التفاسير

< >
عرض

لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٢٧٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لِلْفُقَراء الَّذِينَ أحْصِرُوا فِى سَبِيل اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضرباً فى الأَرْضِ }: كأنه لما حث الله تبارك وتعالى على الإنفاق فى الآيات السابقات سأل سائل: لمن هى؟ فأجاب بقوله { للفقراء }، فهو خبر لمحذوف أى الصدقات المحثوث عليها للفقراء، أو يتعلق بفعل مقدر هكذا اعمدوا للفقراء، أو هكذا اجعل ما تنفقونه للفقراء، وقيل يتعلق بتنفقوا، الأول أى ما تنفقوا للفقراء من خير فلأنفسكم، وبين اللامين اختلاف، لأن النفقة نفع للفقير فى الدنيا، ونفع للمنفق فى الآخرة، أو اللام بمعنى على، أى ما تنفقوا على الفقراء من خير فلأنفسكم، ومعنى: { أحصروا فى سبيل الله }، حبسوا نفسهم على طاعة الله عموما كتعلم القرآن والصلاة وجهاد أعداء الدين، وقيل: المراد الجهاد فى سبيل الله، ومعنى: { لا يستطيعون ضربا فى الأرض } لا يستطيعون التفرغ للتجار وطلب المعاش لاشتغالهم بالجهاد، وقيل لضعف أجسامهم لجراحات أصابتهم فى الجهاد فى سبيل اللَّه، وقيل لا يستطيعون الجهاد لشدة فقرهم، وروى أنهم فقراء المهاجرين نحو أربعمائة رجل من قريش يستكنون صفة المسجد، يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة، ويخرجون فى كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن لهم بالمدينة مساكن ولا عشائر، يأون إلى صفة المسجد يتعلمون القرآن بالليل، ويرضخون النوى بالنهار، حث الله بالصدقة عليهم، فكان من له فضل أتاهم به إذا أمسى، والمتبادر فى عرف القرآن: من سبيل الله الجهاد، والضرب فى الأرض الذهاب فيها أيضا، للتجر فى عرف القرآن، والإحصار أن يحول بين الرجل والسفر مرض أو عدو أو شغل مهم. وعن ابن عباس: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال: "أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقى من أمتى على النعت الذى أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفقائى" .
{ يَحْسبُهُم الجَاهِلُ }: جاهل حالهم، أى من جهل أنهم فقراء.
{ أغنياءَ منَ التَّعفُّفِ }: متعلق بيحسب، ومن للتعليل، أى يظنهم جاهل فقرهم أغنياء لأجل تعففهم عن السؤال والتملق لصاحب المال، والخضزع له، والتعفف عن الشئ: تركه، وهو تفعل من العفة للمبالغة، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين فى يحسبهم وتحسبهم ويحسبون ويحسبه ويحسبن فى جميع القرآن، والباقون بكسرها فى جميعه.
{ تَعْرِفُهم بِسِيمَاهُم }: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح أن بعرفهم { بسيماهم }، وهى علامتهم من الخشوع والتواضع، عند مجاهد، وقال الربيع بن أنس، والسدى، من أثر الجهد من الحاجة والفقر والضعف، صفرة ألوانهم من الجوع، ورثاثة ثيابهم ولباسهم، ونسب لابن زيد، وقال قوم: هى أثر السجود، واستحسنه بعضهم، لأن همتهم الصلاة، وهذه الأقوال غير الأول والأخير قد تنافى قوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } اللهم إلا أن يقال المعنى جاهل حالهم لا يرى فيهم شيئا مما يعرف به الفقراء من عدم التعفف، وإنما يعرفهم بعلامتهم المذكورة من لونهم ولباسهم وضعفهم، وقيل سيماهم هيبة تقع فى قلوب من رآهم يتواضع لهم بها لإخلاصهم، كما أن الأسد تهابه السباع والوحوش والأنعام والدواب بطبعها لا بالتجربة، والبازى إذا طار نفرت منهُ الطيور الضعيفة.
{ لا يَسْألُونَ النَّاسَ إلحْافاً }: أى إلحاحاً، وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه، وأصل الإلحاف الإعطاء من فضل الماء ولو بلا لزوم، وإذا ألجأتهم الضرورة إلى السؤال سألوا بلا إلحاح، وقال الجمهور: المعنى نفى المقيد فيلزم انتفإء القيد، أى نفى الله السؤال رأسا، فلا إلحاح، لأن الإلحاح فى السؤال وهو أبلغ فى المدح وأنسب بقوله: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }، ولا يلزم ذلك إلا من يسأل نادراً للضرورة بلا إلحاح ولا تملق ولا خضوع لذى مال يخفى حاله، ويحسب غنيا، والمقصود فى القولين خصوصا قول الجمهور ذم من يسأل إلحافا، ومن قول الجمهور قول الشاعر:

على لاحب لا يهتدى بمناره

أى ليس له منار يهتدى به، واللاحب الطريق الواضح، وعن أبى ذر: من كانت له أربعون درهما ثم سأل فقد ألحف، وبعض الفقهاء يقولون إذا كانت له خمسون درهما لم تحل له المسألة والصدقة: وعامة فقهائنا أبو عبيدة وغيره يقولون: صاحب الخادم والمسكن والغلام؛ وصاحب المائة والمائتين يعطى من الزكاة إذا كان لا تقوتهم، ويسحب له إن يعف، وذكروا عنه عليه السلام: "أن المسكين ليس بالطواف الذى ترده التمرة والتمرتان، والأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الذى لا يجد غنى نفسه ولا يسأل الناس إلحاف" وعنه صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس" وفى رواية: "ليس المسكين الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذى لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس" ، فقيل الفرق بين الفقير والمسكين لهذا أن المسكين لا يسأل، وقد يقال المراد أن المسكين المعتبر فى كثرة الثواب هو من صفته ذلك؛ فقال الزبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأت الجبل فيأتى بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه" وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته فى وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب" والحديث بهذا اللفظ فى أبى داود والنسائى والترمذى، وببعض مخالفة لذلك اللفظ وإسقاط فى السؤالات وأفردت كتابا صغيرا فى حديث: "ملعون من سأل بالله" وذكرت فيه هذه الأحاديث وسقته فى شرح النيل بتمامه، وفيه فوائد، ومنه حديث أبى سعيد عنه صلى الله عليه وسلم: "من سأل وله قيمة أوقية فقد الحف" قال هشام: وكانت: الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما، وقد روى: "من سأل وله أربعون درهما فهو ملحف" وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقلل أو يستكثرا" وأفاد الحديث المذكور فيه الخموش أن الإثم فى سؤال من لهُ خمسون درهما أعظم منه فى سؤال من له أربعون، لأنه وصف بالإلحاف، ووصف صاحب الخمسين بالخموش، وذكر علىّ: ثلاثا فى المناجاة وثلاثا فى الحكمة وثلاثا فى الأدب، قال فى المناجاة:

كفانى فخرا أن تكون لى ربا وكفانى عزا أن أكون لك عبدا
وأنت كما أحب فاجعلنى كما تحب

وقال فى الحكمة:

قيمة كل امرئ ما يحسنه وما هلك امرؤ عرف قدر نفسه
والمرء مخبو تحت لسانه

وقال فى الأدب:

استغن عمن شئت فأنت نظيره وتفضل على من شئت فأنت أميره
واضرع إلى من شئت فأنت أسيره.

وإلحافا مفعول مطلق لتضمن السؤال هنا معنى الإلحاح، أى لا يلحفون فى سؤالهم إلحافا أو لكون الإلحاح نوعا من السؤال أو التقدير مضاف أى لا يسألون الناس سؤال إلحاف، أو حال لتقديره بالوصف، أى لا يسألون الناس ملحفين، أو لتقدير مضاف أى ذوى إلحاف أو مفعول مطلق لجملة حال محذوفة أو لحال مفردة محذوف أى لا يسألون الناس يلحفون إلحافا أو ملحفين إلحافاً.
{ وما تُنْفقُوا منْ خَيْرٍ فإنَّ اللَّهَ بهِ عَليمٌ }: فيجازيكم به دنيا وأخرى، ولا سيما ما تنفقون على هؤلاء الفقراء الموصوفين، وقال أبو سعيد: بينما نحن فى سفر مع النبى صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلته، فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا، وقال النبى صلى الله عليه وسلم:
"من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" فذكر أصنافا من المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا فى فضل، وعنه صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا" ، ولعله أراد بآله متبعيه إلى يوم القيامة، وعن أنس عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من غنى ولا فقير إلا ود يوم القيامة أنه أوتى من الدنيا قوتاً" قال أبو إمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف وابدأ بمن تعوله واليد العليا خير من اليد السفلى"