التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ الَّذِين }: نعت للمتقين مقيد له، أعنى لمنعوته الذى هو بعض المتقين، إن فسرنا التقوى بترك ما لا ينبغى مترتبة عليه ترتب التحلية بالحاء المهملة، وهو التزيين بالأشياء الجميلة على التحلية، وهى التجريد من الأوساخ والأصداء، وترتب النفس فى الشئ على تصقيله، أو نعت للمتقين موضح له، إن فسرنا التقوى بما يعم فعل الطاعة وترك المعصية، لاشتمال التقوى على الإيمان والصلاة والزكاة، وهن أصل الأعمال والحسنات وأعمال القلب والبدن والمال، وعليهن يترتب سائر الطاعات وتجنب المعاصى غالباً، قال الله تبارك وتعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلاة عماد الدين" . قال: "والزكاة قنطرة الإسلام" أخرج البيهقى فى شعب الإيمان مرفوعاً بسند منقطع: "الصلاة عماد الدين" ، وأخرج أبونعيم شيخ البخارى عن بلال بن يحيى مرفوعاً: "الصلاة عماد عمود الدين" وهو مرسل، وقال إن رجاله ثقاة، وأخرج الطبرانى فى الكبير، والبيهقى فى شعبه مرفوعاً بسند ضعيف: "الزكاة قنطرة الإسلام" وأخرج عمروس ابن فتحرحمه الله عن على عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال فى خطبته: "ألا إنه لا صلاة لمانع الزكاة، لا صلاة لمانع الزكاة، والمتعدى فيها كمانعها" وروى الربيع عن أبى عبيدة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان لمن لا صلاة له، ولا صلاة ولا ضوء له، ولا صلاة ولا وضوء لمن لا صوم له، ولا صوم له إلا بالكف عن محارم الله" .
أو: الذين نعت للمتقين على طريق المدح، فهو التقوى صلته مدح لما تضمنه بعض المتقين من الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإنفاق مما رزقهم الله، وإنما يجعل الإنفاق الذى هو غير زكاة مما تضمنه بواسطة باعتبار أنها للمحاذرة عن النار بكل ما أمكن، ولأن التقوى تستتبع الأعمال الصالحة، ولك أن تقول التقوى الإيمان بالغيب، وتضمنت الصلاة والزكاة ونحوهما من الواجبات فقط، وخص ذلك بالذكر إظهاراً لتفضيلها على سائر ما يدخل تحت التقوى، أو الذين مفعول لأمدح أو لأعنى، أو خبر لمحذوف، أى هم الذين، ويجوز أن يكون الذين مبتدأ خبره: { أولئك على هدى من ربهم } وإذا جعلناه نعتاً للمتقين، فالوقف على المتقين حسن، وكذا باقى الأوجه، إلا إذا جعلناه مبتدأ فالوقف على المتقين كاف، لأنه لو فصل عنه لفظاً فقد وصل به معنى، قاله السعد، وقال القاضى تام، والأرجح أن يكون نعتاً للمتقين، كأنه قيل المتقين المتصفين بأنهم:
{ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب }: الإيمان فى اللغة التصديق، والماضى: أمن بهمزة فألف فميم مفتوحة، فالهمزة للتعدية، والألف بدل من الهمزة التى هى فاء الفعل الثلاثى، بوزن أفعل كأكرم، لأن مصدره إفعال بكسر الهمزة لا بوزن فاعل بفتح العين، إذ لم يكن مصدره فعالا بالكسر كان المصدق بكسر الدال صير المصدق بفتحها أمناً من أن يكذبه أو يخالفه، فالأصل أن يقول: آمنت الغيب وآمنت النبى محمداً صلى الله عليه وسلم، أى صيرتهما آمنين من أن أكذبهما أو أخالفهما، بالتعدية بالهمزة المزيدة، ولكن عدى بالباء لتضمنه معنى الاعتراف بالقلب واللسان، أو بالقلب، أو باللسان دون القلب، فى حالة الكذب، ولو كان المشهور عندنا معشر الإباضية الوهبية: أنه لا يدخل الإنسان فى التوحيد إلا باعتقاد وإقرار باللسان جميعاً، وقد يطلق بمعنى الوثوق، فالهمزة للصيرورة نحو أمنت زيداً أى صيرته ذا أمن من أن يكذبنى، يقول ناوى السفر ما آمنت أن أحد صحابة، أى ما أثق أن أظفر بمن أرافقه، وذلك إما على تضمين آمنت بالشىء بمعنى استوثقت، واطمأن قلبى إلى وجوده وصحته، وإما على أن الواثق صار ذا أمن به لم يدخله ريب من جانبه، وتلك الوجوه كلها حسنة فى الآية.
وإن قلت كيف يصح أن يقال صيرت الغيب آمناً، من أن أكذبه، وإنما الأمن يكمن فيمن يمكن منه الخوف؟ قلت: يصح ذلك مجازاً شبه التكذيب به بمنازعة إنسان ومعاداته بجانب المباعدة فى كل، أو لمنافرة المستلزم ذلك لخوفه، وإن قلت: الإيمان التصديق حقيقة والاعتراف مجازاً، فإذا عدى بالباء علمنا أنه ضمن معنى الاعتراف، فيلزم اجتماع الحقيقة والمجاز، قلت: المشهور منعه، وأجازه الشافعى وغيره، مع أنه لا يتعين ذلك، لجواز أن نقول إنه مستعمل فى حقيقته دالا على محذوف مؤدى للمعنى المجاز، أى مصدقين حال كونهم معترفين بالغيب، كما يقال أحمد الله إليك، أى أحمده منهياً حمده إليك، فإن حقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقى مع معنى آخر يناسبه، من غير أن يقال إنه موضوع لهذا المعنى الآخر على ما يفيده كلام السعد، بل يشير الفعل إلى ذلك المعنى، بواسطة دلالة المقام على تقدير ما يؤدى ذلك المعنى، ولك أن تقول حقيقة التضمين استعماله فى ذلك المعنى الآخر مجازاً، مع تلويح إلى المعنى الأصلى بواسطة التزام أو نحوه، هذا ما سمح به خاطرى ولى فى ذلك أبحاث.
والإيمان فى الشرع تارة يطلق على التصديق، بما علم بالضرورة أنه من دين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كنفى الشركة عن الله سبحانه وتعالى، وإثبات النبوة والرسالة والبعث والجزاء. ومعنى كون ذلك معلوماً بالضرورة أنه مشهور، حتى كأنه أمر ضرورى لا يحتاج إلى كسب، ثم ما لوحظ إجمالا كالملائكة والكتب والرسل، كنفى الإيمان به إجمالا، وما لوحظ تفصيلا كجبريل وموسى والإنجيل، اشترط الإيمان به تفصيلا، حتى إن من لم يصدق بمعين من ذلك فهو مشرك، كذا ذكر بعض الشافعية وهو حق كما نقول معشر الإباضية الوهبية، إلا أن جمهورنا يوجب معرفة جبريل وآدم، ولا يمهل المكلف إلى ورود معرفتهما عليه، كما لا نمهله نحن ولا قومنا فى معرفة النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن، ولا يشرك الإنسان بإنكار نبى لم يتواة، وتارة يطلق على مجموع الاعتقاد والإقرار أو العمل بمقتضى ذلك فمن أخل بالاعتقاد وحده و به وبالعمل فهو مشرك، من حيث الإنكار منافق أيضاً، من حيث إنه أظهر ما ليس في قلبه، ومن أخذ بالإقرار وحده، أو بالإقرار والعمل، فهو مشرك عند جمهورنا وجمهور قومنا، وقال القليل إنه إذا أخل بالإقرار وحده مسلم عند الله من أهل الجنة، وإن أخل به وبالعمل ففاسق كافر كفر نعمة، ونريد باسم آخر له وهو لفظ منافق، وإن أخل بالعمل فقط فمنافق عندنا فاسق ضال كافر كفراً دون شرك، غير مؤمن الإيمان التام، وقالت المعتزلة خارج عن الإيمان غير داخل فى اسم الكفر، سواء كفر الشرك وما دونه، وروى الإيمان إقرار باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، وقيل هو كلام من بعض السلف، واختلفوا - الخوارج - وهم الذين خرجوا عن ضلالة على، فقالت الإباضية الوهبية وسائر الإباضية فيمن أخل بواحد من الثلاثة ما تقدم: من إشراكه بترك الاعتقاد أو بترك الإقرار، وينافق بترك العمل، ويثبتون الصغيرة، وقال الباقون كذلك وأنه لا صغيرة، ومذهب المحدثين أن انضمام العمل والإقرار إلى الاعتقاد على التكميل لا على أنه ركن، ونحن نقول: انضمامهما إليه ركن وهما جزء ماهيته، وقيل شرط خارج عن الماهية لا ينتفع به بدونهما، وأن ماهيته هى التصديق بالقلب فقط، وأما الإقرار فلإشهار دين الله - تبارك وتعالى - وتعظيمه والدعاء إليه، ونفى أحكام المشركين عن نفسه، وأما العمل فلوجوب الصدق، فمن لم يعمل فقد كذب اعتقاده، وإقراره إن أقر وخرج عن عبادته من أقر له واعترف له، واعتقد أنه عبده، وعلى كلا القولين من أن الإقرار والعمل شرطان، أو شطران لماهية الإيمان يكفى إقراره وعمله فى خلوة عن حضور أحدى، وزعمت الكرامية أن الإيمان هو التلفظ بالشهادتين، سواء طابقه الاعتقاد أم لا، فإن طابقه نجا ولو لم يعمل، وإلا فهو مخلد فى الناس من غير أن يسموه مشركاً، فعندهم التلفظ ينفى اسم الشرك باطناً كما ينفيه ظاهراً، ولا ينفى حكمه وهو الجزاء بالنار إن لم يطابقه الاعتقاد، ويبطل قولهم ما وردت به لغة العرب والقرآن والسنة أن الإيمان تصديق بالقلب وإذعانه، وقال أبو حنيفة وبعض الأشاعرة: الإيمان تصديق بالحنان وإقرار باللسان، لأن التصديق لما اعتبر بكل من اللسان والحنان، كان كلا منهما جزءاً من ماهية الإيمان، ولكن تصديق القلب ركن لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرس أو إكراه، وهو موافق لما نقوله معشر الإباضية الوهبية، غير أنا نقول: إن العمل جزء من ماهية الإيمان، لكن لا يخفى أنه جزء من ماهية الإيمان التام لا من مطلق الإيمان، بدليل انه لا نحكم بالشرك على من ترك العمل، قال الإيمان باق فيمن ترك العمل، ولكنه لا ينفيه، فمطلق الإيمان تركت ماهيته عندنا بالاعتقاد والإقرار فقط، ورجح بأن الله - جل وعلا - ذم المعاند أكثر من الجاهل المقصر، ويجاب بأن الذم للإنكار والعناد لا لمجرد عدم الإقرار، وقيل الاعتقاد فقط، وأما الإقرار فلما مر من إشهار الدين والدعاء إليه ونفى أحكام الشرك ونحو ذلك، وللعبادة والثواب والتوكيد، ويدل له إضافة الإيمان إلى القلب مثل:
{ { وقلبه مطمئن بالإيمان } ولم يؤمن قلبه، { ولما يدخل الإيمان فى قلوبكم } وعطف العمل الصالح عليه فى مواضع لا تحصى، ونطق اللسان من العمل الصالح وقرنه بالمعاصى كالاقتتال والقتل والظلم فى نحو: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } }، { { كتب عليكم القصاص فى القتلى } } { { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } مع ما فى ذلك من قلة التغير عن معناه اللغوى، ومن قربه إليه وبدل لذلك تعديه بالباء، فإنه يتبادر منه التصديق، وبدله له إنا إذا رأينا من أحد أمارة المؤمنين حكمنا بإيمانه، وأزلنا عنه حكم الشرك، وكذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلم أن الإيمان فى القلب، وأنه بأى علامة كشف عنه حكمنا به، سواء كشف عنه اللسان أو غير اللسان، ولست فى ذلك قاصد لمخالفة أصحابنا رحمهم الله، ولكن ذكرت ما أدى إليه اجتهادى.
وأما أحاديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا... إلخ" فقد يستدل بها على أن الإقرار جزء من ماهية الإيمان، لكن قد يقال إن النطق إنما هو شرط لإجراء أحكام الإسلام، بدليل أنه رتب عليه حقن الدماء والأموال إلا بحق دون النجاة فى الآخرة، بل وكل أمرهم إلى الله عز وجل، فإن خالف اعتقادهم نطقهم أو عملهم أو طابق فهو العالم بذلك المجازى عليه، وإن قلت لا يتصور لمعتقد ألا يقر، قلت يتصور لأنه يمكن أن يصلى بسورة ليس فيها تصريح بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، مع الفاتحة، وأن يسلم من التحيات قبل أن ينطق بذلك، بل لو لم يتصور له ذلك فى حال فالكلام عليه قبل تلك الحال، غير أن جمهورنا كما علمت إلا قليلا جدا، وجمهور قومنا أيضاً يقولون: لا إيمان بلا إقرار، ومن لم يشترط الإقرار فهل يحكم بإيمانه بدون أن يحكم بمعصيته بعد الإقرار أو لا يحكم بمعصيته؟ قولان لمن لا يشترط الإقرار، بل قال النووى تلميذ ابن مالك صاحب الألفية والتسهيل فى العربية، والحديث والتفسير فى شرح مسلم: أن أهل السنة من المحدثين والفقهاء، والمتكلمين، اتفقوا على أن من آمن بقلبه ولم ينطق بلسانه مع قدرته: أن مخلداً في النار، ولكن يرده ما ثبت أن لكل واحد من مالك وأحمد والشافعى وأبى حنيفة قولا بأنه مؤمن عاص بترك التلفظ، بل ذكر ابن حجر كالكمال بن الهمام وغيره: أن جمهور الأشاعرة وبعض محققى الحنفية، أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فحسب، حتى زعم بعضهم أنه لو أجريت عليه لنطقه بلسانه وهو كافر باطناً، كنكاح مسلمة، وأخذ ميراث قريب مسلم ثم زال كفره القلبى، احتمل حل الوطء وأخذ الإرث لقيام التلفظ به لإجراء الأحكام عليه، والصواب عدم حل النكاح إلا بعد تجديده، وإنما حلله بعد التجديد، مع أنه زان بها إذ جامعها وهو مشرك، للأثر الوارد: المشرك الزانى بامرأة، إن أوله سفاح وآخره نكاح، غير أن المرأة هنا مسلمة، لكنها لم تدخل على نية الزانى بل غرها بتوحيد لسانه، فيجوز لها العود إليه بنكاح جديد، لأنها لا يصدق عليها أنها زانية، وإسلامه هو جب لما صدر منه فى شركه، والصواب أيضاً عدم أخذه الإرث المذكور، وذلك لأنا إنما لم نؤاخذه بما فى باطنه أولا لعدم ظهوره لغيره، وأما بالنسبة له فهو كظاهره ونظيره الحكم بشاهدى زور فى النكاح، فإنه لا يحل لمن علم بالزور العمل بقضية ذلك الحكم عندنا وعند جمهور قومنا، وهو الصواب الموافق للكتاب والسنة، واتفق من لا يشترط الإقرار ولا يجعله شرطاً، على أنه لا ينفعه اعتقاده إلا إن نوى أنه متى طولب بالإقرار أو حضر له أمر لازم متوقف على الإقرار أقر، فإن طولب أو حضر ذلك فامتنع أو اعتقد أنه لا يقر إذا طولب أو حضر ذلك، فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو حضر ذلك فهو مشرك كما لو سجد لصنم أو استخف بنبى أو بالكعبة، أو نحو ذلك من المكفرات، واستشكل الحكم بكفره بأحد هذه المذكورات مع كونه مصدقاً بقلبه لما يلزم عليه أن تعريف الإيمان بالتصديق غير مانع لصدقه على هذا، مع انتفاء الإيمان عنه، وجوابه يعلم من تقرير مهمات يتعين التفطن لها، وهى أنهم اختلفوا فى التصديق بالقلب الذى هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشعرية، أعنى أنه ماهية الإيمان أو جزء مفهومه عند غيرهم كما هو عند أصحابنا، أعنى أنه جزء الماهية والجزء الآخر الإقرار، فقيل هو من باب العلوم والمعارف، ورد بأنا نقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقيقة رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، قال الله تبارك وتعالى:
{ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } }، { { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } وبأن الإيمان مكلف به والتكليف إنما يقع بالأفعال الاختيارية، والعلم بصدق مدعى النبوة عن وجود سببه، وهو مشاهدة المعجزة حاصل قهرا عليه.
وقال إمام الحرمين وأبو الحسن الأشعرى: إنه كلام النفس، وإن المعرفة شرط فيه، إذ المراد بكلام النفس الاستسلام الباطن، والانقياد لقبول الأوامر والنواهى، وبالمعرفة إدراك مطابقة دعوى النبى - صلى الله عليه وسلم - للواقع، أى تجليها للقلب وانكشافها له، وذلك الاستسلام إنما يحصل بعد حصول هذه المعرفة، ويحتمل أن كلا من هذين المذكورين ركن، فلا بد من المعرفة إن جعلناها شرطاً أو ركناً، ومن ضم الاستسلام لها لما من ثبوتها مع الكفر، وقهراً على النفس، وأما تعلق التكليف بها مع ثبوتها قهراً فى قوله تعالى:
{ فاعلم أنه لا إله إلا الله } فانما أريد به تحصيل أسبابها من القصد إلى النظر فى آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدى إلى المقصود، وظاهر كلام شارح المقاصد أنه لا يكتفى بذلك العلم القهرى، بل لا بد من تحصيله بعد بطريق الاستدلال، ورد بأن حصول الاستسلام الباطن بعد حصول العلم القهرى حصول للمقصود إليه، فالوجه الاكتفاء بحصول القهرى المنضم إليه الاستسلام، والتكليف بتعاطى الأسباب مغن عن استحصاله بتعاطى أسبابه، إنما هو لمن لم يحصل له ذلك العلم القهرى، وأخذ بعضهم من أنه لا بد من ضم الاستسلام إلى المعرفة، أن مفهوم الإسلام لغة الذى هو هذا الاستسلام جزء من مفهوم الإيمان، وأطلق بعضهم اسم المرادف عليها. والأظهر كما قال بعض المحققين إنهما متلازمان مفهومان، فلا يعتبر شرعاً فى الخارج إيمان بلا إسلام، ولا عكسه وأن التصديق قول للنفس مغاير للمعرفة وإن نشأ عنها، إذ هو لغة لنسبة الصدق بالقلب أو اللسان إلى القائل وهو فعل وهى ليست فعلا، بل من قبيل الكيف، فكل منها ومن الاستسلام خارج عن مفهوم التصديق لغة وإن اعتبر شرعاً فى الإيمان، ثم اعتبارهما فيه شرعاً إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعاً أو شرطان لاعتباره، وهو الراجح، لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوى إلى معنى شرعى، والنقل خلاف الأصل فلا يصار إليه بغير دليل، بل الدليل على خلافه، لأنه كثير فى الكتاب والسنة طلبه من العرب، ولم يستفسر من أجاب إليه عن معناه اللغوى ووقوع استفساره عن بعضهم، إنما هو عن متعلقه بدليل أن جبريل عليه السلام لما سأل عنه أجابه - صلى الله عليه وسلم - بذكر المتعلق، إذ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" ففسره بما يتعلق به، ولم يفسر لفظه، بل أعاد لفظه بقلبه أن تؤمن لأنه كان معروفاً عندهم لا نزاع فيه أنه لغة مطلق التصديق، وشرعاً تصديق بأمور خاصة وهى المعلومة من الدين بالضرورة، فهو تصديق بها بمعنى اللغوى، ويدل لذلك حديث الشيخ عامر -رحمه الله - فى الإيضاح فى كتاب الكفارات فى "الأمة التى أراد سيدها أن يعتقها عن دين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاءتك فأت بها فأتاه بها فقال لها: من ربك ومن أنا؟ فقالت: الله ربى وأنت محمد رسول الله، فقال: إنها مؤمنة" فإنه يتبادر أنه إذا أراد أن يختبر هل هى مؤمنة؟ فلما قالت ذلك أخبر أنها مؤمنة، أى أنها مؤمنة قبل نطقها من قبل أن تأتى مثلا، ولم يقل لها إنها قد آمنت الآن، بل أخبر بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت، فأفاد ذلك أنه قد حصل لها اسم مؤمنة بما فى قلبها بلا نطق، وما أفادنا نطقها إلا معرفة حالها وغير هذا محتمل، لكن غير متبادر. وانتفاء الإيمان بانتفاء المعرفة والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما لمفهومه شرعاً، لجواز كونهما شرطين له شرعاً فظهر أنه يمكن ثبوت التصديق لغة بدونهما، وإن هذا الثبوت يمكن مجامعة الكفر له، إذ لا مانع عقلا أن يصدق جبار نبياً ويقتله، لنحو حمق أو غاية هوى، فقتله لا يدل على انتفاء التصديق به من أصله، كما ظنه بعض الأئمة من أصحابنا ومن قومنا، بل يدل على أن ما عنده من التصديق غير منج له شرعاً من النار، ورأيت الله سبحانه وتعالى التلبس بالإيمان لازماً لا ينفك عنه وهو سعادة الأبد، وعلى ضده شقاوته وهى لازم الكفر شرعاً، وأنه اعتبر فى ترتيب لازم الإيمان وجود أمور بعدما يترتب لازم الكفر، فمنها تعظيمه - سبحانه وتعالى - وتعظيم أنبيائه وكتبه وملائكته، وترك السجود لنحو الصنم والاستسلام باطناً لقبول أوامره ونواهيه الذى هو معنى الإسلام لغة، فلو كان رجل مصدقاً بوحدانية الله سبحانه وتعالى ورسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وبكل ما يجب التصديق به مجملا أو مفصلا، ثم سجد لصنم فهو باق على ذلك التصديق فى قلبه لم ينقص منه شيئاً، فبالظاهر نقول إنه غير مشرك، وسجوده للصنم منزل منزلة سائر الكبائر التى يفعلها تشهياً إذا اعتقد تحريم ذلك، وبالتحقيق نقول: إنه مشرك ناقض لإيمانه وتصديقه، لأنه إذا سجد للصنم ورآه أهلا لأن يسجد له فقد جعل لله شريكاً، ولو اعتقد تحريم الإشراك والسجود لغيره، وإن سجد له عبثاً ففعله كبيرة نفاق، وقيل شرك، واتفق أهل الحق والأشاعرة والحنفية: أنه لا يعتبر إيمان بلا إسلام ولا عكس ذلك، إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر إذا أخذ بالمعنى الحقيق لهما، ولكنا أهل الحق والحنفية خالفنا الأشاعرة، إذ حكمنا بتكفير بعض الناس بأقوال وأفعال، ووافقنا محققو الأشاعرة كتعمد صلاة بلا وضوء، ودوام ترك سنته استخفافاً بها واستقباحها، كإحفاء الشارب وجعل طرف العمامة تحت الحلق، فمن قصد الاستخفاف بالسنة أشرك مطلقاً، ومن فعل خلافها بلا استخفاف نافق وكفر كفر نفاق، وهو كفر نعمة إذا كانت غير واجبة، ومن أنكر ما هو من الدين وليس علمه ضرورياً، بل فيه خفاء، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، فلا كفر لإنكاره عند الشافعية، وكفره الحنفية إن علم ثبوته قطعاً، أو ذكر له أهل العلم أنه قطعى فاستمر على جحوده، وكفره أصحابنا مطلقاً لأنه يعذر عندهم فى جهل ما هو موسع، ما لم يدخل فيه بخلاف الحق. واعلم أن الإيمان والإسلام متلازمان مفهوماً، فلا ينفك أحدهما عن الآخر، وإن اختلف المفهومان أو مترادفان فلا يوجد شرعاً إيمان من غير إسلام ولا عكسه عند التحقيق، وأن الإسلام يطلق أيضاً على الأعمال فى الشرع، كما يطلق على الانقياد لغة وشرعاً، وأن الإيمان يطلق عليهما شرعاً باعتبار أنه يتعلق بهما، فحيث ورد ما يدل على تغايرهما كما فى حديث: "إن جبريل قال يا محمد أخبرنى عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، ثم قال فاخبرنى عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره" وكما فى قوله تعالى: { قالت الأعراب آمنا } إلخ الآية، فهو باعتبار أصل مفهومهما، فأصح تفسير فى الآية قول ابن عباس وغيره إنهم آمنوا باطناً وظاهراً، ولكن كان إيمانهم ضعيفاً، ويدل على هذا قوله تعالى: { وإن تطيعوا الله ورسوله } إلى آخره الدال على أن معهم من الإيمان ما خرجوا به عن الشرك، فيؤخذ من الآية أنه يجوز نفى الإيمان عن ناقص الإيمان، باعتبار الكمال، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" أى لا يزنى وهو مؤمن إيماناً كاملا، بل ناقصاً فحينئذ يقال له: آمن ولا يقال مؤمن، كما نفى عنه فى الحديث اسم مؤمن، لأنه يوهم كمال إيمانه إلا بقيد، فيجوز مؤمن ناقص الإيمان، ووافقنا على ذلك محققو المتسمين بأهل السنة، قال على بن محمد بن إبراهيم البغدادى الخازن المختار عند أهل السنة: أن من لم يجمع إلى تصديقه العمل بموجب الإيمان من الصلاة والزكاة والحج، ونحو ذلك من أركان الدين، لا يسمى مؤمناً لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن" ، فنفى عنه اسم الإيمان أو كمال الإيمان.. انتهى. بخلاف لفظ الإسلام فإنه لا يفنى بانتفاء ركن من أركانه وبانتفاء ما عدا الشهادتين، فترى أصحابنا بعدما ينفون اسم مسلم عن صاحب الكبيرة، قد يسمونه مسلماً بمعنى موحد، لأن نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفى الإيمان، فحيث ورد نفيه يتبادر منه إثبات الكفر مبادرة ظاهرة بخلاف نفى الإيمان، فحيث ورد ما يدل على اتحادهما كقوله تعالى: { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين... } الآية، فباعتبار تلازم المفهومين أو ترادفهما، ولذلك قال كثير: إن المؤمن والمسلم كالفقير والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر، ودل بانفراده على ما يدل عليه الآخر بانفراده، وإن قرن بينهما مغايراً كما قال أحمد بن حنبل خبراً مرفوعاً: الإسلام علانية والإيمان فى القلب، وإذا وقع تفسير الإيمان بالأعمال، فباعتبار إطلاقه على متعلقاته لما مر من أنه تصديق بأمور مخصوصة، ومنه: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } اتفقوا على أن المراد به هنا الصلاة. ومنه حديث وفد عبد القيس: "هل تدرون ما الإيمان؟ قالوا: لا، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا خمساً من المغنم" ففسر فيه الإيمان بما فسر به الإسلام فى حديث جبريل السابق، فاستفدنا منهما إطلاق الإيمان والإسلام على الأعمال شرعاً، باعتبار أنهما متعلق مفهوميهما المتلازمين، وهما التصديق والانقياد، وقد صح حديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، والحياء شعبة من الإيمان" ، رواه أصحابنا بإسقاط بضع، ورواه البخارى ومسلم، وقد يطلق الإسلام على التصديق والعمل معاً كقوله تعالى: { إن الدين عند الله الإسلام } وحديث مسند أحمد: "أى الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان" وخبر ابن ماجه: "ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أنى رسول الله، وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها حلوها ومرها" وقد أطلق الإيمان كذلك كما روى الإيمان اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وذلك توسع وتجوز، واتفقوا على أنه يستفاد من الأسماء الشرعية زيادة على أصل الوضع، فالإيمان لغة مطلق التصديق، وشرعاً تصديق بأمور مخصوصة، فسمى الإيمان والإسلام لغة غيره شرعاً، والراجع إثبات الحقائق الشرعية، فتلك الزيادة ضارب مع الأصل موضوعاً شرعياً، ومن نفى ذلك قال هى لغات على وضعها اللغوى، وإنما الشرع تصرف فى شروطها وأحكامها، ثم إنه لا يخفى أن الحق معنا فى قولنا: إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نفاق وهو كفر نعمة موحد إيمانه ناقص، لا كما زعمت المرجئة أنه مؤمن كامل الإيمان، ولا كما زعمت المعتزلة أنه لا كافر ولا مؤمن، فإن أرادوا لا مؤمن إيماناً كاملا ولا كافر كفر شرك، فقد صدقوا وإن أرادوا نفى اسم الكفر عنه مطلقاً كذبتهم آثار وأحاديث جمعتها فى بعض ما من الله به على من التأليف، وذكر الشيخ يوسف بن إبراهيم -رحمه الله - فى ترتيب مسند الربيع بن حبيب -رحمه الله - كثيراً منها، ولا كما قالت المالكية والشافعية والحنابلة والحنفية: إنه لا يسمى باسم كافر أصلا، ووافقنا محققوهم على أنه يسمى به على معنى كفر النعمة، ولا كما زعمت الصفرية من أنه مشرك، ولا كما زعم بعض الصفرية أنه مشرك بالمعصية مطلقاً، ولو لم تكن كبيرة. واعلم أن الوحدانية وسائر صفاته تعالى الذاتية قديمة، والإيمان مخلوق قطعاً، لأنه قول واعتقاد أو اعتقاد أو كلاهما وعمل، وإنما القديم وبعض متعلقاته وهو الصفات الذاتية وهى مراد من قال غير مخلوق، فالخلاف لفظى نسب الأول لجمع من الحنفية وأبى حنيفة، والثانى الآخرين منهم وأحمد وجماعة من المحدثين وأبى الحسن الأشعرى، والله أعلم.
ومنع أبو حنيفة وأصحابه: أنا مؤمن إن شاء الله، وإنما يقال أنا مؤمن حقاً، وأجازه آخرون. قال السبكى هو وأكثر السلف من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الشافعية والمالكية والحنابلة، ومن المتكلمين الأشعرية وسفيان الثورى، وذكر النووى فى شرح مسلم عن أكثر المتكلمين من الشافعية أنه لا يقال: أنا مؤمن مقتصراً عليه، بل يضم إليه إن شاء الله، وعن الأوزاعى وغيره التخيير وهو حسن صحيح إذ من أطلقه نظر إلى أنه جازم فى الحال، ومن قال إن شاء الله قال إما للتبرك أو للجمل بالخاتمة، فإن من شك فى إيمانه كافر، وقد صرح بإن شاء الله فما هو قطعى، كقوله تعالى:
{ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } تعليما وتأديبا للعباد فى صرف المشيئة إلى الله تعالى، ووجه بعضهم تقييده بإن شاء الله بأنه يوهم عدم الجزم بالإيمان، وعدم الجزم به كفر وبأنه قد تعتاد نفسه التردد فتميل إلى الشك، ويجاب بأنه لا إيهام مع القرائن ولا ميل إلى الشك، مع اعتقاده التبرك عند النطق بإن شاء الله، وإن غفل عن اعتقاد التبرك ولم يعتقد شكا فهو باق على إيمانه، فإن الإيمان باق فى حال النوم والسكر والإغماء والجنون، والغفلة والنوم والموت، كبقاء نحو النكاح وسائر العقود فى هذه الأحوال.
قال بعض أصحابنا: الدين والإسلام والإيمان مختلفة المفهوم متحدة المعانى، فلا يوجد بالتحقيق أحدها دون الآخر، ويدل عليه حديث جبريل السابق، وفى الوضع والسؤالات أنها مترادفة، وقيل متباينة، وقيل متلازمة مرتبطة، والتحقيق أنها تستعمل تارة مترادفة وتارة متباينة، ويطلق كل على ما يطلق عليه الآخر، فإذا أطلق الدين على الأحكام الشرعية، مثل أن يحكم على كذا بالحل وعلى كذا بالتحريم، والإيمان على التصديق، والإسلام على الانقياد والامتثال، فقد تباين اللفظ والمعنى والمحل، واستعمل الإسلام عاما والإيمان خاصا فى قوله تعالى:
{ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } فمعنى قوله: من المؤمنين من المصدقين حقيقة التصديق والعمل لازمه ومرتب عليه لاجزاءه، ومعنى قوله: من المسلمين من المصدقين العاملين، ففيهما تداخل أدخل الإيمان تحت الإسلام، وتحتمل الآية الترادف ومن ذلك قوله تعالى: { إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } يحتمل هذا أيضاً التداخل المذكور، والترادف، ومن التداخل ما روى فى حديث سعيد: "أنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى رجلا ولم يعط الآخر، فقال له سعيد: يا رسول الله تركت فلاناً فلم تعطه وهو مؤمن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومسلم؟ فقال سعيد: هو مؤمن، فقال صلى الله عليه وسلم: أومسلم؟" يريد صلى الله عليه وسلم هل هو بعد كونه مؤمناً مسلم أم مؤمن غير مسلم؟ فأراد الإسلام العام للإيمان لمعنى التصديق والعمل، وأراد بالإيمان التصديق. وسعيد لم يفهم ذلك منه، ومن التداخل أيضاً حديث: "أى الأعمال أفضل؟ فقال: الإسلام أى أعمال القلب والجوارح فقيل: أى الإسلام أفضل؟ فقال: الإيمان" أى التصديق، فجعل الإيمان جزءاً من الإسلام داخل تحت عمومه، ومن التداخل بنى الإسلام على خمس على أن يوحد الله تعالى، الحديث، فالتوحيد اعتقاد الوحدة واعتقادها تصديق، فهو الإيمان، وأما اللسان فترجمان، ففى الحديث جعل الإيمان داخلا تحت الإسلام خاصاً تحت عمومه، واستعمل الإيمان مرادفاً للإسلام العام المذكور أيضاً، حين سئل عن الإيمان مرة أخرى. فأجاب بهذه الخمس، فإذا اعتبرت هذا الحديث الأخير مع الإسلام المستعمل خاصا فى العمل، وجدت الإيمان عاما والإسلام خاصا، ومن تخالفهما قوله تعالى: { قالت الأعراب آمنا } ... الآية قيل أراد بالإيمان التصديق بالقلب، وأراد بالإسلام الاستسلام باللسان والجوارح، إنه ثم لا شك عندى أن الإيمان محله القلب، لأنه التصديق، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان ها هنا" وأشار إلى صدره، وقوله تعالى: { كتب فى قلوبهم الإيمان } ونحو ذلك مما مر غير أنه يختلف، هل يقبل منه ذلك ويثاب عليه أو لا؟ إلا إن أقر، وهل الإقرار شرط أو شطر فى الشرع، أو لا شرط ولا شطر؟.. وهل هو حقيقة عرفية شرعية فى الاعتقاد فقط، أو فيه مع الإقرار، أو فيهما مع العمل، أو هو موضوع بالاشتراك لكل من ذلك؟ والله أعلم. ومذهبنا أن الإيمان يزيد وينقص فى ذاته، ويزيد وينقص بزيادة ما يؤمن به، وعدم زيادته ونسيان ما أمن به، فكلما كثر إمعان النظر فى الأدلة والبراهين قوى الإيمان، وكلما قل ذلك ضعف، فإذا قوى كان كمن يشاهد محسوساً وصدق به، وإذا ضعف كان كمن يصدق بشىء غائب، وكلما عثر على شىء مما يؤمن به فآمن به قد زاد إيمان له بعد إيمان، وإذا نسيه فقد نقص عنه هذا الإيمان الذى زاد، ويدل لذلك قول ربنا تبارك وتعالى: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً } وقول أبينا إبراهيم الخليل عليه السلام: { ولكن ليطمئن قلبى } فقد تعرض شبهة لإنسان فيترك الإيمان ببعض ما آمن به مما يجب الإيمان به فيكفر. ووافقنا على ذلك بعض محققى قومنا، وقال بعض قومنا: إن نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعى يزيد وينقص، وأنكر أكثر متكلميهم زيادته ونقصانه، وقالوا متى قيل الزيادة والنقص، كان شكا وكفراً، وكذا قال أبو حنيفة وأتباعه، واختاره إمام الحرمين صاحب الورقات فى أصول الفقه وغيره من الأشاعرة، قال النووى: عليه أكثر المتكلمين وأثبتها جمهور الأشاعرة، قال النووى: وهو مذهب السلف والمحدثين، قال الفخر الرازى وغيره الخلاف مبنى على أن الطاعة إن أخذت فى مفهوم الإيمان فإنه يقبل الزيادة والنقص وإلا فلا، لأنه اسم للتصديق الجازم مع الإذعان، وهذا لا يتغير بضم طاعة ولا معصية، ورد بأن القائلين بهما مصرحون بأنه مجرد التصديق أو التصديق والإقرار، وحملهم على ذلك ظواهر الكتاب والسنة، نحو: { فزادتهم إيمانا } } { { ليزدادوا إيماناً } ولا مانع من قبول التصديق لهما، لأن اليقين الأخص الذى هو أخص من التصديق متفاوت القوة، ألا ترى إلى ما بين أجلى البديهيات ككون الواحد نصف الاثنين، وأخفى النظريات القطعية ككون العالم حادثاً عالم السماوات والأرض، ولا خلاف فى أن تصديقنا ليس كتصديق أبى بكر، وتصديقه ليس كتصديق الأنباه، ومانع الزيادة والنقص نقول لا تمنعها إلا بالنسبة لذات التصديق دون آثاره الخارجة، وتفاوت اليقين السابقة ليس تفاوتاً فى شدة وضعف، بل فى ظهور الكشاف أو تقدم أو تأخر، ويقول زيادته فى الأدلة هى زيادة إشراقه فى القلب، وثمراته كدوام حضوره بتوالى أشخاصه، ويقول الإيمان عرض لا يبقى زمانين، بل يتجدد حضوره وتواليها الاستمرار شهود موجبة مع شهود الجلال والكمال، وهذا يخص كماله بالإنبياء، ويشاركهم أكابر المؤمنين فى نوع منه، فثبت لهم إعداد من الإيمان لا تثبت لغيرهم، وقضية ذلك أن استمرار حضور الجزم زيادة قوة فى ذاته، وليس كذلك عند المانع، ومن أثبتهما وأراد هذا فالخلاف لفظى لاتفاق الفريقين على ثبوت التفاوت فى الإيمان بهذا الأمر المعين، فبقى الخلف هل هذا المعين داخل فى ماهية التصديق أو خارج عنها ولا عبرة به، لأنه ليس خلافاً فى نفس التفاوت، قال النووى: قال محققو أصحابنا المتكلمين يعنى الشافعية نفس التصديق لا يقبلهما، والإيمان الشرعى يقبلهما يزيادة ثمراته وهى الأعمال ونقصها، قال وفى هذا توفيق بين ظواهر لنصوص التى جاءت بالزيادة واللغة وهو حسن ولكن الأظهر - والله أعلم - أن نفس التصديق يزيد لكثرة النظر، ويظاهر الأدلة إذ لا يمكن إنكار إن إيمان المصدقين أقوى من إيمان نحو المؤلفة. والله أعلم.
قال ابن أبى مليكة أدركت ثلاثين صحابياً كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم من أحد يقول إن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل، رواه البخارى وقد قال الله عز وعلا لإبراهيم، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام:
{ أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى } فهو كمن علم ببستان فى غاية النضرة والخضرة، فنازعته نفسه فى مشاهدته، فإنها لا تسكن ولا تطمئن إلا إن شاهدته، فطلب بذلك سكون قلبه عن المنازعة إلى رؤية تلك الكيفية التى طلب رؤيتها، وأنه طلب العلم البديهى بعد العلم الاستدلالى. والله أعلم. والغيب فى الأصل مصدر بمعنى الغيبوية والخفاء، وأخرج عن ذلك واستعمل بمعنى اسم الفاعل، كأنه قيل: يؤمنون بالشىء الغائب، وهو البعث ورضا الله سبحانه وتعالى وسخطه، والجنة والنار والملائكة، والقضاء والقدر ونحو ذلك. فالباء للتعدية متعلقة بيؤمنون، ويجوز أن يكون فى الآية وما أشبهها وصفاً من أول الأمر أصله، غيب بفتح الغين وكسر الياء مشددة، حذفت الياء المتحركة وبقيت المدغمة، فهو قبل التخفيف يوزن فيعل بفتح الفاء وإسكان الياء وكسر العين، أو بوزن فعيل بفتح فكسر وإسكان، ووقع القلب المكانى كما قيل فى سيد وميت ولين وهين ونحو ذلك، والمراد بالغائب الذى يؤمنون به ما لا يدركه حس كما مر التمثيل به أنفاً، ولا تقتضيه بدلالة العقل، سواء كان عليه دليل كالأمثلة المذكورة أو لم يكن، وهو المراد بقوله تعالى: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } ويجوز كون الغيب باقياً على المصدرية، والباء بمعنى مع تتعلق بمحذوف حال، أى يؤمنون ملتبسين بالغيب، أى بالغيبة والخفاء، أو بمعنى فى تتعلق بيؤمنون، والمعنى على هذين الوجهين أنهم يؤمنون حال غيبة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، كما يؤمنون حال حضورهم، لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ويجوز على الوجهين كون الغيبة عما يؤمن به، بفتح الميم، قال ابن مسعود رضى الله عنه: والذى لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ هذه الآية، رواه الحاكم وصححه، ويجوز كون أراد بالغيب الخفاء كما ذكر، والباء بمعنى فى كما ذكر، لكن المعنى يؤمنون فى قلوبهم لا فى ألسنتهم فقط، وهو بمعنى الغائب الذى هو القلب، أى يؤمنون بالقلب لا باللسان فقط، لكن يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم، فالباء للآلة، ويبعد أن تجعل الهمزة للتعدية والباء للسببية، أى يؤمن نفسه من عذاب الله بسبب الغيب، إذ صدق به وتفسير الغيب على العموم السابق هو ما ظهر لى، وبه قال ابن عباس: وقيل الغيب: الله تعالى، وقيل القرآن، وقيل الآخرة، وقيل الوحى، وقيل القدر، ويحتمل أن يريد أصحاب هذه الأقوال التمثيل، والقول بالقرآن صادق بالعموم، لاشتماله على جميع ما يؤمن به.
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ }: يأتون بالصلوات الخمس قائمة معتدلة، راغبين فيها كالإنسان الحسن الصورة المنتصب المعتدل، بأن تكون بطهارة وخشوع وإتمام وفى وقتها لا قبل ولا بعد، ولا فى وقتها الضرورى، ولا يأتون بها معوجة كالإنسان المعوج المنتكس، بأن تكون بلا طهر، أو بلا خشوع، أو بنقر أو التفات، أو فى غير وقتها، أو بتهاون بها، سواء صليت فى وقتها أو فى وسطه أو فى الجزء الضرورى منه، فإنما الحقيق بالمدح والثواب من يأتى بها قائمة معتدلة كما وصفت، لأنه هو الذى أتى بحدودها الظاهرة والباطنة. فهو المخلص، وإنما يقبل من الأعمال ما كان مخلصاً ومن يرائى بها لم يصدق عليه أنه خاشع، فهو غير مخلص، وكذا من كدرها بنو تهاون أو التفات أو عدم الطهر، فيكون قد شُبهت الصلاة المحافظ عليها بإنسان منتصب القامة معتدلا حسناً مرغوباً فيه، قال الله تعالى:
{ ولقد كرمنا بنى آدم } }، { { لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم } ورمز إلى ذلك التشبيه بإثبات لازم الإنسان لها وهو الإقامة، فإن الله جل وعلا قد جعل الإنسان معتدلا منتصباً مطلقاً، وإنما زدت فى الشبه كونه حسناً مرغوباً فيه لقرينة المقام أنها لا تشبه بإنسان خسيس، فتلك استعارة مكنية، ويجوز أن يشبه الإتيان بالصلاة على وجهها يجعل الشىء من إنسان أو غيره قائماً، فاستعير لذلك الإتيان لفظ الإقامة بمعنى الإتيان، فاشتق منهم مقيم بمعنى يأتى بها على وجهها، فتلك استعارة تبعية، وإنما خصصت المشبه به بقيام، لأن الشىء ينتفع به غالباً إذا كان قائماً، وبالقيام يكون الانتفاع العظيم، ويجوز أن يكون يقيمون الصلاة بمعنى يديمونها من قولك أقمت السوق، أى جعلتها قائمة، أى نافقة فإنها إذا كانت نافقة طال مدتها، وإذا كسدت انقطعت وزالت، ففى ذلك استعارة بالكناية إذ شبه الصلاة بالسوق تشبيهاً غير مصرح ورمز إليه بذكر لازم السوق وهو الإقامة بمعنى التصيير نافقة أو استعارة تبعية إذ شبه الإتيان بالصلاة على وجهها بإنفاق السوق المسمى بالإقامة، فسمى ذلك بلفظ الإقامة، واشتق منه يقيم بمعنى يأتى بها على وجهها، وتسمية إنفاق السوق إقامة مجاز وقد أجيز بنا مجاز على مجاز أو هى حقيقة عرفية، والجامع بين الصلاة والسوق الرغبة فى كل لإيصاله إلى فائدة، ويجوز أن يكون يقيمون بمعنى يتشمرون لها من غير فتور ولا توان ولا تهاون ولا تقصير فى أمر من أمورها، يقال قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد، وضده قعد عن الأمر وتقاعد شبه التهيؤ لأداء الصلاة بالقيام بأمر من الأمور الدنيوية التى يجتهد فيها لا بأمر من الأمور مطلقاً، لأن الصلاة من الأمور المطلقة، فلو كان كذلك لم تحتج إلى التشبيه، ويجوز أن يقال شبه الإتيان بالصلاة على وجهها بإقامة جسم ثقيل بعد امتداده على الأرض، أو بالقيام به فى الأرض على استواء القامة، ويجوز أن يكون يقيمون الصلاة بمعنى يؤدونها، فسميت تأديتها باسم بعض تأديتها، وذلك البعض هو الوقوف فيها كما تسمى الصلاة بالركوع أو بالسجود الذى هو بعضها، وإن قلت اشترط غير واحد فى البعض الذى يسمى الكل باسمه أن تكون له مزية اختصاص فى مقام الكلام، قلت نعم ولا مانع من أن يكون لمتعدد من أبعاضه مزية تقصد مزية هذا فى الكلام، ومزية ذلك فى كلام آخر، فيقصد للقيام فى الصلاة مزية للتعب فى القيام، وكونه على صورة المتهىء للخدمة، فتسمى تأديتها باسم القيام، ويقصد فى كلام آخر مزية للركوع وللسجود لما فيهما من ظهور الخضوع، فتسمى تأديتها باسم أحدهما، وقيد فى كلام آخر مزية للقراءة، لأن القرآن كلام الله جل وعلا، ولأنه المقيد للحلال والحرام والواجب وغيره، والمشعر بوجوب الصلاة فتسمى باسم القرآن، والله أعلم.
ويقصد فى كلام مزية الدعاء لتضمنه ما يشتهى الإنسان، فتسمى باسم القنوت والصلاة اسم للفظ التصلية الذى هو مصدر غير مستعمل، ويطلق لفظ الصلاة أيضاً على المعنى الذى يحصل من المعنى المصدرى، ووزن صلاة فعلة بفتح الفاء والعين واللام، وأصل صلوة بفتح الصاد واللام والواو، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، ولكون أصلها واواً كتبت واواً كما كتبت ألف الزكاة واواً لكون أصلها واوا، غير أنى أكتبه بالألف على أصل قاعدة الخط لأجل البيان، وهذا فى غير المصحف، وأما فيه فلا يجوز مخالفة مصاحف عثمان، وقد أذكرنى هذا المحل شأن فتح ما قبل تاء التأنيث غالباً تحقيقاً أو تقديراً، حتى إن عامة العرب والأعراب وعامة من يتكلم بكلامهم بعد فساد لسانهم يكتفون بفتح ما قبل هاء التأنيث عنها، ويسقطونها، ويقولون فى النعجة نعج، وفى البقرة بقر، وفى النخلة نخل، بإسقاط تاء التأنيث وإثبات ما فتح قبلها أو بإبدالها هاء للوقف، أو فى الوصل الجارى مجراه بصوت ضعيف، ثم لما زاد لسانهم فساداً اضمحلت كلها، ويقولون فى فاطمة فاطم، وفى عائشة عيش بعين وياء وشين، وفى حنة حن بإسقاط التاء فى ذلك كله وإثبات فتح ما قبلها، وذلك فى لغتنا البربرية أيضاً، فإذا كتب ذلك أحداً وكتب نحو فافه أو لاله، فليكتبه بهاء منقوطة نقطتين أو غير منقوطة، لأن ذلك الأصل. وقد أبقوا الفتحة دليلا عليها فلا إيهام بإثبات الهاء فى الخط، ومن لم يعرف أن الفتحة دليل عليها فكذلك يكتب له الكاتب بإثبات الهاء، لأن ذلك منه جهل بالمعنى عدم علمه بالهاء ودليلها، وقد جرى الكتب بها ولم يقع إيهام فى ذلك، ولا توهم من جاهل ولا من غيره، فذلك علة من تقدمنا فى كتب ذلك بالهاء، والله أعلم. وأيضاً إذا لم يكتب نحو نعجة وبقرة بالتاء توهم القارئ والسامع أن المراد ثلاث فصاعداً، فيقع فى أكل أموال الناس بالباطل، وأيضاً إذا كتبت قولهم عيش ونعج عائشة ونعجة كان حكاية بالمعنى والحكاية بالمعنى جائزة واردة فى القرآن والسنة.
قال ابن هشام والشيخ خالد فى الجملة يجوز حكايتها على المعنى، فتقول فى حكاية زيد قائم قائم زيد، وإن كانت الجملة ملحونة حكيت بلا لحن على الأصح صوتاً عن ارتكاب اللحن، ولئلا يتوهم أن اللحن نشأ من الحاكى، فعلى هذا إذا قال شخص جاء زيد بالجر وأردت حكاية كلامه، قلت قال فلان جاء زيد بالرفع ولكنه خفض زيداً لتنبيه بالاستدراك على لحنه وإلا لتوهم أنه نطق به على الصواب، وعلى القول الثانى نقول: قال فلان جاء زيد وتجر زيداً مراعاة للفظه. انتهى.
قال بعض من حشا عليهما التصحيف فى ذلك كاللحن وهو تغيير الحروف، وإن زعم زاعم مكابر لعقله وجاحد للظاهر أن ذلك لفظ عجمى يحكى، كما يقال قلنا إن العجمى يجوز تعريبه كما نص عليه فى التصريح وغيره فبطل ادعاء بعض أن أصل أحد لا يجوز، لكن ذلك البعض من عامة الناس، مع أن ذلك ليس جله عجمياً فبطل ادعاء ذلك العامى خطأ السلف الذين يكتبونه بالتاء ويصلحونه، وتعريب العجمى كثير فى القرآن والسنة وكلام العرب، بل نقول أيضاً يدل على أنه ليس ذلك بربريا النطبق به بلا تاء تأنيث فى أوله وآخره، فإن لغة البربر يجتمع فيها فيما كان مؤنثاً تاء تأنيث أوله وآخره، الأولى مفتوحة والأخيرة ساكنة، وذلك فى أسماء الأجناس، ولغة العرب لا تجتمع فيها علامتا تأنيث، فتبين أن نحو قولك: نعج بقر عربى ملحون فجاز تعريبه.
وسميت الصلاة الشرعية صلاة لاشتمالها على الصلوات اللغوية وهى الدعاء، كقول المصلى:
{ اهدنا الصراط المستقيم } وقوله: { ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } أو لتحريك الصلاة فيها وهو عرق فى أعلى الفخذ وفى المقعدة، وفى الحيوان صلوان بفتح اللام تثنية صلاة سميت تلك العبادة صلاة لأن المصلى يحركهما فيها بالركوع والسجود، ولأن أول ما يعلم به القائم المصلى من القائم المطلق تحريك الصلوين بالركوع، أعنى أنه يتحرك بهما للركوع فيظهر ركوعه، ولانه أول ولو كان لا يريان والألف على الوجهين منقلبة واواً، ولذلك كتبت واو على لفظ المفخم، أعنى الناطق بالواو، فإن لفظ الواو ساكنة أو متحركة سكوناً ميتاً أو حيا، فأى حركة أغلظ من لفظ الألف، فإن نطقك بالواو أغلظ منه بالألف، هكذا أفهم كلام القاضى، وقرره، وقال الشيخ زكرياء مراده إمالة الألف إلى مخرج الواو فهو ضد الترقيق بمعنى ترك هذه الإمالة لا ضد الإمالة المطلقة وهو تركها، ولا ضد الترقيق بمعنى إخراج اللام من أسفل اللسان، فالتفخيم على ثلاثة أوجه، والجمهور على أن الصلاة الشرعية مأخوذة من الصلاة بمعنى الدعاء، وهو الصحيح، واختار الزمخشرى أنها من الصلاة وإن قلت اشتهر لفظ صلى فى الصلاة الشرعية لا فى الدعاء أو تحريك الصلوين فكيف ينقل من الدعاء أو تحريكهما؟ قلت: لا مانع من كون المنقول إليه فوق المنقول منه فى الشهرة ولا سيما مع تخالفهما شرعاً ولغة، وإن قلت معنى تحريك الصلوين أشهر من الدعاء المعبر عنه بلفظ الصلاة فكيف تنقل الصلاة الشرعية من الدعاء ما هو أشهر؟ قلت: لا مانع من النقل ما هو غير أشهر وذلك لقصد مناسبة لها مزية، مع أنا لا نسلم أن الصلاة بمعنى تحريكهما أشهر من الصلاة بمعنى الدعاء، بل الأمر بالعكس، وإن قلت كيف يسمى الداعى مصلياً مع أنه لا يحرك صلويه، قلت لا نسلم أن الصلاة بمعنى الدعاء منقولة من الصلاة بمعنى تحريك الصلوين، بل وضعت لفظة الصلاة للدعاء، كما وضعت لتحريكهما، ولئن سلمنا لنقولن سمى الداعى مصلياً تشبيهاً له فى فى تخشعه بالراكع الساجد المحرك صلويه.
ومن أراد المحافظة على الصلاة فليكتب إحدى وستين آية يذكر فيها الصلاة أول ساعة الخميس والقمر بثلث المشترى، وإن كتبه فى شرفه أو بيته خالياً من النحوس فأجود بزعفران وماء ورد ومسك، ويمحوها بماء المطر ويصبه فى زجاجة، وكلما سمع الأذان نام وتوضأ وشرب منها يسراً وقرأ الآيات فى الطريق سراً فى نفسه حتى ينقضى الماء. ولا يكتب قوله تعالى:
{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } وقوله جل وعلا: { فويل للمصلين } ونحو ذلك.
{ وَمِّمَا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }: ينفقون مما رزقهم الله النفقة الواجبة كالزكاة وإقراء الضيف الواجب، وتنجية المضطر ونفقة من لزمته نفقته، وأداء ما وجب من الكفارات ونحو ذلك، ونفقة التطوع فى وجوه الأجر، ويحتمل أن يريد النفقة الواجبة مطلقاً ويدل له، إنما ذكر قبل ذلك وما ذكر بعده فى الآية كله واجب، ويحتمل أن يريد أداء الزكاة اقتصارا فى الذكر على أفضل أنواع الإنفاق، ويدل له اقترانه بالصلاة، وقد كان معلوماً أن الصلاة والزكاة أختان، إلا أن يقال المراد بالصلاة الواجبة وغير الواجبة، قيل ويحتمل أن يراد الإنفاق من جميع ما رزقهم الله من أنواع الأموال، ومن العلم وقوة البدن والجاه وفصاحة اللسان، ينفعون بذلك عيال الله سبحانه وتعالى على الوجه الجائز، وقيل المعنى ومما خصصناهم به أنوار معرفة الله جل وعلا يفيضون، وهذا القول الذى قبله أظنهما للصوفية أو لمن يتوصف، وليس تفسير الصوفية عندى مقبولا إذا خالف الظاهر، وكان تكلفاً أو خالف أسلوب العربية، ولا أعذر من يفسر به ولا أقبل شهادته وأتقرب إلى الله تعالى ببغضه والبراءة منه، فإنه لو كان فى نفسه حقاً لكن جعله معنى للآية أو للحديث خطأ، لأنه خروج عن الظاهر وأساليب العرب الذين يتخاطبون بها وتكلف من التكلف الذى يبغضه الله، فإن القولين وإن ناسبهما قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن علماً لا يقال به ككنز لا ينفق منه" الذى رواه ابن أبى شيبة وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذى يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذى يكنز الكنز ثم لا ينفق منه" الذى رواه الطبرانى فى الأوسط، لكن لا يصحان تفسيراً للآية، إذ لا يتبادر ذلك ولا يجرى على أسلوب العرب، والقول الأخير أبعد، وأنا أعد اعتقادى ذلك نوراً ومعرفة أفاضها الله الرحمن الرحيم على، وقد أقبل القول الذى قبله لأنه قريب من أسلوب العرب، وقليل التكلف، والصحيح أن المراد النفقة الواجبة وغير الواجبة من المال، وقد أذكرنى هذا المحل بواقعة حال، هى خفاء معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ملعون من سئل بالله بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله ثم لم يعط ما لم يسأل هجراً" رواه الطبرانى عن ابن موسى فى الكبير وهو مذكور فى صحيحى الذى من الله على الرحمن الرحيم بتأليفه، الذى ألفته بحول الله وقوته، لتتم به مع مسند الربيع بن حبيب -رحمه الله - الفائدة، وكثرة سؤال الطلبة عن معناه، وقد ألفت فى تفسيره تأليف تطول وستدلال.
وأقول هنا بطريق الاختصار وترك الاستدلال: المراد فيه بالمسائل والمسئول نوع من السائلين والمسئولين مخصوص. أما السائل فهو من يسأل بوجه الله ليعطيه من لا يسمح بالإعطاء فيعطيه كارهاً مقهوراً فيكون السائل بمنزلة الغاصب، ومن جملة من يأكل أموال الناس بالباطل، أو من يسأل على صفة يعطى بها، وليست فيه كادعاء فقر أو نسب أو غرامة أو كتابة أو إرادة نكاح أو ادعاء عيال أو نحو ذلك مما ليس فيه، أو من يسأل تكاثراً عن ظهر غنى على القول بكفره، أو من يسأل معصية من العاصى أن يفعلها المسئول فى نفسه أو فى السائل أو فى غيرهما، أو فى ماله أو مال السائل أو غيرهما، كتعد فى زكاة كإعطائها غير أهلها أو فى عرض أحدهم، أو معنى لعنه شتمه بأن يقال ملح ملحف حريص يسألنا بالله فنعطيه أجبنا أو كرهنا، أو من سأل عن صفة من صفات الله فلم يجد جواباً بحق فإنه كافر كفر شرك على مشهور المذهب، والذى عندى أنه لا يكفر ولا يكفر من خطرت فى قلبه أو سمعها ولم نعلم حكمها، بل يعتقد أنه تعالى ليس كمثله شىء والباء بمعنى عن أو فى، أى فى شأن صفة من صفات الله ووجه الله أهو الله، وأما المسئول فهو من سأله مضطر محتاج فلم يعطه. وقد وجد أن يعطيه وجل الإعطاء أو سأله الإمام العدل أو نائبه الزكاة فمنع أو سئل الحق الواجب عليه فمنع كنفقة من تجب نفقته، وإقراء الضيف الواجب، أو سئل عن صفة من صفات الله فلم يعط الجواب لجهله، أو لكتم العلم فإنه يكفر عن المشهور كما مر كفر شرك، إذا جهل ما سئل عنه منها أو خطر فى قلبه أو سمعه، ولم يعلم حكمه ولا يكفر عندى. والباء فى هذا الوجه بمعنى عن أو فى أى فى شأن صفة من صفات الله ووجه الله هو الله، أو معنى لعن السائل إبعاده عن ساحة الزهاد وإدخاله فى نوع الحريصين، إذا بذل وجه الله سبحانه فى شىء، ومعنى لعن المسئول كذلك إذا اختار غير الله على الله وإن قلت نجدهما ملعونين بأحد المعانى السابقة، سواء ذكر السائل اسم الله أو لم يذكر، قلت: نعم لكن خص ذكر الله - جل وعلا - لأنه أشد أيقاعاً فى اللعنة على أوجهها فى المعانى السابقة، وذلك كله ما لم يسأل هجراً لبناء يسأل للفاعل الذى هو السائل، أو المفعول الذى هو المسئول، فنفرض كل مسألة لا يجوز للسائل أن يسألها إنها هى الهجر، فلا يكون المسئول فيها ملعوناً إذا رده، فمن الهجر السؤال عن ظهر غنى، والسؤال بصفة غير ثابتة للسائل، وسؤال المعصية ونحو ذلك فافهم، ومن الهجر أن يسأله ليلقيه فى مشقة العطاء أو الكفر تعنيتاً، فإذا عرف منه هذا لم يجب عليه الإعطاء ولو اضطر السائل إذا عرف منه ذلك القصد، ومن أراد الإطالة فى ذلك فعليه بتأليفى الذى أفردته فيه. والله أعلم. وإن قلت الرزق عندنا معشر الإباضية الوهبية وعند غيرنا ما مكن الله جل وعلا الحيوان من الانتفاع به، سواء كان حلالا أو حراماً، أو شبهة، وسواء كان مأكولاً أو مشروباً أو غيرهما، وسواء كان الحيوان إنساناً أو غيره، فهل تقول إن الله - جلا وعلا - مدحهم على الإنفاق ولو من حرام؟ قلت: لا نقول مدحهم على الإنفاق من حرام، بل إنما ينفقون من حلال، وبه مدحهم، ويدل على هذا وصفه إياهم بالاتقاء، فهم ينفقون الحرام والشبهات، فكيف يتناولهما حتى ينفقوهما؟ فوصفه إياهم بالإيمان بما نزل إلى سيدنا محمد وغيره صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الأنبياء، وقد حرم عليهم فى ذلك ما هو حرام من مال أو غيره، فكيف يتملكون الحرام وينفقونه، وقوله سبحانه وتعالى:
{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ونحو ذلك من الأدلة النقلية أو العقلية، وخالفتنا المعتزلة فى ذلك فقالوا: إن الحرام لا يسمى رزقاً، قلت يبطل قولهم بأنه لا شك أن من غصب شيئاً فأكله أما أكل رزقه وهو الصواب وإنما يعاقب على كسبه بالغصب، وما أكل رزق غيره فيلزمه أن يكون قد غلب قضاء الله، إذ قضاه رزقاً لغيره فأكله هو، فإن قالوا بهذا كفروا، وإن قالوا قضاه الله رزقاً لغيره ثم صيره رزقاً لغيره فقط شبهوه بخلقه وقالوا إنه تبدو له البدوات فيكفروا، والحق أن الله جل وعلا قضاه رزقاً لأكله وإن كان مالا انتفع به مالكه وغاصبه فقد قضاه جل وعلا رزقاً لكل منهما فى مدة مخصوصة، ويبطل قولهم أيضاً إنه قد يتقوت الإنسان طول عمره بحرام أو فى بعض عمره فيلزمهم أن يكون فى ذلك قد عاش بلا رزق من الله وهو خلاف قوله تعالى: { وما من دابة فى الأرض إلا على الله رزقها } ويبطله أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو ابن قرة: "لقد رزقك الله طيباً فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه، مكان ما أحل الله لك من حلاله" رواه ابن ماجه وغيره، من حديث صفوان بن أمية هكذا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فجاءه عمرو بن قرة فقال: يا رسول الله إن الله قد كتب على الشقوة فلا أرانى أرزق إلا من دفر بكفى، فأذن لى فى الغنى من فاحشة. فقال: لا إذن لك ولا كرامة، كذبت أى عدو الله لقد رزقك الله حلالا طيباً... إلخ" وحجة المعتزلة أن الله سبحانه يستحيل أن يمكن من الحرام، إذ منع الناس من الانتفاع به، وأمر بالزجر عنه، وأسند الرزق هنا إلى نفسه إيذاناً بأنهم منفقون الحلال الخالص، لأن إنفاق الحرام لا يوجب المدح. وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم لقوله: { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالا } ويرد عليهم بما ذكرنا آنفاً، وأن الله سبحانه وتعالى لم يمكنهم من الحرام رضا به، ولكن خلق الحرام وسبق القضاء بأكله وتناوله، ويؤخذ على كسبهم وتناولهم فى الأكل وغيره. ونقول: إسناد الرزق إلى نفسه للتعظيم والتحريض على الإنفاق، والمراد تعظيم الرزق، والتحريض على الإنفاق من الحلال. واختصاص الرزق فى الآية بالحلال لقرينة أنه لا يمدح الإنفاق من الحرام. وليس إسناد الأشياء التى لا تجوز إلى الله تعالى بممنوع ولا بقبيح، إذا أسندت إليه على جهة أنه خالق لها، فإنه هو الخالق لها لحكمة. وإنما القبيح تناول المكلف لها. والله أعلم. وقد قدم قوله: { وما رزقناهم } على قوله: { ينفقون } مع أنه متعلق به للاهتمام، أعنى على طريق العرب فى الاهتمام. ولست أريد أن الله - جل وعلا - يوصف بالاهتمام. وأيضاً قدمه لأن أواخر الآى نون قبلها مدة فلو أخره لكان هذه ميماً، والميم لو قربت من النون قد تغنى عنها، لكن لا مدة قبلها. ومن للتبعيض ونكتتها الكف بسط اليد بالإنفاق كل البسط. وذلك إنما ينهى عنه الإنسان إذا أدى به إلى الانقطاع كبقاء بلا ثوب يصلى به ويستر عورته أو إلى طمع فى الناس أو سؤالهم أو تضرر عظيم بجوع أو عطش أو إلى الإعراض عن الورع عند حضور الطعام مثلا، لشدة الحاجة إليه، أو إلى تضييع من لزمته نفقته، أو إلى معصية ما، أو فى معصية أو بإهمال نية. وقد تصدق أبو بكر وغيره من الصحابة بما عنده كله أجمع، على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرزق فى اللغة: الحظ، كقوله تعالى: { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } }. والإنفاق الصرف أو الإخفاء بالإذهاب، ألا ترى نافقاء اليربوع؟ والنفق الذى هو السرب فى الأرض؟ ونفاق السوق وهو ذهاب ما فيها بشرائه؟ رغبة فيه بل غالب ما فيه دون وفاء دال على الذهاب، والخروج كالنفث فانه إخراد ريق قليل أو ريح قليلة، وكالنفل فإنه التبرع بما عندك وكالنفار والنفاد، فإنه الوصول من جانب لآخر والنفود وهو انقضاء الشىء ضد البقاء { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } وكالنفف فانه السرب يذهب فيه الشىء ويخفى، وكالنفخ فإنه إخراج صوت وريح من فم أو أنف، وكالأنف من الشىء وهو التكبر عن الشىء والخروج عنه، وكالنفس فإنه خروج ريح من أنف. والنفس التوسع وهو خروج عن الضيق وكالنفظ والنقط وغير ذلك بل لو قيل كل لفظ فيه نون وفاء كذلك لصح، لكن بعض بظهور وبعض بتأويل.