفعها بعضها إلى بعض لنركبها ونحييها، يقال انشره فنشر بالراء، وانشزه فنشر بالراء، وكيف حال من ضمير ننشزها المنصوب أو المرفوع المستتر، وجملة كيف ننشرها مفعول انظر، ساغ علمه فى جملة الاستفهام، ولو جعلنا الجملة بدلا من العظام، أو من مضاف مقدر، أى إلى حال العظام أو أول ننشز بالمصدر، وجعل بدلا لكان المعنى صحيحا، لكن لا نعرف فى العربية إبدال حملة من مفرد، ولا سيما مفرد غير وصف، ولا نعرف كيف حرف مصدر إلا ما يتكلف من يتكلف فى المسألتين، ولا نقبل عنه، وقال أبو البقاء: كيف ننشرها حال من العظام.
{ ثمَّ نَكْسُوها لحْماً }: تغطيها بلحم، ونجعله كاللباس عليها، أو هو اللحم الذى كان عليها قبل، ولم نذكر له ما يتخلل وما فى دخل اكتفاء بما يظهر، وأما الجلد فمتصل بالجلد بل هو لحم غليظ.
{ فَلمَّا تَبيَّنَ لهُ }: وفاعل تبين مستتر تقديره فلما تبين له قدر لله، أى قدرته ودل عليه قوله أعلم.
{ قَالَ أعْلَم أن اللّهَ عَلَى كُلِّ شىءٍ قَدِيرٌ }: أو فاعله ضمير مستتر عائد إلى قوله: { أن اللّهَ عَلَى كل شئ قدير } أى فلما تبين هو، أى تبين الله على كل شئ قدير، لم يؤنث لأن ضمير المصدر غير الصريح لا يؤنث، ولو كان المصدر إذا صرح به كان مؤنث كالقدرة هنا، وأولى من ذلك أن يرجع ضمير تبين إلى الإحياء المأخوذ من قوله: { أنَّى يحيى هذه الله بعد موتها } أو لما تبين له ما أشكل عليه وهو ذلك الإحياء ما تقادم عهده، تبين له ذلك مشاهدة بإحيائه بعد مدة أطول من مده موت هؤلاء أو مدة خراب قريتهم، أو بإحياء هؤلاء. وقرأ حمزة والكسائى: { قال أعلم }، بوصل الهمزة وإسكان الميم على الأمر، والذى أمره الله بخلق كلام أو بنبى أو بملك، أو قال لنفسه اعلم بأمرها تبكيتاً لها إذ عاينت ما استبعدت، وضمير قال على قراءة { أَعلم }. بفتح الهمزة وضم الميم عائد إلى { الذى مر على قرية }، وعلى القراءة الأخرى عائد إلى الله أو نفس المار، وقرأ ابن مسعود: قيل اعلم ببناء القول للمفعول، ووصل الهمزه وإسكان الميم، وإنما جعلت الضمير لله بخلق الكلام أو بالملك أو بالنبى حيث جعلته كذلك، ولم أجعله أيضاً كغيرى للملك أو للنبى عدم تقدم عهد لهما إلا ما يفهم فهماً، ويؤيد أن الذى أمره هو الله قوله تعالى بعد قصة إبراهيم
{ { واعلم أن الله عزيز حكيم } وقوله: { ننشرها ثم نكسوها }، وإذا كان المأمور مؤمنا فإنما ذلك منه تعجب من قدرة الله، وزاده الله يقيناً، والمشهور أنه عزير وهو نبى، أو أرميا وهو نبى، وأحدهما هو نبى ذلك الزمان مر على الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف موتى، فوقف وتفكر، فأوحى الله إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم،؟ فقال: نعم. فقيل له: ناد أيتها العظام إن الله تعالى يأمركن أن تكتسين لحَما ودماً، وأن تقمن. فقاموا أحياء يقولون: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت. وذلك بعدما أماته بعد تعجبه مائة عام وأحياه، وروى عن وهب ابن منبه: أن الله تعالى بعث أرميا إلى ناشئة بن أموص ملك بنى إسرائيل ليسدده ويأتيه بالخبر من الله تعالى، فعظمت الأحداث فى بنى إسرائيل، وركبوا المعاصى، فأوحى الله تعالى إلى أرميا أن ذكِّر قومك نعمتى عليهم، وعِّرفهم أحداثهم، وادعهم إلىَّ. فقال أرميا: يا رب إنى ضعيف إن لم تقونى، عاجز إن لم تبلغنى، مخذول إن لم تنصرنى. فقال الله تعالى: إنى ألهمك. فقام. أرميا فيهم ولم يدر ما يقول، فألهمه الله تعالى فى الوقت خطبة بليغة طويلة بيَّن لهم فيها ثواب الطاعة وعقاب المعصية، وقال فى آخرها عن الله عز وجل: إنى أحلف بعزتى لاقضين عليهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جباراً فارسا ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله تعالى إلى ملك بنى إسرائيل أنى مهلك بنى إسرائيل بيافث، وهم أولاد يافث بن نوح عليه السلام، وهم أهل بابل، وصالح أرميا وبكى ونبذ الرماد على رأسه، كل ذلك منه شفقة على الدين، وتضرع إلى الله لا جزع، فلما رأى الله تضرعه وبكأه ناداه. يا أرميا أشق عليك ما أوحيته إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكنى قبل أن أرى فى بنى إسرائيل ما لا أسر به. فقال الله عز وجل: وعزتى وجلالى لأهلكن بنى إسرائيل حتى يكون الأمر فى ذلك من قبلك. ففرح أرميا بذلك وطابت نفسه، وقال: لا والذى بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بنى إسرائيل، ثم أتى الملك فأخبره بذلك، وكان ملكا صالحا فاستبشر وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوبنا، وإن يعفو عنا فبرحمته، ومكثوا بعد ذلك الوحى ثلاثة سنين لم يزدادوا إلا معصية وتمادياً فى الشر، وقلَّ الوحى، ودعاهم الملك إلى التوبة، فلم يفعلوا، فسلط الله عليهم بخت نصر البابلى، فخرج فى ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرا أتى الخبر الملك فقال لأرمياء: أين ما زعمت أن الله تعالى أوحى إليك؟ فقال أرميا: إن الله لا يخلف وأنا بربى واثق. ولما قرب الأجل بعث الله تعالى تعالى إلى أرميا ملكا فى صورة رجل من بنى إسرائيل، فقال: أتيتك أستفتك فى رحمى، وصلت أرحامهم ولم يأتهم منى إلا حسن، ولا يزيدهم إكرامى إلا إسخاطى فأفتنى فيهم، فقال أرميا أحسن فيما بينك وبين الله وواصلهم وأبشر بخير. فانصرف الملك، فمكث أياما ثم أقبل إليه فى صورة ذلك الرجل، فقعد بين يديه فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل أتيتك أستفتيك فى شأن أهلى. فقال له أرميا: ما طهرت أخلاقهم بعد ذلك قال. با نبى الله والذى بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد إلا قدمتها إليهم وأفضل. فقال أرميا. إرجع إليهم فأحسن إليهم، أسال الله الذى يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم. فقام الملك فمكث أياما، ثم نزل بخت نصر بجنوده بيت المقدس، ففزع منهم بنو إسرائيل. فقال ملكهم لأرميا. يا نبى الله؟ ما وعدك الله تعالى؟ فقال. إنى بربى وإثق. ثم أقبل ذلك الملك إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يستبشر بنصر ربه الذى وعده، فقعد بين يديه رجل فقال له. من أنت؟ فقال. أنا الذى جئتك فى شأن أهلى مرتين. فقال له أرميا. أما آن لهم أن يفيقوا من الذى هم فيه؟ فقال الملك. يا نبى الله. إن كل شئ كان يصيبنى منهم قبل اليوم كانت أصبر عليه، فاليوم رأيتهم على عمل لا يرضى الله تعالى به. فقال أرميا. على أى عمل رأيتهم؟ قال. على عمل عظيم يسخط الله تعالى، فغضبت لله عز وجل، فأتيتك لأخبرك، وإنى. أسألك بالله الذى بعثك بالحق أن تدعوا لله عليهم ليهلكوا، فقال أرميا. يا مالك السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام، وإن كانوا على حق وصواب فابقهم، وإن كانوا على عمل لا ترضاه فاهلكهم، فما خرجت الكلمة من فيه حتى أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء على بيت المقدس، فالتهب مكان القربان، وأحرقت سبعة أبواب من أبوابه، فلما رآء ذلك أرميا صاح ونبذ الرماد على رأسه وقال يا مالك السماوات والأرض ميعادك الذى أوعدتنى به. فنودى إنهم لم يصيبهم ما أصابهم إلا بفتياك ودعاءك عليهم، فاستيقن أنها فتياه وأن ذلك السائل كان رسولا من ربه، فخرج حتى خالط الوحوش، ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، ووطئ الشام، وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس، وأمر جنوده أن يملأ كل رجل ترسه تراباً ويقذفه فى بيت المقدس، ففعلوا ذلك حتى ملوه، ثم أمرهم أن يجمعوا من كل بقى فى بلدان بيت المقدس، فاجتمع عنده من بقى من بنى إسرائيل من كبير وصغير، فاختار منهم سبعين ألفاً، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه، فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وكان فى أولئك الغلمان دانيال وخيانيا وعزير، وفرق من بقى ثلاث فرق. ثلث قتلهم، وثلث سباهم وثلث أقرهم فى الشام. ولما رجع بخت نصر إلى بابل، رجع أرميا إلى بيت المقدس على حمار له، ومعه عصير عنب فى ركوة وسلة تين فرآى خراب القرية. فقال: { أنى يحيى هذه الله بعد موتها }، ومن قال. إن المار عزير قال. إن بخت نصر ذهب به وبدانيال إلى بابل وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه السلام، ثم نجا عزير من بابل، وارتحل على حمار حتى نزل دير هرقل على سطح دجلة فطاف فى القرية فلم ير أحدا، وعامة شجرها حامل، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة فى سلة، وفضل العصير فى زق وقدر، أى خراب القرية وهلاك أهلها. فقال. { أنىَّ يحيى هذه الله بعد موتها } فربط حماره بحبل جديد، وألقى الله عليه النوم، ولما نام نزع الله منه الروح مائة عام، وأمات حماره، وبقى عصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد ومنع لحمه من السباع والطير، ولما مضت عليه سبعون سنة رسل الله تعالى ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له توشد وقال له. إن الله يأمرك أن تنفر بقومك. فتعمر بيت المقدس وإيليا حتى يعود أعمر ما كان، فانتدب الملك بالف قهرمان مع قهرمان ثلثمائة ألف عامل فجعلوا يعمرون، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه، ونجى الله من بقى من بنى إسرائيل، وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة، وكثروا كأحسن ما كانوا، ولما تمت المائة على عزير أحيا الله عينيه، وسائر جسده ميت، ثم أحيا الله جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه تلوح متفرقة فسمع صوتاً من السماء. أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تكتسى لحماً وجلداً، فكان ذلك، ثم نودى إن الله يأمرك أن تحيى فقام الحمار بإذن الله، ثم نهق وسجد لله، وقال: أعلم أن الله على كل شئ قدير، فعاد إلى القرية وهو شاب أسود اللحية والرأس، وأولاد أولاده شيوخ وعجائز شمط، وقيل لما أحيا الله هذا وهو أرميا وعزير بعث ريحا فجاءت بعظام الحمار، فركبت حتى الكسرة من عظم: فصار حماراً من عظام، ثم كساها اللحم والعروق والدم والجلد، فنبت الشعر فصار حماراً إلا روح فيه فبعث الله ملكا، فأقبل إليه يمشى حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه الروح فقام حياً بإذن الله، ونهق، وقيل مغمر هو فى الفلوات، وعن ابن عباس وغيره: لما أحياه الله ركب حماره حتى أتى بلده، فأنكره الناس وأنكرهم، وأنكر منازلهم، فانطلق على وهم حتى أتى منزله، فإذا بعجوز عمى مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة، وكانت امة لهم، وحين خرج عنهم كانت بنت عشرين سنة، فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ فقالت: نعم. وبكت وقالت: ما رأيت أحداً يذكر عزيراً مند كذا وكذا. فقال: أنا عزير. فقالت: سبحان الله إن عزيرا فقدناه منذ مائة سنة، ولم نسمع له بذكر، فقال: إنى عزير أماتنى الله مائة سنة، ثم أحيانى. فقالت: إن عزيراً كان مجاب الدعوة، وكان يدعو للمريض وصاحب البلايا بالعافية، فادع الله أن يرد على َّ بصرى، حتى أراك، فإن كنت عزيراً عرفتك، فدعا ربه ومسح بيده على عينيها بأبصرتا، وأخذ بيدها وقال لها: قومى بإذن الله، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة، فنظرت إليه وقالت: أشهد أنك عزير، وانطلقت إلى بنى إسرائيل وهم فى أبنيتهم ومجالسهم، ولعزير بن شيخ ابن مائة سنة وثمانى عشرة وبنو ابنيه شيوخ، فنادت: هذا عزير قد جاءكم، فكذبوها. فقالت، أنا فلانة مولاتكم دعى لى عزير ربه فرد بصرى، وأطلق رجلى، وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه، فنهض الناس إليه وقال ابنه: كان لأبى شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه، فكشف عن كتفيه فنظر إليها فعرف أنه عزير. ورى أنه لما رجع عزير إلى قويته، وقد أحرق بخت نصر التوراة ولا عهد لهم بها فبكى عزير عليها، فأتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه من ذلك الماء، فصار يقرؤها من صدره، فرجع إلى بنى إسرائيل وقد علمه الله التوراة، وبعثه نبيا، فقال: أنا عزير، فلم يصدقوه، فقال، أنا عزير قد بعثنى الله إليكم لأجدد لكم توراتكم. فقالوا، فأملها علينا فأملاها من ظهر قلبه، فقالوا، ما جعل الله التوراة فى قلبه بعد ذهابه، إلا لكونه ابنه، ورى أنه دخل بيت المقدس، فقال القوم، حدثنا آباؤنا أن عزير ابن شرحيل مات ببابل، وقد كان بخت نصر قتل ببيت المقدس نحو أربعين ألفا من قرأة التوراة وفيهم عزير والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة، فقرأها عليهم، وقوبل بنسخة وجدت فى موضع فما اختلفا فى حرف فقالوا عزير ابن الله.