التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أمْوالَهم فِى سَبِيلِ اللّهِ كَمثَلِ حَبَّةٍ أَنْبتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِى كُلِّ سُنْبلةٍ مائَةُ حَبَّةٍ }: لما أجمل الأضعاف فى قوله: { من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعاف كثيرة }، فصله هنا وذكر بينها ما يدل على قدرته على البعث والإحياء والإماتة، لأنه لولا البعث للثواب والعقاب لم يحسن التكليف بالطاعات كالإنفاق، وسبيل الله الجهاد وغيره من أنواع البر، والمثل الصفة القريبة والمراد تمثيل المركب بالمركب يلزم مقابلة كل فرد بمثله، فلا يلزم تقدير مضاف لتتم المقابلة، نعم يستحسن هكذا مثله نفقة { الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة } أو { مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل } باذر حبة إلى آخره ولا يشترط فى التشبيه وجود المشبه به، بل يكفى تقدير وجوده وتخييل الإنسان، فلا يقال لا حبة تنبت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، فلو قيل زيد مسرع كأنه إنسان طائر لكان مفهوماً صحيحا، فالآية تشبيه محسن محقق وهو المنفقون بمحسن مقدر الوجوب، وهو باذر الحبة المذكورة، أو معقود بمعقول، وهما الإنفاق وإنبات الحبة ما تنبته من سبع السنابل، وأيضا يمكن أن يكون الله قد جعل نوعا من الحب فى زمانٍ مّا أو مكانٍ مّا لا نعرفه تنبت الحبة منه سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، قال القاضى: وقد يكون ذلك فى الذرة والدخن وفى البر فى الأراضى المغلة، وظاهره أن الدخن غير الذرة، وذكر عمنا يحيى بن صالح فى شرح بعض الدعائم: الدخن مكان الذرة عند ذكره الحبوب الست، وكما أن جامع المال إذا علم بأن الحبة تنبت له ذلك لا يقصر بالحرث لا يقصر المؤمن بالبعث والثواب فى تقديم الإنفاق والأعمال الصالحة إذا علم أن الحسنة بعشر فصاعداً إلى سبعمائة، وأكثر أيضا إلى ما لا نهاية له، وأسند الإنبات إلى الحبة لأنها سبب، والمنبت على الحقيقة الله الرحمن الرحيم، ولم يقل سبع سنبلات بجمع القلة مع أن السبع... كثيرا مبالغة، والآية تشمل القرض، وفى الحديث: "انطلق برجل إلى باب الجنة فرفع رأسه فإذا على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر، لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاج، والصدقة ربما وضعت فى يد غنى" رواه أبو أمامة، وعنه صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسرى بى على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال: إن السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة" وقيل نسخ ذلك، وكانت الصدقة أعظم، ووجه ذلك أنه رجع القرض إلى عشر حسنات كالصدقة، ولا يزيد، والصدقة تزيد إلى سبع مائة ضعف وأكثر كذا ظهر لى، إذ وردت الزيادة فيها لا فيه.
{ واللّهُ يُضَاعِفُ لمَنْ يَشاءُ }: فوق سبع مائة بلا نهاية تعرف، فعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:
"إن الله تبارك وتعالى كتب الحسنات والسيئات بين ذلك، فمن هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" وعن ابن عمر: " لما نزلت هذه الآية قال النبى صلى الله عليه وسلم: ربى زد أمتى، فنزلت { من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا }، قال ربى زد أمتى فنزلت: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }" . وظاهر هذا أن آية القرض نزلت بعد هذه الآية، وقيل معنى { والله يضاعف لمن يشاء } أنه يضاعف هذه المضاعفة فقط، وهى المضاعفة إلى سبعمائة والصحيح الأول، لأن التأسيس أولى من التأكيد، وأوجه التكرير، ولقوله تعالى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ، ولقوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر سبعمائة إلى أضعافاً كثيرة يعنى إلى أضعاف كثيرة بعد سبعمائة، وتأويله بأن المراد سبعمائة ضعف كالتأويل فى الآية، وعن عطاء: "من جهز غيره فى سبيل الله، كان له بكل درهم سبعمائة ضعف، ومن خرج بنفسه وماله كتب له بكل درهم سبعمائة ضعف إلا الصيام فيقول الله الصيام لى وأنا أجزى به ولا يذر طعامه ولا شرابه ولا شهوته إلا من أجلى" ، وعن بعض السلف: الذكر فى سبيل الله يضاعف كما تضاعف النفقة الدرهم بسبعمائة قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذى نفسى بيده ما ينفق عبد من نفقة أفضل من نفقة من قول" .
{ وَاللّهُ وَاسِعٌ عليمٌ }: يعطى المنفق عطاء واسعا، لأنه لا يضيق عليه ما يعطى، لأن إعطاءه عن قول كن ويعلم نية المنفق أو واسع القدرة على إثابة المنفق، عليم بمقدار نفقته وثوابها، والتضعيف يتفاوت بتفاوت الإخلاص.