التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٣٠
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ }: إذ ظرف زمان متعلق بقالوا أى قال الملائكة: أتجعل فى الأرض من يسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إذ قال ربك لهم: { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً } ولما قدمه وما يتصل به أظهره فيما بعد، وأضمر فيما بعد. قال الثانى: أو متعلق بمعطوف على خلق المحذوف، أى وبدأ خلقهم إذ قال ربك للملائكة، أو متعلق بمفعول محذوف لا ذكر محذوفاً أى واذكر الحادث إذ قال ربك للملائكة. حذف الحادث، وأقام الظرف مقامه، وبهذا أول قوله تعالى: { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه } فليست بدلا من أخا، بل الأصل: اذكر أخا عاد، اذكر الحادث إذ، ومن قال إن إذ، تنصرف، أجاز أن تكون بدلا من المفعول وهو أخا ومفعولا اذكر إذ اذكر بلا مفعول نحو، { واذكروا إذا كنتم قليلا } }، { { واذكروا إذا أنتم قليل } }، { { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } }، { { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } ومفعولا لاذكر مقدرا إذ لم يذكر، أى واذكر وقت قول ربك للملائكة، ووقت كونكم قليلا. وهو صحيح عندى، ألا ترى أنه يصرف إلى الإضافة نحو حيئنذ ويومئذ؟ فكيف لا يصرف إلى المفعول؟ وهو اسم وضع لنسبة ماضية هى النسبة فى الجملة التى أضيف إليها وقعت فيه أخرى هى نسبة ناصبة كما أن إذا وضعت لزمان نسبة مستقبلة، وقعت فيه نسبة أخرى، وبنيا لشبه الحرف فى الافتقار لا لشبه الموصول، نعم هما شبيهان به فى لزوم الجملة بعده، وفى إذ سبب آخر هو الوضع على حرف، وفى إذا سبب آخر هو شبه أن الشرطية فى المعنى وقد استعمل إذ فى الاستقبال، أو فى التعليل، أو فى الجواب والجزاء، نحو: أكرمك إذ أكرمتنى، وكذا إذا استعمل لثلاث نحو: إذا أكرمتنى أكرمتك. والتى ينصب المضارع بعدها هى إذا، وإذا حذف ألفها للساكن. وقال معمر بن المثنى وأبو عبيدة: إذ زائدة للتأكيد فى جميع القرآن. وليس بصحيح لأن الأصل عدم الزيادة ولا سيما فى الأسماء. وأضاف رب إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وخاطبه بالكاف تشرف من الله - جل جلاله - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إظهار اختصاصه به، والملائكة جمع ملك: مفتوحة، فلام ساكنة، فهمزة مفتوحة. فكاف. نقلت فتحة الهمزة للام قبلها، فحذفت الهمزة تخفيفاً. وردت فى الجمع فهو كشمائل جمع شمال. والأصل مالك بميم مفتوحة، فهمزة مفتوحة، فلام ساكنة. ثم أخرت الهمزة عن اللام، ونقل فتحها إليه وحذفت، وذلك أنه من الألوكة وهى الرسالة، لأنهم وسائط بين الله وبين الناس، فهم رسل الله. وأو كرسل بنى آدم من الله تعالى إليهم. ولو جمعا على هذا الأصل، لقيل مآلكة: بميم فهمزة مفتوحتين، فالألف، فلام مكسورة والتاء لتأنيث الجمع. قاله الزمخشرى قال السعد: أى لتأكيد تنيث الجمع. وقيل للمبالغة، كتاء علامة ونسابة وراوية. والأول هو الصحيح. والميم زائدة كما علمت. وقيل الميم أصل من الملك، بكسر الميم أو فتحها، وهو القوة. فالهمزة فى الجمع على خلاف القياس، زائدة فيه. ليس فى لفظ المفرد ولا فى تقديره. وزيادة الميم هو قول الجمهور. فقدر الهمزة فى المفرد. والملائكة أجسام لطيفة من نور، وقيل من غيره، لكنها تضىء كالنور، وليست لحما ولا دما ولا عظما، قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، وهكذا تراهم الرسل، وقالت طائفة من النصارى: إن الملائكة هى أرواح الفضلاء الطيبين، من بنى آدم، الذين ماتوا ومن اعتقد هذا حكمنا بإشراكه لقيام الأدلة القاطعة على أن الملائكة ليسوا بذلك، من الأحاديث الدالة على أن بعضا خلق من النور، وبعضاً من الذكر ومن اعتقد غير ذلك فهو مخالف للإجماع والواجب أن تعلم أن كل جملة غير الأخرى: الملائكة جملة، والجن جملة، وبنو آدم جملة. فإذا قلنا: إن الملائكة أرواح الموتى الفضلاء: لزم أن يكونوا من بنى آدم. وأيضاً قامت الأدلة أن الملائكة تبعث على حدة، فيلزم من أن يكون بنو آدم مبعوثين بلا روح آخر، او غير مبعوثين، أو مبعوثين بأرواح غير ما كانت فيهم فى الحياة الدنيا. وذلك كله شرك، لأنه إنكار للبعث، الموصوف شرعاً بأنه بأرواح وحياة، وأنه لا يترك منهم شىء غير مبعوث مما كان فيهم فى الدنيا، فكيف يبعثون بدون الروح التى كانت فيهم؟ وإنما ينادى الملك: أيتها الأرواح ارجعى إلى أجسادك. وزعم الحكماء أنها جواهر مجردة، مخالفة للنفوس الناطقة فى الحقيقة، فهى أرواح لم تكن فى أجساد.
والملائكة قسمان: قسم للعبادة وهم العليون والمقربون والكربيون قال الله جل وعلا:
{ يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وقسم لخدمة ما أمر الله به من وحى وسحاب ورجم وغير ذلك. فمنهم المدبرات أمراً أوهم كلهم المدبرات أمرا. أعنى القسم الثانى: بعضهم سماوى وبعضهم أرضى، قال الله تعالى: { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وإن قلت فمن المراد بالملائكة فى قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } قلت الذى يظهر لى من السياق: أنهم الملائكة الذين فى الأرض، يومئذ سكنوها واختصوا بها، كما توصف اليوم بسكانها. ووصفت ملائكة السماوات بسكونهن. ألا ترى إلى لفظة الخليفة مع قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا.. } إلخ، وقولهم: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ } ثم وجدت قولا بذلك لمن تقدمنى. وقيل المراد بهم الملائكة وإبليس المحاربون للجن. ودخل إبليس فى خطاب الملائكة وفى ذكرهم، لأنه فيهم، ومتعبد بعبادتهم، وقيل جميع الملائكة لعدم المخصص. وإن قلت لأى فائدة قال الله جل وجلاله للملائكة ما قال لهم؟. قلت: قاله لفائدة إقامة الحجة، فيذعن من يذعن وهم الملائكة ويعصى من يعصى ويكابر، وهو إبليس. وليقولوا ما يقولون، فيظهر لهم الحكمة فى جعل الخليفة، وليزدادوا خضوعاً إذا رأوا أن مخلوقا بشهوات وموانع عظيمة عن العبادة داعيات إلى المعاصى، اجتهد وخرقها، وأطاع الله، فيظهر لهم أن عبادته أفضل من عبادتهم، وللتبشير به بشر به الملائكة، فجوابهم له تعجب، كيف يكون هذا من جنس من يفسد ويسفك الدماء مبشراً به، لعدم علمهم بالسبب الحقيق، ولتعظيمه بتسميته خليفة، قبل خلقه ولإظهار فضلة الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم: أتجعل فيها؟: وجوابه: { إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ولبيان أن المعتبر الغالب فى آدم - عليه السلام - الطاعة، فلا يترك الله - عز وجل - خيراً كثيرا لشر قليل، ولتعليم المشاورة فيشاور العظيم، ومن هو دونه من أهل الثقة والنصح، وإن كان غنيا بعلمه وحكمته، قبل إقدامه على أمر، وليصونهم عن اعتراض الشبهة، بعد جعل الخليفة، فإن الاعتراض بعد الفعل أعظم منه قبله، لأن فيه إبطالا للفعل والرأى وإزراء بالفاعل وهذا فى غير الملائكة. وأما هم فمنزهون.
{ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً }: أى مصير فيها خليفة. فجاعل من الجعل التصييرى متعد لاثنين، الأول خليفة والثانى فى الأرض. أو خالق فيها خليفة، فهو من الجعل بمعنى الخلق، متعد لواحد وهو خليفة، وفى الأرض متعلق على هذا بجاعل. وإنما نصب جاعل مفعولين أو المفعول لأنه للاستقبال، ومعتمد على مسند إليه وهو الياء. والمراد بالأرض الأرض مطلقاً، لعموم اللفظ. وقال ابن سابط عن النبى صلى الله عليه وسلم: إن الأرض هنا هى مكة، لأن الأرض دحيت من تحتها، ولأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء. وإن قبر نوح وهود وصالح بين المقام والركن. والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه. وقرئ خليقة بالقاف أى نفسا مخلوقة، أو نفوسا مخلوقة. والجمهور يقرءون خليفة بالفاء، والتاء فيه تاء النقل من الوصفية إلى الاسمية، إذ أصله وصف وقيل للمبالغة، والمراد بالخليفة آدم - عليه السلام - لأنه خليفة الله فى أرضه، بمعنى أنه يعمل فيها بأمره وشرعه، وكل من يعمل فى موضع بأمر غيره فهو خليفته فيه. فمن يعمل بالمعصية فهو خليفة إبليس - أعاذنا الله من ذلك - وكل نبى خليفة الله - سبحانه وتعالى - فى عمارة الأرض بالعدل، وسياسة الناس، وتكميل النفوس، وليس ذلك لحاجة به تعالى عنها، ولكن خلق الناس غير مطيقين لسماع كلام يخلقه الله بلا واسطة، ولا لسماع كلام الملائكة وخلق الأنبياء مطيقين على سماع كلام الملائكة، فكانوا وسائط إلى الناس، وأطاق الملائكة على سماع كلام يخلقه الله جل وعلا وأطلق عليه بعض الأنبياء: كموسى عند إرادة اقتباس النار، وعند المناجاة. وسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، إذا قيل إنه سرى بجسده، ولا نقول إنه رأى الله. فالنبى بين الملك والناس، كالغضروف بين اللحم والعظم، لعجز العظم عن أخذ الغذاء من اللحم، لتباعد ما بينهما إلا بالغضروف. وإن قلت لم ذكر الله - جل وعلا - آدم وحده دون ذريته؟ قلت: لأنه وحده الخليفة، ولما مات كان ولده الصالح خليفة عنه، فولده خليفة الخليفة. وهكذا كل متأخر خليفة عن متقدم. ولك أن تقول أشار بآدم إلى آدم وبنيه، كما يقال مضر ويراد القبيلة وأبوها المسى مضر. ويطلق اسم أبو القبيلة عليها فقط أيضا. ويجوز أن يكون المراد بالخليفة: جنس من يكون خليفة، فيشمل آدم وذريته. وقول ابن مسعود رضى الله عنه: خليفة منى فى الحكم يحتمل آدم وحده، ويحتمل آدم وذريته، لكنه نص فى أن الخلافة عن الله - عز وجل - قال ابن عباس - رضى الله عنه - كانت الجن قبل بنى آدم فى الأرض، فأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة فقاتلوهم. ولحقوا أكثرهم بجزائر البحار ورءوس الجبال. وخلق آدم وذريته وجعلهم خليفة. فهذا يتبادر منه أن المراد فى الآية الخلافة عن الجن وقيل أرسل إليهم قبيلا من الملائكة، وجعل رئيسهم إبليس فقاتلوهم ودمروهم وألحقوهم بالجبال والجزائر. وقيل الخليفة آدم وأنه سمى خليفة لأنه تخلفه أولاده. وذكر الكلبى أن الله - تعالى - جعل الملائكة عمار السماوات، ولكل أهل سماء دعاء وتسبيح وصلاة، وكل أهل سماء أشد عبادة وأكثر ممن تحتها. وكان إبليس فى جند من الملائكة فى السماء الدنيا، وكان الجن الذين خلق أبوهم من النار عمار الأرض. ولما وقع فيهم التحاسد والعتو اقتتلوا. فبعث الله جندا من الملائكة من السماء الدنيا فيهم إبليس وهو رأسهم ليجلوهم عن الأرض فألحقوهم بجزائر البحار. وسكن إبليس وجند الملائكة، فهان عليهم العمل فيها، وأحبوا المكث فيها، ثم أذن الله أن يخلق آدم وذريته فيكونوا هم عمار الأرض، فقال للملائكة الذين فى الأرض وإبليس: { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً } ورافعكم منها، فوجدوا من ذلك فقالوا: ما ذكر الله - عز وجل - عنهم بقوله:
{ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }: بالمعاصى، وقيل بالشرك.
{ وَيُسْفِكُ الدِّمآء }: الاستفهام لمجرد التعجب. إذ لم يعلموا ما السبب فى استخلاف من يفسد ويسفك، عمن لا يعصى طرفة عين، وليس اعتراضا على الله، لأن الاعتراض عليه كبيرة، وهم معصومون من الصغيرة والكبيرة، عندنا وعند جمهور قومنا، وزعم بعض قومنا أنهم غير معصومين، لاعتراضهم على الله - جل وعلا - وقد علمت أى ذلك تعجب لا اعتراض ولقصة هاروت وماروت، وسيأتى الجواب عنها، إن شاء الله، قال الله - عز وجل:
{ { وهم بأمره يعملون } }. وقال قبله: { لا يسبقونه بالقول } ومن اعترض على أحد فقد سبقه بالقول، بمعنى صدر عن مراده، وكذلك ليس قولهم ذلك طعنا فى بنى آدم، على العموم، لأن ذلك بهتان. ولا فى من يعصى ويفسد ويتوب، لأن ذلك غيبة. بل إما طعن فيمن لا يتوب، وبغض له فى ذات الله لا انتصار لهم، وإما غير طعن بل مجرد تعجب وطلب لعلم السبب، لتزول شبهتهم، كما يسأل المتعلم والجاهل عما يعترض فى قلبه مما لا يجوز اعتقاده، ولم يشكا فى الدين، ولكن يجيبهما العالم. فكذلك هم تكلموا بتعجب ليخبر الله - جل وعلا - بالحكمة التى تلاشت فيها المفاسد والسفك، حتى اقتضت خلق من يفسد ويسفك، بدل من لا يعصى طرفة عين. وإن قلت من أين علموا أن بنى آدم يفسدون ويسفكون؟.. قلت: قالوا ذلك قياساً على الجن لأنهم رأوهم فى الأرض قد أفسدوا وسفكوا، وعلموا ذلك منهم حتى قتلوهم بأمر الله - جل وعلا - كما مر. فقاسوا عليهم بنى آدم لأن الله - جل وعلا - أخبرهم أنه يسكنهم الأرض كما أسكن الجن فيها، وليسو مخلوقين فى غير الأرض. ثم أسكنوا الأرض كالملائكة، أو لأن الله أخبرهم أنه يخلقه من أشياء متضادة، كالماء الحار والبارد، والملح والعذب، والتراب الخشن واللين، فعلموا أن هذه الأشياء تتدافع وتتنافر فتحصل منها المفاسد والسفك، أو علموا أنه لا قوة واحدة تدعو للعبادة، وهى القوة العقلية، وقوتين شهوية وعصبية مؤديتين للمعصية، والواحد لا يقوى على اثنين. فتعجبوا ما الحكمة فى استخلافه مع أن الحكمة لا تقتضى خلقه فضلا عن استخلافه، لما فيه من القوتين الشهوية والعصبية، وأخبرهم الله بأنهم يكون منهم الإفساد والسفك، أو تلقوا ذلك من اللوح المحفوظ. أو ركز فى عقولهم أن المعصية من خواصهم، أو أعلمهم الله أنها من خواصهم، أو تلقوها من اللوح، أو قال الله لهم جل وعلا: { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرضِ خَلِيفَةً } بعدما خلقه من أشياء متضادة، وعلموا أنه مخلوق منها. وذلك قبل نفخ الروح أو بعده، فقالوا ذلك لعلمهم أن الأخلاط تؤدى للتنافر، فيحصل بها الحقد والغضب كما علمت، أو لما روى أن الله - تعالى - خلق النار، فخافت الملائكة وقالوا لمن خلقت هذه النار؟ قال لمن عصانى فلما قال: { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرضِ خَلِيفَةً } قالوا هذا الخليفة يكون منه من خلقت لهم النار. فهذه أوجه محتملة. قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون، فقالوا ذلك تعجباً من استخلاف الله من يعصيه، أو تعجب الملائكة إلى آخر تعديد نعمة تعم الناس كلهم، لأن خلق آدم وإِكرامه وتفضيله على الملائكة بأن أمرهم بالسجود له إنعام يعم ذريته، أو تعجباً من عصيان من يستخلفه الله، وينعم عليه بالاستخلاف ومن استخلاف من يعصيه. وقال أحمد بن يحيى تغلب: رأت الملائكة وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم من الدماء فى الأرض، فجاء قولهم: { أَتْجْعَلُ فِيهَا.. } الآية. على جهة الاستفهام المحض،هل هذا الخليفة يا ربنا على طريقة من تقدم من الجن أم لا؟. وقال قوم: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق فى الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء. فلما قال لهم سبحانه بعد: { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً } قالوا ربنا أتجعل فيها؟ على جهة الاسترشاد. هل هذا الخليفة هو الذى كان أعلمهم به سبحانه قبل أو غيره. والاستفهام على القولين حقيقى لا تعجبى. وأما قول ابن جرير الطبرى: قولهم أتجعل فيها ليس بإنكار لفعله - عز وجل - بل الاستخبار هل يكون الأمر هكذا؟ فليس جاريا على الاستفهام الحقيقى كم قد يتوهم، بل تعجبى لأنهم علمو أن الأمر يكون هكذا. فقالوا هل يكون الأمر هكذا؟ وقيل إن العبد المخلص فى حب سيده يكره أن يكون له عبد آخر يعصيه فكان سؤالهم على وجه المبالغة فى إعظام الله - جل وعز - وهذا أيضاً غير خارج عن التعجب كما قد يتوهم، ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقيا بطريق آخر غير ما تقدم، وهو أن يتسلط على القيد الذى هو الحال المقرونة بالواو فى قوله:
{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }: ولا نشرك كما يشرك جنس الخليفة.
{ وَنُقَدِّسُ لَكَ }: كأنهم قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ ونحن باقون على التسبيح والتقديس؟ أم نتغير عن هذا الحال؟ وقولهم: نحن نسبح بحمدك.. إلخ على هذا الوجه استخبار على بقاء التسبيح والتقديس. وأما على أوجه التعجب والاستفهام غير هذا الوجه، فهو تمدح ووصف لحالهم، كقول يوسف: إنى حفيظ عليم. وهو أيضاً حال. وماضى سفك يسفك، بفتح الفاء، وقرئ يسفك. بضم الفاء، وماضيه، مفتوح الفاء، كذلك. وقرئ يسفك، بضم الياء وإسكان السين وكسر الفاء، مضارع أسفك بالهمزة بمعنى المجرد منها وقرئ يسفك بضم الياء وفتح السين وكسر الفاء مشددة، وهذا عندى للمبالغة لا لموافقة المجرد. وقرئ يسفك بالبناء للمفعول وإسكان السين، ورفع الدماء. وعلى هذه يكون الرابط محذوفاً، أى من يسفك فيهم الدماء. والسفك صب الدم أو الدمع فى اللغة. والمراد هنا الأول. كما صرح به لفظ الدماء. والسبك فى الجواهر المذابة كالفضة، يقال سبكت الفضة بمعنى أذبتها وأفرغتها فى قالب من القوالب.. والسبك الصب من أعلى والشن بالشين والسين، فى الصب من فم القربة ونحوها، وسننت التراب صببته، بالسين، وسننت الماء على وجهى متفرقا، بالسين، صببته. وإن صببته فى الأرض مثلا متفرقا فبالشين. والتسبيح عن الشىء الإبعاد عنه، أى نبعدك عما لا يليق بك من الصفات، يقال سبح فى الأرض والماء: إذا ذهب فيهما إلى مكان بعيد إلى أمام أو تحت. والأصل نسبحك فحذفت الكاف. أو نسبح لك، على أن اللام تأكيد، أو على تضمين نسبح معنى تخضع، والتسبيح حقيقة فى الذهاب فى الماء فقط، مستعار فى غيره. وبحمدك متعلق بمحذوف جوازا حال من الضمير فى نسبح، أى ملتبسين بحمدك، والباء للإلصاق المجازى، إذ بمعنى مع أى ثابتين مع حمدك، ومعنى الالتباس والاصطحاب المقارنة بلا فصل يفتتحون الحمد عقب ختم التسبيح، قال قتادة: تسبيحهم قولهم سبحانه على عرفه فى اللغة، وبحمدك معناه نصل التسبيح بحمدك، فتراه صرح بالوصل به بعده، ولم يتكلف اتحاد الوقت. وروى البخارى ومسلم عن أبى ذر:
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أى الكلام أفضل؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحانه الله وبحمده" فتراه أشار إلى تسبيحهم بحمده هو قولهم: سبحانه الله وبحمده، فترى الحمد بعد التسبيح متصلا به. وأما أن يجعل أحدهما بالقلب والآخر باللسان ليتحد الوقت فتكلف، ويأتى كلام فى ذلك. وقال ابن عباس وابن مسعود: تسبيح الملائكة صلاتهم. ولك تعليق بحمدك نسبح أى ننزهك بالثناء عليك. فإن التلفظ بلفظ الثناء تنزيه له - تعالى - والتقديس أيضاً الإبعاد. قدست الله أبعدته عن النقص، وقدس عمرو فى الأرض أبعد فيها. والتقديس بمعنى التطهير مجاز مفرع على معنى الإبعاد، واللام للتأكيد، والأصل ونقدسك. ويجوز أن يكون قولهم يحمدك تبرأ عن الحول والقوة إلى الله، كأنهم قالوا نسبحك بإذنك وتوفيقك إيانا إلى المعرفة والتسبيح، ويناسبه تكبير التسبيح بالتنزيه، وتفسيره بالصلاة، قال أبو ذر: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى: سبحانه الله وبحمده" وعنه صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" ويجوز أن تكون لام لك للتعليل، ومفعول نقدس محذوف، أى نبعد أنفسنا أو نطهرها من الذنوب لأجلك، ولا نعصى كما يعصى من يستخلفك بسفك الدماء، الذى هو من أعظم الأفعال الذميمة، وقال الضحاك: معنى نقدس لك: نظهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك، فهلى لام شبه التمليك. وقال آخرون: نعظمك ونظهر ذكرك مما لا يليق به. وكذا قال مجاهد. والله أعلم. قال بعض الأندلسيين: حكى جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن على: أن سبب وضع البيت فى الأرض والطواف به أن الله - تعالى - قال للملائكة: { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتْجَعْلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لك }؟ قال خلف بن ياسين: بلغنى أن الله - تبارك وتعالى - أعرض عنهم ثلاثمائة سنة قبل أن يجيبهم، فخافوا أن يكونوا قد سخط عليهم الله فى إعراضه إذ لم يوح عليهم، فطافوا حول العرش ثلاث مائة سنة، وطافوا حوله ثلاث طوفات يدعون ربهم ويسترضونه، واستغفارهم: { غفرانك ربنا وإليك المصير } فرضى عنهم وأجابهم بما ذكر الله عز وجل بقوله:
{ قَالَ إِنِّى }: بفتح الياء عن نافع وابن كثير وأبى عمرو، وإسكانها عند الباقين. وكذا فى قوله:
{ ألم أقل لكم إنى أعلم } }: { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }: وقال لهم ابنوا لى بيتا فى الأرض، يعوذ به من سخطت عليه من بنى آدم، ويطوف حوله كما فعلتم بعرضى فأرضى عنكم. فبنوا له الكعبة، ومعنى { إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنى أعلم من وجوه المصلحة والحكمة فى جعل الخليفة فى الأرض. وقيل: أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم. وقيل: أعلم من يطيعنى وهم الأنبياء والأولياء والصالحون، ومن يعصينى وهو إبليس. قال قتادة: لما قالت الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا... } إلخ وقد علم الله أن فيمن يستخلف فى الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعته قال: { إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعنى أفعال الفضلاء. قال ابن عباس: أعجب إبليس بنفسه ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا، واعتقد أن ذلك لمزية، فلما قالت الملائكة: { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَك } وهم لا يعلمون أن فى نفس إبليس خلاف ذلك، قال الله سبحانه وتعالى: { إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعنى ما فى نفس إبليس. ويجوز أن يكون المعنى إنى أعلم ما لا تعلمون من غلبة القوة العقلية، على القوة الشهوية والغضبية، فإنهما تضمحلان فى القوة العقلية اضمحلال الظلمة عند النور، ومن أنه إذا زادت غلبة العقلية عليهما استعملهما حيث يريد، وصارتا مطواعين له، فيستعمل الغضبية فى جهاد المشركين والمنافقين، وفى قهر النفس والشيطان، فيغضب عليهما فيجتهد فيما يغضبهما، وفى الأمر والنهى غضبا لله من قلبه، مع غضب بدنه ولسانه، إذا كان الصالح غضبهما، ويستعمل الشهوية فيما يشتهيه من أمر الآخرة والدين وإعزازه وإقامته، فإن الملائكة لما علموا بالقوى الثلاث: القوة الشهوية والغضبية والعقلية ترجح عندهم أو تعين أن الواحدة لا تغلب اثنتين وغفلواعما ذكرت. وعن المخلوق يحصل ما لا يحصله غير المركب من نوعين فصاعداً، ألا ترى الأدوية المركبة، كيف تنفع نفعا لا تفيده الأجزاء التى تركب منها، كذلك الإنسان لما تركب من أجزاء مختلفة، وقوى متباينة، صار مستعدا لإدراك أنواع المدركات: من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات، مستنبطاً للصناعات ومحيطا بالجزئيات ومستخرجا لمنافع الكائنات من القوة إلى الفعل، من عبادة وصناعة، وآراء سديدة، وسياسات مما به صلاح الدين والدنيا. والله أعلم. وذلك مقصود بالاستخلاف لكون فوائد استخلافه لا يحصيها إلا خالقها، أجابهم بجواب مبهم تفخيما له إذ قال: { إِنَّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ولم يقل إنى أخلقه لكذا. قال فى عرائس القرآن: قالت الحكماء خلق الله تعالى الخلق ليظهر وجوده، فلو لم يخلق الخلق لما عرف أنه موجود، وليظهر كمال عقله وقدرته، بظهور أفعاله المتقنة، لأنها لا تتأتى إلا من قادر حكيم. وليعبد فإنه تجب له عبادة العابدين، ويثيبهم عليهم على قدر أفعاله لا أفعالهم، وإنه غنى عن عبادة خلقه لا تزيد فى ملكه طاعة المطيعين، ولا تنقص من ملكه معصية العاصين، قال الله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وليظهر إحسانه أنه محسن، وأوجدهم ليحسن إليهم وليتفضل عليهم بفضله، لأنه يقضى بالعدل وخلق المؤمنين خاصة للرحمة. كما قال الله عز وجل: { وكان بالمؤمنين رحيما } وقال: { { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } وقال جعفر بن محمد الصادق والضحاك: أى للرحمة خلقهم وليحمدوه، فإنه يجب له الحمد. ويروى أن آدم عليه السلام لما خلقه الله تعالى، عرض عليه ذريته، ووجد فيهم الصحيح والسقيم، والحسن والقبيح، والأسود والأبيض. قال: يا رب هلا سويت بينهم، فقال الله تعالى: إنى أحب أن أشكر. قال أبو الحسن: خلق الله تعالى الملائكة للقدرة، وخلق الأشياء للعزة، وخلق بنى آدم للمحبة. قال الله تعالى: { الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم } قالت العلماء: خلقكم لإظهار القدرة، ثم رزقكم لإظهار الكرم، ثم يميتكم لإظهار القهر، ثم يحييكم لإظهار الفضل والعدل والثواب والعقاب.
ومنهم من قال: خلق الخلق جميعاً لأجل محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس رضى الله عنه: أوحى الله تعالى إلى عيسى - عليه السلام - أن آمن بمحمد وأمر أمتك يؤمنوا به. ولولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن. قيل خلقهم لأمر عظيم غيب عنهم، لا يظهره حتى يحل بهم ما خلقهم له. قال الله تعالى:
{ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } قال على بن أبى طالب: يا أيها الناس اتقوا ربكم، فما خلق امرؤ عبثا فيهملكم. قال الأوزاعى: بلغنى أن فى السماء ملكا ينادى كل يوم: ألا ليت الخلق لم يخلقوا، ويا ليتهم إذا خلقوا عرفوا لماذا خلقوا، وجلسوا فذكروا ما عملوا. وكان ابن عبد الرحمن الزاهد يقول فى مناجاته: اللهم غيبت عنى أجلى، وأحصيت على عملى، ولا أدرى إلى أى الدارين تصيرنى، لقد أوقفتنى وقفة المحزونين ما أبقيتنى. وقال أبو الهيثم الحكيم إن الله تعالى جعل ابن آدم بين البلوى والبلى فما دام الروح فى جسده لا يخلو من البلوى، فاذا فارق الروح صار إل البلى، فأنى له السرور وهو بين البلوى والبلى؟ وكان بعض الحكماء يقول: يا ابن آدم انظر إلى خطر مقامك فى الدنيا، إن ربك حلف لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين. وإن إبليس حلف فقال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين. فأنت المسكين بين الله وبين إبليس، مطروح لاه ساه، ولما أراد الله خلق آدم عليه السلام، أوحى الله إلى الأرض إنى خالق منك خلقاً منهم من يطيعنى ومن يعصينى، فمن أطاعنى أدخله الجنة ومن عصانى أدخلته النار. ثم بعث إليها جبريل عليه السلام ليأتيه بقبضة من تراب الأرض، فما أتاها ليقبض منها القبضة قالت الأرض: إنى أعوذ بعزة الله الذى أرسلك أن تأخذ منى اليوم شيئاً يكون فيه للنار نصيب، فرجع جبريل عليه السلام إلى ربه، ولم يأخذ منها شيئاً. فقال: يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأمر الله ميكائيل فأتى الأرض فاستعاذت بالله أن يأخذ منها شيئاً، فقال: يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها. فبعث الله ملك الموت فأتاها فاستعاذت بالله أن يأخذ منها شيئاً فقال: وأنا أعوذ بالله أن أعصى له أمرا، فقبض من أعلاها من سبختها وطيبها وأبيضها وأحمرها وأسودها، فكذلك فى بنى آدم الطيب والخبيث، والصالح والطالح واختلفت صورهم وألوانهم. قال الله عز وجل: { ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قبض قبضة من جميع الأرض، سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك يأتى بنوه أخيافا" رواه الحاكم وصححه والبيهقى. والحزن: ما غلظ من الأرض. والأخياف: مختلفون فى اللون والخلق والهيئة. وقال أبو موسى الأشعرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله آدم من طينة من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأبيض والأحمر والأسود، والسهل والحزن، والحسن والقبيح، والخبيث والطيب" . وعن ابن عباس: خلق الله آدم من طينة بيضاء وحمراء وسوداء ثم صعد بها ملك الموت إلى الله تعالى فأمر أن يجعلها طينا بالماء المر والعذب ولمالح فعجنها ثم جعلها طينا فخمرها، فلذلك اختلفت أخلاقهم، ثم أمر جبريل أن يأتى بالتربة البيضاء التى هى قلب الأرض وبهاؤها ونورها، ليخلق منها محمداً صلى الله عليه وسلم، فهبط جبريل فى ملائكة الفردوس المقربين والكروبيين والملائكة الأعلى، فقبض قبضة من موضع قبر النبى صلى الله عليه وسلم، وهى بيضاء نقية، فعجنت بماء التسنيم وصارت كالدرة البيضاء، ثم غمست فى أنهار الجنة، وطيف بها فى السماء والأرض، فعرفته الملائكة قبل أن تعرف آدم عليهما الصلاة والسلام، ثم عجنها بطينة آدم عليه السلام، ثم تركها أربعين سنة، وصارت طيناً لازبا، ثم أربعين سنة وصارت صلصالا كالفخار، وهو الطين اليابس، الذى إذا ضربته صلصل أى صوت، ليعلم أن أمره بالصنع والقوة لا بالطبع والحيلة، فإن الطين اليابس لا ينقاد ولا يتأتى تصويره، ثم جعله جسدا وألقاه على طريق الملائكة، التى تهبط وتصعد فيه أربعين سنة. فذلك قوله تعالى: { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا } قال ابن عباس - رضى الله عنهما - الإنسان دم والحين أربعون سنة كان آدم حينئذ ملقى على باب الجنة. وفى صحيح الترمذى بالإسناد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تفسيره سورة البقرة: "إن الله تعالى خلق آدم بيده أى بقدرته، من قبضة قبضت من جميع الأرض: السهل والوعر والجبل، والأسود والأبيض والأحمر. فجاءت أولاده على ألوان الأرض" وسأل عبد الله بن سلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف خلق الله آدم؟ قال: خلق وجهه من أرض الحجاز، وصدره وظهره من بيت المقدس، وفخذيه من أرض اليمن، وساقيه من أرض مصر، وقدميه من أرض الحجاز أيضاً، ويده اليمنى من أرض المشرق، واليسرى من أرض المغرب، ثم ألقاه على باب الجنة فكلما مر به ملك من الملائكة عجب من حسن صورته وطول قامته ولم تكن الملائكة قبل ذلك رأت شيئاً يشبهه فى الصور. فمر به إبليس فرآه ثم قال: لأمر ما خلقت ثم ضربه بيده، فإذا هو أجوف، فدخل من فيه وخرج من دبره. وقال لأصحابه الذين معه من الملائكة هذا خلق أجوف لا يثبت ولا يتماسك، أى لا يثبت فى الهواء كالطير والملك والجن. وروى لا يتمالك أى لا يصير ملكاً ثم قال: أرأيتم أن فضل هذا عليكم ما أنتم صانعون؟ قالوا: نطيع ربنا، فقال إبليس فى نفسه: والله لا أطيعه، ولئن فضل على لأهلكنه، فذلك قوله تعالى للملائكة: { وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } يعنى ما أظهرت الملائكة من الطاعة وما أسر إبليس فيهم وهو من المعصية فقال: { إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين } وفى الخبر أن جسد آدم بقى ملقى أربعين سنة يمطر عليه الحزن، ثم أمطر عليه السرور سنة واحدة، فلذلك كثرت عليهم الهموم فى أولاده، وتصير عاقبتهم إلى الفرح والراحة. وأنشد ابن عوانة الأهرجانى:

يقولون إن الدهر يومان كله فيوم مخالفات ويوم مكاره
وما صدقوا فالدهر يوم مخافة وأيام مكروه كثير إذاؤه

وأنشد ابن الأعرابى:

محن الزمان كثيرة لا تتقى وسروره يأتيك فى الفلتات

وأنشد أبو بكر الموصلى لابن المعتز:

أى شىء تراه أعجب من ذا لو تفكرت فى صروف الزمان
حادثات السورة توزن وزنا والبلايا تكتال فى المكيال

ولما أراد الله - تعالى - نفخ الروح فى آدم - عليه السلام - أمرها أن تدخل فيه، فقالت الروح: كيف أدخل بعيد القعر مظلم المدخل؟ فقال الله لها ذلك ثانية، فقالت كذلك، وقال ثالثة فقالت ذلك، فقال فى الرابعة: ادخلى كرهاً وستخرجين كرهاً، فدخلت فى دماغه، وبقيت فيه مائتى سنة، ثم نزلت فى عينه، والحكمة فى ذلك أن ينظر آدم إلى بدء خلقه، ويرى باقى جسده طيناً يابسا، لئلا يزهو ويعجب بنفسه، إذا تتابعت عليه الكرامات. ثم نزلت إلى خياشيمه وفمه، فعطس بعد فراغه، فلقنه الله تعالى، فقال: الحمد لله رب العالمين. فكان ذلك أول من جرى على لسانه، فأجابه الله عز وجل: يرحمك الله يا آدم، للرحمة خلقتك. وقال تعالى: ورحمتى سبقت غضى. ثم نزلت إلى صدره، فأخذ يعالج القيام فلم يمكنه. وذلك قوله: { وكان الإنسان عجولا } }. ولما وصلت الروح إلى جوفه اشتهى الطعام، فهو أول حرص دخل على آدم فى جسده. وفى بعض الأخبار أن آدم - عليه السلام - لما قال له ربه عز وجل: يرحمك الله، مد آدم يده ووضعها على أم رأسه، وقال أواه، فقال الله تعالى: ما لك يا آدم؟ فقال: إنى أذنبت ذنبا، فقال له: ومن أين علمت ذلك؟ فقال: إن الرحمة للمذنبين. فصار ذلك سنة فى أولاده، إذا أصابت أحدهم مصيبة أو محنة، وضع يده على رأسه وتأوه. ثم انتشرت الروح فى جسده كله، فصار لحماً ودماً وعظما وعروقا وعصبا، ثم كساه الله - تعالى - لباسا من ظفر يزداد كل يوم حسنا فلما قارف الذنب بدل بهذا الجلد، وأبقيت منه بقية فى أنامله ليتذكر به أول حاله.
قال عبد الله بن الحارث: كانت الدواب تتكلم قبل خلق آدم - عليه السلام - وكان النسر يأتى الحوت فى البحر فيخبره بما فى البر، ويخبره الحوت بما فى البحر. فلما خلق الله آدم جاء النسر إلى الحوت وقال: لقد خلق اليوم خلق ليزيلنى من وكرى، وليخرجنك من البحر. وفى رواية له قبض وبسط ولما نفخ الروح فيه قرطه الله وشنفه، وصوره وختمه ومنطقه، ألبسه من لباس الجنة، وزينه بأنواع الزينة، يخرج من ثناياه نور كشعاع الشمس، ونور محمد - صلى الله عليه وسلم - يلمع من جبينه، كالقمر ليلة البدر. ثم رفعه الملائكة فوق سرير على أكتافهم بأمر الله - عز وجل - وقال لهم: طوفوا به فى سماواتى ليرى عجائبها وما فيها وليزداد يقينا. وقالت الملائكة: لبيك ربنا سمعنا وأطعنا، فحملته الملائكة على أعناقها، فطافت به الملائكة السماوات مقدار مائة عام، حتى وقفوا به على كل شىء من آياتها وعجائبها. ثم خلق الله فرساً من المسك الأذفر، يقال له: الميمون له جناحان من الدر والمرجان، فركبه آدم - عليه السلام - وجبريل أخذ بلجامه، وميكائيل عن يمينه، وإسرافيل عن يساره، وآدم عليه السلام يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال الله - عز وجل - يا آدم هذه تحيتك وتحية المؤمنين من ذريتك فيما بينهم إلى يوم القيامة. وروى أن الله - جل وعلا - قال للأرض: إنى أخلق منك خلقاً: منهم من يطيعنى، ومن يعصينى، فمن أطاعنى أدخلته الجنة، ومن عصانى أدخلته النار. فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة. وروى أنه لما أخذ منها عزرائيل قبضة وصعد منها إلى السماء، سأله ربه - عز وجل - وهو أعلم عما صنع، فأخبره بما قالت الأرض وبما رد عليها، فقال الله عز وجل: وعزتى وجلالى لأخلقن مما جعلت به خلقاً، ولأسلطنك على قبض أرواحهم، لقلة رحمتك.
وإن عدو الله إبليس رآه أجوف فقال: هذا خلق لا يتمالك، أى لا يكون ملكا، أو لا يستقل من الطعام والشراب، بل يحتاج إليهما. وإنه لما وصلت الروح منخريه عطس، ولما بلغت لسانه قال: الحمد لله رب العالمين، وهى أول كلمة قالها، فناداه الله تعالى: رحمك الله يا أبا محمد، ولهذا خلقتك. وجعل فى رأسه سبعة أبواب: وهن الأذنان يسمع بهما، والعينان يبصر بهما والمنخران يشم بهمان والفم وفيه اللسان يتكلم به، والأسنان يطحن بهما، وبتاتين فى أسفل جسده وهما القبل والدبر، يخرج منهما ثفل طعامه وشرابه. وجعل عقله فى دماغه، وفكرته فى قلبه، وشرهه فى كلوتيه، وغضبه فى كبده، ورعبه فى رئته، وضحكه فى طحاله، وفرحه فى وجهه. فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم وينطق بلحم. قال صلى الله عليه وسلم:
"خلق الله آدم عليه السلام وطوله ستين ذراعاً، ثم قال: اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة، فاستمع ما يجيبونك فإنه تحيتك وتحية ذريتك. فقال: السلام عليكم، فقال السلام عليك ورحمة الله. وكل من يدخل الجنة على صورة آدم" . رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة. قال فلم يزل الخلق ينقص إلى الآن.
قال ابن عباس رضى الله عنهما: كان جسد آدم ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه، فمر عليه إبليس فقال: لأمر خلق هذا. ولما أسكنه الله سبحانه وتعالى الجنة، لم يكن فيها من يجالسه ويؤانسه، فألقى الله تعالى عليه النوم فنام فأخذ الله ضلعاً من أضلاعه من شقه الأيسر، يقال له القصير فخلق منه حواء من غير أن أحس آدم بذلك، ولا وجد له ألما. ولو ألم آدم من ذلك لما عطف رجل على امرأة أبداً، ثم ألبسها من لباس الجنة، وزينها بأنواع الزينة، وأجلسها عند رأسه. فلما انتبه من نومه رآها قاعدة عند رأسه، فقالت الملائكة لآدم يمتحنون علمه: ما هذه يا آدم؟.. قال: امرأة، قالوا: وما اسمها؟.. قال: اسمها حواء، قالوا: ولم سميت بذلك؟ قال: لأنها خلقت من شىء حى. قالوا: ولماذا خلقها الله؟ قال: لتسكن إلى وأسكن إليها. فذلك قوله تعالى:
{ وجعل منها زوجها ليسكن إليها } قال صلى الله عليه وسلم: "خلقت المرأة من ضلع أعوج، فإن تقومها تكسرها، وإن تركتها تنتفع بها على عوجها" . ويقال الحكمة فى الرجال، يزدادون على ممر الأيام والليالى حسناً وجمالا، والنساء يزددن على مر الأيام قبحاً، إنهن خلقن من اللحم، واللحم على مر الأيام يفسد. وفى بعض الأقاصيص أن آدم - عليه السلام - لما رأى حواء مد يده إليها، قالت الملائكة: مه يا آدم. قال: ولم وقد خلقها الله لى؟ قالت الملائكة: حتى تؤدى مهرها، قال: وما مهرها؟ قالوا: أن تصلى على محمد ثلاث مرات، قال: ومن محمد؟ قالوا: آخر الأنبياء من ولدك، لولا محمد ما خلقت. وروى سعيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يخلق جارية، بعث إليها ملكين أصفرين بالدر والياقوت، فيضع أحدهما يده على رأسها، ويضع أحدهما يده على رجليها، ويقولان: بسم الله ربنا وربك الله، ضعيفة خلقت من ضعيف، ينفق عليها إلى يوم القيامة" وقيل لما انتبه آدم من نومه، رآها جالسة عند رأسه، كأحسن ما خلق الله تعالى. فقال لها: من أنت؟.. قالت: زوجتك، خلقنى الله لك تسكن إلى وأسكن إليك. وذكر بعضهم أن إبليس كان يطوف بآدم قبل أن ينفخ فيه الروح ويقول: إن كنت أجوف فلى إليك سبيل، وإن لم تكن أجوف فليس لى إليك سبيل. وذكر بعضهم أن أول ما خلق الله فى الأرض: طير وحوت، فجعل الطير يخبر الحوت بخبر السماء، وجعلت الحوت يخبر الطير بخبر الأرض، فلما خلق الله آدم جاء الطير إلى الحوت فقال: لقد خلق اليوم خلق كذا وكذا، فقال الحوت للطير: لئن كنت صادقاً لينزلنك من السماء. وليخرجنى من الماء. قال الكلبى: أشفق إبليس عدو الله منه وقال: إنى لأرى صور مخلوق سيكون له بناء.