التفاسير

< >
عرض

فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ
٣٦
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَأَزَلُّهُمَا الشَّيْطَانُ }: إبليس أى أزلقهما أو أصدرهما أو أذهبهما، وأصل الزلل فى زلق القدم، فاستعمال الإزلال هنا فى معنى الإخراج والإذهاب مجاز، مبنى على مجاز آخر، وهو أنه لم يأخذهما فيخرجهما من الجنة، بل تسبب فى خروجهما بالوسوسة بقوله: { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } وقوله: { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } ومقاسمته أنى لكما من الناصحين، وليس الزلل حقيقة فى الرأى كالقدم كما قيل. وقرأ حمزة: { فأزالهما } من الإزالة، ومعنى الإزلال والإزالة متقارب، لأن فى كل منهما الإذهاب عن الموضع، لكنه الإزلال مع عثرة أو علة فى القدم أو فى الأرض.
{ عَنْهَا }: عن الجنة وهو المتبادر. وتدل له قراءة حمزة، ويجوز عود الضمير إلى الشجرة فحينئذ تكون عن سببية. أى حملهما عن الزلة بسبب الشجرة، ويدل له قراءة ابن مسعود: { فوسوس لهما الشطيان عنها }. فإن قلت كيف توصل إلى إزلالهما بعد ما قيل له
{ اخرج منها فإنك رجيم } قلت: أجاز الزمخشرى أن يمنع دخولها على وجه التقريب والتكرمة، كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخلها على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء، يعنى فيكونان مكلفين متعبدين بمخالفته كما كلفنا وتعبدنا بمخالفته. وقيل كان يدنو إلى السماء فيكلمهما، ولعل قائل هذا أراد السماء السابعة، فإن الجنة فيها، وخلق الله فى صوته ما يسمع به آدم وحواء فقط، أو فى سمع آدم وحواء ما يسمعانه به. ولو كان بينهما غلظ السماء أو خلق فى غلظ صوته ما يسمعانه به هما وغيرهما، ولم يؤمر غيرهما بطرده عن ذلك. أو دخل غلظ السماء قرب منهما ولم ينفذها، أو دخل بابا ولم ينفذه، أو كان يرى أن الجنة فى السماء الدنيا وخلق فيهما أو فيه ما ذكر. وقيل: قام عند الباب فناداهما، وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل فى فم الحية فدخلت به وهم لا يشعرون. وقيل: تمثل فى صورة دابة فدخل ولم يشعروا، وقيل كانت الجن تدخل الجنة وإنما منع منها إبليس وحده، فأرسل بعض أتباعه منهم، فأزلهما. فنسب الإزلال إليه لأنه آمر به ومحب له. وذكر بعضهم أن الحية كانت صديقة لإبليس. فلما منعته الخزنة من الدخول أتاها فسألها أن تدخله الجنة فى فيها فأدخلته وهم لا يعلمون به، مع أنها مرت عليهم. وكان لها أربع قوائم كقوائم البعير من أحسن الدواب. وكانت من خزان الجنة قيل وسم أنيابها من مكث إبليس فى فيها. ومسخها الله - عز وجل - لذلك ورد قوائمها فى بطنها. وقيل: كانا على باب الجنة وكانا يخرجان منها، وكان إبليس عدو الله قريباً من الباب، فوسوس لهما، وقد دخل مع آدم الجنة لما دخل. ورأى ما فيها من النعيم والكرامة. قال طيبا لو كان خلد فاغتنم ذلك منه الشيطان فأتاه من قبل الخلد. وقيل: لا معرفة آدم بعدم الخلد، وإنما عرفه من كلام إبليس. وقيل: إن إبليس - عدو الله - لما سمع بدخول آدم الجنة حسده، وقال يا ويلاه أأنا أعبد الله منذ كذا وكذا ألف سنة، ولم يدخلنى الله الجنة. وهذا خلق خلقه الله الآن فأدخله الله الجنة؟ فاحتال فى إخراج آدم عليه السلام، فوقف على باب الجنة ثلاثمائة سنة حتى اشتهر بالعبادة وعرفوه بها، وهو فى كل ذلك ينتظر خروج خارج من الجنة، فبينما هو كذلك إذ خرج الطاووس، وكان من سادات الطيور، فلما رآه إبليس قال: أيها الخلق الكريم على الله، من أنت وما اسمك؟ فما رأيت من خلق الله تعالى أحسن منك؟ قال أنا طائر من طيور الجنة اسمى طاووس، فقال له إبليس: إنا من الملائكة الكروبيين، وجعل يبكى، فقال له الطاووس: ما يبكيك؟ قال: إنما بكيت على ما يفوتك من حسنك وجمالك، قال له الطاووس: أيفوتنى ما أنا فيه؟ قال: نعم فإنك تفنى وتبيد، وكل الخلائق يبيدون إلا من تناول من شجرة الخلد، فهو من المخلد بين الخلائق، فقال الطاووس: أين تلك الشجرة؟ قال إبليس: إنا أدلك عليها إن أدخلتنى الجنة. قال الطاووس: كيف لى بإدخالك الجنة؟ ولا سبيل إلى ذلك بمكان رضوان. فإنه لا يدخل الجنة أحد ولا يخرج منها إلا بإذنه. ولكن سأدلك على خلق من خلق الله تعالى، يدخلها إن قدر على ذلك، فهو دون غيره فإنه خادم خليفة الله آدم، قال: من هو؟ قال: الحية. قال إبليس: فبادر إليها فإن لنا فيها سعادة الأبد، لعلها تقدر على ذلك، فجاء الطاووس إلى الحية فأخبرها بمكان إبليس وما سمع منه. قال. أنى رأيت بباب الجنة ملكاً من الكروبيين من قصته كيت وكيت، فهل لك أن تدخليه الجنة ليدلنا على شجرة الخلد؟ فأسرعت نحوه الحية فلما جاءته قال لها إبليس نحو مقالته للطاووس، فقالت: كيف لى بإدخالك ورضوان إذا رآك لا يمكنك من دخولها؟ فقال لها: أتحول ريحاً فتجعلينى بين أنيابك، قالت: نعم. فتحول ريحا ودخل فم الحية فأدخلته الجنة، فلما دخل أراهما الشجرة التى نهى الله عنها آدم، وجاء حتى وقف بين آدم وحواء، وهما يعلمان أنه إبليس، فناح عليهما نياحة احزنتهما وبكى، وهو أول من ناح. فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكى عليكما، تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة، فوقع ذلك فى أنفسهما واغتما، فقال لهما فى تلك الساعة. وقيل: بعد مضيه ثم رجع: { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } قالا: نعم، قال: كلا من هذه الشجرة شجرة الخلد، فقالا: نهانا ربنا عنها، قال: { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } فأبيا أن يقبلا منه، فأقسم لهما بالله أنه لهما لمن الناصحين. فاغترا بذلك وما كانا يظنان أن أحداً يحلف بالله كاذبا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت لآدم حتى أكل منها. قال ابن عباس وابن مسعود والجمهور: أغواهما مشافهة كما رأيت، بدليل: وقاسمهما، والمقاسمة ظاهرها المشافهة، فقال طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة بعد أن أخرج منها، وإنما أغواه بوساوسه من الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم" . قال الكلبى: دعا حواء من باب الجنة، فقال لها: كلى من تلك الشجرة، فأيكما أكل منها قبل صاحبه كان هو المسلط على صاحبه. قال الحسن: وسوس إليهما من الأرض، لم يكن ليخلها بعد قول الله عز وجل: { اخرج منها فإنك رجيم } }. قال الكلبى: فابتدر الشجرة فسبقته حواء وأعجبها حسن الشجرة وثمرتها فأكلت منها وأطعمت آدم. وروى محمد ابن اسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قيس أنه قال: سمعت سعيد بن المسيب يحلف بالله ولا يستثنى: "ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى سكر، فقادته فأكل. فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الخمر مجمع الخبائث وأم الذنوب قلت: يرده أن خمر الجنة لا يسكر، وأنه فى حال سكره لا يكلف، فكيف وصفه بالعصيان؟" ووصف نفسه بظلم نفسه، إلا أن يقال ذلك فى جنة الدنيا أو خلق الله فى تلك الخمر الإسكار امتحانا، أو ناولها الخمر من الدنيا إبليس، وأنه وصفه بالعصيان، ووصف نفسه بالظلم إذ شرب مسكرا، ولم يتحفظ. ويقال: لما قال الله جل وعلا لآدم وحواء: { لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } قال: نعم لا تقربها ولا نأكل منها، ولم يستثنيا فى كلامهما، فوكلهما الله تعالى إلى أنفسهما حتى أكلا. قال الحسن بن محمد بن الحسين: سمعت جدى يقول: يروى عن إبراهيم ابن أدهم أنه قال: أورثتنا تلك الأكلة حزنا طويلا. وزعموا عن الشبلى أنه قال: هذا أبونا آدم باع ربه بكف من حنطة، وذلك بوسوسة إبليس، وأعظم الأدوية - لمن ابتلى بوسوسته - الإعراض عنه، والثقة بالله والتعوذ به، وعدم الالتفات إلى ذلك اللعين. ويجوز هجر من اشتغل بالوسواس ليرتدع. قال ابن عطاء الله مؤلف كتاب المنن: كان بى وسواس فى الوضوء، فقال لى الشيخ أبو العباس المرسى: إن كنت لا تترك هذه الوسوسة لا تعد تأتينا. فشق ذلك على وقطع الله الوسواس عنى. وكان أبو العباس المذكور يلقن للوسواس: سبحان الملك الخلاق إن يِشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز. قال ابن عباس: قال الله تعالى: يا آدم ألم يكن فيما أتحت لك من الجنة مندوحة عن الشجرة؟ قال: بلى يا رب، وعزتك. ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذبا. قال: فبعزتى لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش فيها إلا بكد. فأهبطه من الجنة وعلمه صنعه الحديد، وأمره بالحرث، وزرع وسقى حتى بلغ وحصد ودرس وذراه وطحنه وعجنه وخبزه وأكله، فلم يبلعه حتى بلغ منه الجهد. قال ابن عباس: لما أكل من الشجرة قال الله تبارك وتعالى: يا آدم ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب زينته لى حواء، قال: فإنى أعاقبها ألا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها، وأدميها فى الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك، فقيل: عليك الرنة وعلى بناتك. وقيل رنت وقيل لها ذلك حين قتل هابيل. قال فى عرائس القرآن: لما أكل من الشجرة المنهى عنها ابتلاه الله - عز وجل - بعشرة أشياء: أولها معاتبته إياه على ذلك، بقوله تعالى: { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } والثانى: الفضيحة فإنه لما أصاب الذنب بدت سوءته. وتهافت ما كان عليه من لباس الجنة، فتحير آدم وتشوش. وناداه ربه: أفرارا ومنى؟ فقال: لا يا رب لكن حياء منك. ولذلك قيل: كفى بالمقصر حياء يوم القيامة. ويروى أن آدم لما بدت سوءته وظهرت عورته، طاف بأشجار الجنة يسأل منها ورقة يغطى بها عورته، فزجرته أشجار الجنة، حتى رحمته شجرة التين فأعطته ورقة. والظاهر أنه يسأل أوراقاً فأعطته شجرة التين أوراقاً، لقوله تعالى: { يخصفان عليهما من ورق الجنة } }. ولعل الورقة الواحدة تكفى آدم والآخرى تكفى حواء، يخرقهما كل منهما ويصنع منها لباساً أو تكفيهما واحدة كذلك فكافأ الله التين بأن ساوى ظاهره وباطنه فى الحلاوة والمنفعة، وأعطاه ثمرتين فى عام واحد. قال الشيخ هود -رحمه الله - فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما وكانا كسيا الظفر، فبدت سوءاتهما، وأبصر كل واحد منهما ما كان وورى عنه من سوءته فاستحيى، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، يرفعانه كهيئة الثوب ليواريا سوءاتهما، ثم ناداهما ربهما: { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } أى بين العداوة، فاعتل آدم بحواء وقال: هى أطعمتنى فأكلته. ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا بنو إسرائيل ما خثر لحم ولا انتن طعام ولولا حواء لم تخن انثى زوجها" . ذكر بعض أن حواء هى التى كانت دلت الشيطان على ما كان نهى عنه آدم فى الجنة. ذكر الحسن عن النبى صلى الله عليه وسلم: أن آدم كان رجلا طويلا كأنه نخلة جعد الشعر، فلما وقع بما وقع بدلت له عورته وكان لا يراها قبل ذلك. فانطلق هاربا، فأخذت شجرة من الجنة برأسه، فقال لها: أرسلينى، فقالت: لست بمرسلتك، فناداه ربه: يا آدم أمنى تفر؟ فقال: ربى أستحييك: الثالث أنه أوهنه جلده وصيره مظلما بعد ما كان كالظفر، وأبقى من ذلك قدرا يسيرا على أنامله، ليتذكر بذلك أول حاله. والرابع أنه أخرجه من جواره ونودى أنه لا ينبغى أن يجاورنى من عصانى. كما قال الله تعالى: { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو } يعنى آدم وحواء وإبليس والحية والطاووس. فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند، وقيل على جبل من الدهناء يسمى نود، وقيل واسم، وحواء بجدة من أرض الحجاز، وإبليس بأيلة من أرض العراق وهى البصرة، وقيل بيسان، والحية بأصبهان، والطاووس بأرض بابل. ويقال الحكمة فى إخراج الله آدم من الجنة أنه كان فى صلبه من لا يستحق حضرة القدس، فإذا أخرجهم من صلبه أعاده إليها خالدا فيها. ويقال: إن الله تعالى أخرج آدم من الجنة، قبل أن يجعله فيها فذلك قوله تعالى: { إنى جاعل فى الأرض خليفة } ولم يقل فى الجنة، وهذا خطأ لأن المتبادر من الإخراج والهبوط أنهما قد دخلاها إلا إن أراد هذا الزاعم بقوله قبل أن يجعله، قبل أن يمكنه فيها، أو أراد بقوله أن يجعله فيها، الكناية عن سرعة الخروج، وإلا فقد دخلها قطعاً، بدليل أنه أشير له إلى الشجرة، وبدليل أنه أكل منها. وعن عثمان ابن منبه: سمعت واصل بن عطاء يذكر أن آدم قال: كنا نسلا من نسل الجنة فأزلنا إبليس بالخطيئة منها إلى الأرض، فليس ينبغى لنا الفرح فى الدنيا، ولكن الحزن والبكاء ما دمنا فى دار الدنيا، حتى نرد إلى الدار التى منها سبانا، قال الشاعر:

منتك نفسك ضلة فأبحتها سبل الرداء وهن غير قواصد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجى درك الجنة بها وفوز العابد
ونسيت أن الله أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد

والخامسة الفرقة بينه وبين حواء مائة سنة هذا بالهند، وهذه بجدة، فجاء كل واحد منهما يطلب صاحبه، حتى قرب أحدهما من صاحبه فازدلفا، فسميت المزدلفة، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفة فى يوم عرفة، فسمى الموضع عرفة. والسادس العداوة، ألقى بينهما العداوة، كما قال الله عز وجل: { اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }. فالإنسان عدو للحية يشدخ رأسها حيث رآها، والحية عدوته تلدغه، وإبليس عدو لهما، وفيه إشارة إلى أن الأحبة إذا اجتمعوا وتعانوا على المعصية أعقبت محبتهم عداوة، قال الله تعالى: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } }. السابع أنه نادى عليه بالعصيان فقال: { وعصى آدم ربه فغوى } وفى الحديث: إن إبراهيم عليه السلام تفكر ليلة من الليالى فى أمر آدم عليه السلام فقال: يا رب خلقت آدم بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك، وأسكنته جنتك بلا عمل. ثم بزلة واحدة ناديت عليه بالعصيان، وأخرجته من جنتك، فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب أمر شديد.؟ والثامن تسليط العدو على أولاده وهو قوله تعالى: { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } }. والتاسع أنه جعل الدنيا سجناً له ولأولاده، وبلاه بهوى الدنيا، ومقاساة الحر والبرد فيها، ولم يكن له عهد بهما. وإنما عرف الجنة لا يرى فيها شمساً ولا زمهريرا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حر فيها ولا برد" . والعاشر التعب والشقاء وهو قوله تعالى: { إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } فهو أول خلق عرق جبينه من التعب والنصب. والله أعلم. وابتلى أمنا حواء - رضى الله عنها - وبناتها بخمس عشرة خصلة، الأولى الحيض، روى أنها لما تناولت الشجرة أدمت الشجرة، قال الله تعالى: إن لى عليك أن أدميك وبناتك فى كل شهر مرة، كما أدميت هذه الشجرة، قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الشىء كتبه الله على بنات آدم" والثانية: ثقل الحمل، والثالثة: الطلق وألم الوضع. قال الله تعالى: { حملته أمه كرها ووضعته كرها } وفى الحديث: "لولا الزلة التى أصابت حواء لكانت النساء لا تحيض، ويحملن يسرا ويضعن يسرا" . الرابعة: نقصان دينها. الخامسة: نقصان عقلها. وعن عياض بن سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت أذهب للب الرجل الحازم من ناقصات عقل ودين" فقلن: ما نقصان عقلنا وديننا؟ فقال: أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل؟ فقلن: بلى. فذلكن من نقصان عقلكن. أوليس إضا حاضت لم تصل ولم تصم؟ فقلن: بلى. فقال: ذلك من نقصان دينكن. السادسة: أن ميراثها على النصف من ميراث الرجل. قال الله تعالى: { للذكر مثل حظ الأنثيين } }. السابعة: تخصيصهن بالعدة. الثامنة: جعلهن تحت أيدى الرجال، كما قال الله تعالى: { الرجال قوامون على النساء } وقال صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان بين أيديكم" والتاسعة: ليس لهن من الطلاق شىء ولا يملكن شيئاً، وإنما هو إلى الرجال، والعاشرة: أنهن حرمن من الجهاد. والحادية عشر: ليس منهن نبى. والثانية عشر: ليس منهن سلطان ولا حاكم. والثالثة عشرة: أنهن لا تسافر إحداهن إلا مع ذى محرم. الرابعة عشرة: أنهن لا تنعقد بهن الجمعة. والخامسة عشرة: أنهن لا يسلم عليهن. الله أعلم.
وعاقب إبليس بعشرة أشياء أولها: عزله عن الولاية، وكان له ملك سماء الدنيا، وكان خازن الجنة. والثانية: أخرجه من جواره وأهبطه إلى الأرض. والثالثة: مسخ صورته فصيره شيطانا بعدما كان ملكا وقد مر ما فيه. والرابعة: أنه غير إسمه وكان اسمه عزازيل فسماه إبليس لأنه أبلس من رحمة الله. الخامسة: أنه جعله إمام الأشقياء. السادسة: أنه أتبعه اللعنة إلى يوم الدين. والسابعة: أنه نزع منه المعرفة. والثامنة: أغلق عنه باب التوبة. والتاسعة: أنه جعله مريدا أى خاليا من الرحمة والخير. والعاشرة: أنه جعله خطيب أهل النار.
وعاقب الحية بخمسة أشياء: قطع قوائمها، وأمشاها على بطنها، ومسخ صورتها بعد أن كانت أحسن الدواب، وجعل التراب غذاءها، وجعلها تموت فى كل سنة فى الشتاء، وجعلها عدوة بنى آدم وهم لها أعداء، حيث ما يرونها يقتلونها، وأباح الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتلها فى الصلاة وفى حال الإحرام. وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:
"ما سالمناها يوماً ولا صالحناهن مذ حاربناهن، فمن ترك منهن فليس منى" يعنى الحيات. وعن أبى الأحوص الحسنى قال: بينما ابن مسعود يخطب ذات يوم، فإذا هو بحية تمشى على الجدار، فقطع الخطبة ثم ضربها بقضيبه حتى قتلها ثم قال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركاً قد حل دمه" . أخرج أبو داود عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: "من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا ما سالمناهن منذ حاربناهن" . وأخرج أيضاً عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الحيات كلهن، فمن خاف من ثأرهن فليس منى" وفى رواية: "اقتلوا الكبار كلها إلا الجان الأبيض الذى كأنه قضيب فضة" . وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن للمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنما هو شيطان" وفى رواية: "بهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئاً فاخرجوا عليه ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر" .
{ فَأَخْرَجَهُمَا }: أى تسبب فى إخراجهما فخرجا.
{ مِمَا كَانَا فِيهِ }: من نعيم الجنة، مأكولها ومشروبها وراحها وحسنها ورائحتها ومنافعها والكرامة والمرتبة التى لهما فيها. إلى الدنيا وشقائها ونكارة عيشها. وقيل: المعنى أخرجهما من رفعة المنزلة إلى سفالة الذنب، وهذا ضعيف قريب من تفسير الصوفية، لا يتبادر من اللغة العربية ولا يرد فيها. وعن صاحب التنوير: إخراج آدم لم يكن إهانة، بل لما سبق فى علم الله - سبحانه وتعالى - من إكرام آدم، وجعله خليفة فى الأرض، واختار ذريته فيقومون بما يجب لله من عبادته.
{ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }: الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام لقوله تعالى:
{ اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو } فضمير الجماعة لهما باعتبار ما اشتملا عليه من الذرية، كما اعتبر ما اشتمل عليه فأثبت عدواة بعض لبعض، فإنهما متعاديان لأولادهما العاصين، من قابيل إلى يوم القيامة. وأولادهما المطيعون أعداء لأولادهما العاصين كذلك إلى يوم القيامة، ويسعون فى إضلالهم ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى: { فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } }. فهذا وإثبات العداوة يدلان على اعتبار الذرية، لأن آدم وحواء ليسا عدوين بعضهما لبعض، ولاهما اللذين كفرا وكذبا، ويجوز عود الضمير إلى آدم وحواء عليهما السلام وإبليس، أعاذنا الله منه، لأنهم ذكروا جميعاً فى الآية. ولو اختلف زمان أمرهم بالهبوط، فإن الله تعالى أمر عدوه به أولا فخرج من الجنة، على ألا يدخلها أبداً. بعد أن كان يدخلها قبل المعصية. ولكن لم يسكنها. وقيل كان يمكث مدة طويلة قبل ذلك للعبادة لا للتلذذ والملك، ثم أمروا آدم وحواء عليهما السلام بالهبوط، فحكى الأمرين بالهبوط عبرة فقال: اهبطوا وهما وهو أعداء من حين هبط، ولا سيما من حين هبط آدم وحواء. وكان يدخلها بعد المعصية للوسوسة، أو كان يدخلها مسارقة عن الملائكة، فأمر بالهبوط فلا يدخلها بعد أصلا. وأمر آدم وحواء عليهما السلام بالهبوط وكلهم بمرة سواء، كان إبليس فيها حال أمر الله تعالى بالإهباط أم لا، ومعنى أمره بالإهباط فى حال ليس فيها أنه أمره ألا يدخلها، وأن يعلم أنه قد حط عن دخولها ونزع من دخولها يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز على هذا الوجه، أو يحتمل الكلام على عموم المجاز كأنه قال: لا تكونوا فيها، أو الأصل، اهبط يا عدو الله أى لا تدخلها، واهبط يا آدم وحواء. ولفظ الهبوط واحد، سواء أريد به الحقيقة أو المجاز، فحكى يقال دفعه، كما تقول فى كلامك أسد وتريد الشجاع. وتقول أسد وتريد السبع، فيقال لك ماذا ذكرت فى كلاميك؟ فتقول قلت أسد. ويحتمل أن يريد بهبوط إبليس من السماء الدنيا أو مما فوقها من السماوات، وهبوط أدم وحواء من الجنة، فإذا رجعنا الضمير إلى آدم وحواء وعدو الله، فالعداوة بينهم. وتكون بين غيرهم تبعا. فآدم وحواء ومن تبعهما من الإنس والجن فريق، وعدو الله ومن تبعه من الإنس والجن فريق. وقيل الضمير للثلاثة والحية، ويضعفه أنه لم يجر لها ذكر، وهو قول السدى. وعن الحسن: آدم وحواء والسوسة، وفيه ضعف، لضعف إسناد الاستقرار فى الأرض والتمتع فيها إلى حين إليها ولخروجها عن القسمين الذى قسم إليهما من أمر بالهبوط قوله تعالى: { فمن اتبع هدى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. } إلخ وجملة: بعضكم لبعض عدو، حال من الواو فى اهبطوا، والرابط الكاف، ولبعض حال من عدو، وهذه العداوة مذكورة فى قوله - عز وجل - أيضاً { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } }. { وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ }: مصدر ميمى أى استقرار، أو اسم مكان أى موضع استقرار. والاستقرار فيها تمكن فيها، على ظهرها فى الحياة، وفى بطنها بعد الموت. أو المراد التمكن فيها حال الحياة فقط. وقيل: الاستقرار فى القبور.
{ وَمَتَاعٌ }: أى تمتع وانتفاع، بما فيها من نبات وتمار وغيرهما، كمساكن وملابس وتحدث ومؤانسة. ويجوز أن يراد بالمتاع ذلك كله، مع كونها سترا لنا بعد موتنا فإن ذلك نفع لنا، والمتاع اسم مصدر بمعنى التمتع كما رأيت، ويجوز كونه اسماً لنفس الشىء الذى يتمتع به.
{ إِلَى حِينٍ }: هو أجل الموت إذا فسرنا الاستقرار بالتمكن حال الحياة وإن فسرنا بالاستقرار فى القبر فالحين يوم القيامة. قال الشيخ هود قوله: { وَلَكُمْ فَى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلى حِينٍ } المستقر من يوم يولد إلى يوم يموت. انتهى. والحين المدة من الزمان طالت أو قصرت، وليست كما قال بعض إن الحين المدة الطويلة من الدهر، وإن قصرها فى الإيمان والتزامات سنة مستدلا بقوله تعالى:
{ تؤتى أكلها كل حين } ويبحث فى الاستدلال بهذه الآية أنه لو كانت دليلا لم يصح إطلاقه على أكثر من سنة. وزعم بعض كذلك أن أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يطعم فى كل ستة أشهر. قال ابن عباس: لما هبط آدم إلى الأرض وقع على جبل سرنديب. وذكروا أن ذروته من أقرب ذرى جبال الأرض إلى السماء. وفكانت رجلا آدم - عليه السلام - على الجبل ورأسه فى السماء ليسمع دعاء الملائكة وتسبيحهم، وكان يأنس بذلك فهابته الملائكة واشتكت نفسه، فحطت قامته إلى ستين ذراعا، وكان قبل ذلك تمس رأسه السحاب إذا قعد فصلع، فأخر أولاده من ذلك الصلع، فلما نقص من قامته قال: يا رب كنت جارك فى دارك، ليس لى رب سواك، ولا رقيب غيرك، آكل فيها رغدا، وأسكن فيها حيث أحببت، فأهبطتنى إلى هذا الجبل، وكنت أسمع أصوات الملائكة، وأراهم كيف يحفون بعرشك، وأجد ريح الجنة وطيبها، وأنظر كيف يرى الملائكة يحفون بالعرش، وهو تحت سماء الدنيا، وكيف يجد ريح الجنة وهو يوجد مسيرة خمسمائة عام. اللهم إلا يقال أيدع الله له ذلك، ويجوز أن تكون له هذه الجنة فى السماء الدنيا، ثم حططتنى إلى ستين ذراعا، فقد انقطع عنى الصوت والنظر، وذهبت عنى رائحة الجنة، فأوحى الله تعالى إليه: إن ذلك بمخالفتك يا آدم، قال يا رب مخالفتى قضاء وقدر. قال وهب: لما هبط آدم من الجنة واستقر جالسا على الأرض، عطس عطسة فسال الدم من أنفه، لما رأى سيلان الدم من أنفه، ولم يكن رآه قبل ذلك، هاله ما رأى، ولم تشرب الأرض الدم فاسود على ظهرها كالحمم، ففزع آدم فزعاً شديداً، وذكر الجنة وما كان فيها من الراحة فخر مغشيا عليه، وبكى أربعين عاما، فبعث الله تعالى ملكا فمسح ظهره وبطنه، وجعل يده على فؤاده، فذهب عن الحزن والعياء واستراح مما كان يصيبه من الغم. قال شهر بن خوشب: بلغنى أن آدم - عليه السلام - لما هبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى، وقال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائة سنة، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين سنة، ولم يقترب آدم حواء أربعين سنة، وقيل لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حين أصاب الخطيئية، ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثير حين أخرجه الله - تعالى - من الجنة. وروى أنه عليه السلام غشى عليه أربعين يوما من نتن الدنيا. قال أبو العالية: لما وصل آدم إلى الأرض، يبس لبسه من الورق وتحات عنه، فنبت منه أنواع الطيب، فأصل الطيب من الهند، وأتاه جبريل من الجنة بقميص. وعن ابن عباس: نزل آدم إلى الأرض بعين طيب الريح وشجر، أوديتها من تلك الأواق. قيل أنزل الله تعالى معه الحجر الأسود، وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى - عليه السلام - وروى سفيان بإسناده من حديث قال، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لما هبط آدم من الجنة إلى الأرض بأرض الهند، وعليه ذلك الورق الذى كان لباسه من الجنة إلى أرض الهند، يبس وتطاير فعبق منه شجر الهند، ففاح العود والصندل والمسك والعنبر والكافور. قالوا: يا رسول الله: المسك هو من الدواب؟ قال: إنما هى دابة شبه الغزال، رعت من ذلك الشجر فصير الله تعالى المسك من عرقها إذا رعت الربيع جعله مسكاً، وتساقط فينتفع به الأدميون. قالوا يا رسول الله: العنبر من دابة فى البحر؟ قال: أجل كانت فى البر ترعى، فبعث الله تعالى إليها جبريل فساقها وما معها، حتى قذفها فى البحر، وهى أعظم ما يكون من الدواب غلظها ألف ذراع، يعنى أن هذا ما يبلغ عظمها، وتكون أيضا أقل، وإنما ترمى العنبر كما ترمى البقر روثها، فربما يخرج من جوفها العنبرة. وزنها ألف رطل وخمسمائة رطل، أو نحو ذلك" وروى أن آدم وجد ضمرا فى جسده، فشكى ذلك إلى الله - تعالى - فنزل جبريل - عليه السلام - بشجرة الزيتون، فأمره أن يأخذ من ثمرتها ويعصرها. وقال: إن هذه شفاء من كل داء إلا السام يعنى الموت.. قيل: ودله جبريل على شجرة الأسود والأصفر، وقال له: إن ربك يقرئل السلام ويقول لك: كل هذه فإنك لن تداوى أنت وولدك بدواء هو أفضل منها فيها شفاء من كل داء. فإن بقى فى جوفك لم تخف منه، وإذا خرج أخرج الداء. فأكله فبرئ. قال أهل الأخبار: إن آدم لما هبط إلى الأرض أصاب جسده أذى الهواء وأحس به، اشتكى وحشة يجدها لم يدر ما هى، وكان قد اعتاد هواء الجنة فشكى ذلك إلى جبريل، فقال له جبريل: إنك تشتكى العرى، فأنزل الله عليه ثمانية أزواج: من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الإبل اثنين. ثم أمره أن يذبح كبشا منها فذبحه، ثم أخذ صوفه فغزلته امرأته حواء، ونسجته هى وآدم، فجعل منه جبة لنفسه، وجعل لحواء درعا وخمارا، فلبسا وبكيا على ما فاتهما من لباس الجنة. وهو مخالف لما تقدم من أنه أتاه جبريل بقميص من الجنة ليلبسة. ويشكل عليه: أن صوف كبش واحد لا يكفى آدم وحده، فكيف مع حواء؟ اللهم إلا أن يقال: بارك الله فيه، أو كان كبيرا مثله، أو دونه بقليل، وكان كثير الصوف طويله ويشكل عليه أن الأزواج الثمانية خلقن قبله، إلا أن يقال معنى قوله: (أنزلها الله عليه) بعثها إليه من الدنيا. فحواء أول من غزلت، وهى وآدم أول من نسج، وأول من لبس الصوف. وعن ابن عباس: رضى الله عنهما: "جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما تقول فى حرفتى؟ إنى رجل حائك. قال: حرفتك حرفة أبينا آدم، كان آدم أول من نسج، وكان جبريل يعلمه، وآدم تلميذه ثلاثة أيام. وإن الله تعالى يحب حرفتك، فإنها حرفة يحتاج إليها الأحياء والأموات. فمن قال فيكم القبيح فأبونا آدم خصمه، ومن أنف منكم فقد أنف من آدم، ومن لعنكم فقد لعن آدم، ومن أذلكم فقد أذل آدم، وهو خصمه يوم القيامة فلا تخافوا وأبشروا، فإن حرفتكم حرفة مباركة، ويكون آدم قائدكم إلى الجنة" ولعل لفظ تلميذ محكى بالمعنى لأنه عجمى، ولم يذكر فى حديث آخر فضلا عن أن يصح أنه من الألفاظ التى حكاها - صلى الله عليه وسلم - بالعجمية. وعن أبى أمامة الباهلى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بلباس الصوف تجدون به قلة الأكل، وعليكم بلباس الصوف تعرفون به الآخرة، وإن النظر فى الصوف ليورث فى القلب التفكر، والتفكر يورث الحكمة، والحكمة تجرى فى الجوف مجرى الدم، فمن كثر تفكره قل طعامه وكل لسانه، ومن قل تفكر كثر طعامه وقسى قلبه. والقلب القاسى بعيد من الله - عز وجل - بعيد من الجنة قريب من النار" قالوا: ثم إن آدم لما لبس وستر العورة اشتكى، فقال له جبريل: ما الذى أصابك؟ قال: أجد فى نفسى قلقا واضطرابا، لا أجد إلى العبادة سبيلا، إلا أنى أجد من جلدى ولحمى كدبيب النمل. قال جبريل: ذلك يسمى الجوع، قال: وكيف الخلاص منه؟ قال جبريل: سوف أهديك إلى الخلاص منه، فغاب عنه ثم جاء بثورين أحمرين، والعدة والمطرقة والمنفخة والكليتين، ثم جاء بشرر من جهنم فوضعه بين يدى آدم، فطارت منه شرارة فوقعت فى البحر، فدخل جبريل إليها فأخرجها إليها فأخرجها فدفعها إلى آدم - عليه السلام - فطارت منه، حتى فعل ذلك سبعين مرة، فذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" فجاء بها فقالت يا آدم: لا أطيعك وإنى منتقمة من عصاة أولادك يوم القيامة. فقال جبريل: يا آدم إنها لا تطيعك، ولكنى أسجنها لك ولأولادك فى الحجر والحديد. وذلك قوله تعالى: { أفرأيتم النار التى تورون } وروى فى الأخبار أن جبريل وضع الشرارة فى يدى آدم فأحرقته فخلى عنها، وقال آدم: ما لها تحرق يدى ولا تحرق يدك.. قال: لأنك أخطأت ولم أعصه أنا.
ثم أمره جبريل باتخاذ آلة الحرث، فهو أول من عمل الحديد، ثم أتاه بصرة من الحنطة فيها ثلاث حبات، فقال: يا آدم لك حبتان ولحواء حبة، فصار الميراث للذكر مثل الأنثيين. وكان وزن الحبة مائة ألف وثلاثين ألف درهم. فقال آدم: ما أصنع بهذا كله؟ قال جبريل: خذها فإنها سبب سد جوعتك، وبهذه أخرجت من الجنة، وبها تحيا فى الدنيا، وبها تلقى الفتنة أنت وأولادك فى الدنيا إلى يوم القيامة، ثم أمره أن يشد الثورين، ويكسر من الخشب ويضعه عليهما، ففعل ذلك وجعل يحرث الأرض بهما. فهو أول من حرث الأرض، وبكى الثوران على ما فاتهما من راحة الجنة، فقطرت دموعهما إلى الأرض فنبت منها الجاروس، وبالا، فنبت منه الحمص. وراثا فنبت منه العدس. ثم كسر جبريل تلك الحبوب حتى كثرت، ثم بذر ونبت من ساعته، قال آدم: يا جبريل آكله؟ قال: لا، اصبر حتى يدرك، فلما أسبل وأفرك، قال: آكله؟، قال: لا، فعلمه الدرس، فلما درس قال: آكله؟، قال: لا، وعلمه التنقية، فلما نقاه قال: آكلة؟ قال: لا، وعلمه الطحن بين حجرين، فلما طحنه قال: آكله؟ قال: لا، وعلمه الطحين: ويقال إن آدم نخل دقيقه، وأمره جبريل أن يبث النخالة فى الأرض المحتصدة، فنبت الشعير فيها، فلما عجن قال: آكله؟ قال: لا، وأمره أن يحفر حفرة وأن يجمع الحطب فيها، ويوقد عليها ناراً حتى جعله ملة بخبز، فهو أول من خبز الملة، فلما أخرجها قال: آكله؟ قال: لا، حتى يبرد، فلما برد قال: آكله؟ قال: كله. ودمعت عيناه فقال: ما هذا التعب والنصب؟.. قال: هذا وعد الله الذى وعدك، فذلك قوله تعالى:
{ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى } أما إن ذلك أن تأكل من كد يمينك وعرض جبينك أنت وذريتك، فلما استوفى آدم من الطعام وجد تشكيا ولم يدر ما هو فذكر ذلك لجبريل، فقال له: ذلك العطش. قال: فبم أسكنه؟ فغاب عنه جبريل ثم عاد إليه ومعه المعول، ثم قال احفر فى الأرض فما زال يحفر حتى بلغ ركبتيه، فنبع من تحت رجليه ماء عذب زلال أبرد من الثلج وأحلى من العسل. فقال: يا آدم.. اشرب منه شربة فشربها فاطمأن. ثم إنه بعد ذلك وجد شكوى أشد من الأولى والثانية. فقال يا جبريل ما هذا الذى أجده؟ فقال لا أدرى، فبعث الله ملكاً ففتق قبله ودبره، فلم يكن قبل لذلك الطعام مخرجاً، فلما خرج منه ما آذاه وجد ريحه فبكى على ذلك سبعين سنة.
وفى بعض الإخبار أن الله - تعالى - لما أنزل على آدم الحديد نظر إلى قضيب من حديد نابت على الجبل، فجعل يكسر أشجارا قد يبست، ثم أوقد على ذلك القضيب حتى ذاب. وكان أول شىء ضرب منه مدرقة، وكان يعمل عليها، ثم ضرب التنور الذى ورثه نوح - عليه السلام - وهو الذى فار بالماء، وذكروا أنه أهبط آدم من الجنة ومعه قطعة من ذهب، فلذلك يبقى الذهب ولا يبلى بالثرى ولا يصدأ بالندى، ولا تنقصه الأرض ولا تأكله النار، لأنه من الجنة. وقيل إن الله عز وجل زود آدم - عليه السلام - من الجنة حين أهبط ثلاثين نوعاً من الثمر: عشرة فى القشور، وعشرة لها نوى، وعشرة لا قشور لها. فأما التى فى القشور: فالجوز واللوز والبندق والخشخاش والبلوط والجلوز والشبا والراندج والمرماخ والموز. وأما التى لها نوى: فالخوخ والمشماش والإجاص والفرسك والعناب والرطب والعبير والنبق والزعرور والمقل. وأما التى لا قشور لها ولا نوى: فالتفاح والسفرجل والكمثرى والعنب والتوت والتين والأترج والخروب والخيار البطيخ. قال ابن عباس: أهبط لآدم شجرة عنب فغرسها فأثمرت، فسرق ثمرتها إبليس فقال آدم: ويلك أخرجتنى من الجنة ولا تريد أن يجعل الله لى فيها رزقاً؟ فقال إبليس عدو الله: إن لى فيها حقا، قال: وما حقك فيها؟ قال: لى قشرها ولكم سائرها. قال ابن عباس رضى الله عنهما - أهبط آدم عليه السلام بالسنبلة، وهى سيدة طعام الدنيا، والعجوة وهى سيدة ثمار الدنيا، وعن ابن عباس وعائشة وأبى هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -:
"إن العجوة من غرس الجنة وفيها شفاء وإنها ترياق وعليكم بالتمر البرانى فانه يسبح فى كل شجرة ويستغفر لآكله" .
قال كعب: أول من ضرب الدينار والدرهم آدم، وقال لا تصلح المعيشة إلا بهما، وقال وهب بن منبه: إن آدم لما أهبط إلى الأرض رأى سعتها ولم ير فيها أحدا غيره. فقال: يا رب.. أما لأرضك هذه من عامر يسبح بحمدك ويقدس لك غيرى؟ قال الله: سأجعل فيها من ولدك من يسبح يفها بحمدى ويقدسنى، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع بذكرى، ويسبح فيها خلقى، ويذكر فيها اسمى، وسأجعل من تلك البيوت بيتاً أخصه بكرامتى وأوثره باسمى وأسميه بيتى. أجعل عليه عظمتى وجلالى، وأجعله حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله، ومن فوقه ومن تحته، فمن حرمه لحرمتى استوجب بذلك كرامتى، ومن أخاف أهله فيه فقد خفر ذمتى وأبح دينى. وأجعله أول بيت وضع للناس ببكة مباركاً يأتونه شعثا غبرا { وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق } يرجون بالتلبية رجيجاً، ويضجون بالبكاء ضجيجاً، ويعجون بالبكاء عجيبجاً فمن أعزه ولا يريد غيره، فقد وفد إلى وزارنى واستضافنى، وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه، وأن يصرف كلا بحاجته. تعمره يا آدم ما كنت حيا، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك، أمة بعد أمة، وقرن بعد قرن، ثم إن الله سبحانه أخرج من ظهر آدم كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة كالذر. ثم أخذ عليهم الميثاق كلهم فقال: { ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا } . وسئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى خلق آدم وأخرج من ظهره الذرية، فقال هؤلاء للجنة بعمل أهل الجنة يعملون، وأخرج بعدهم الذرية الأشقياء فقال بعمل أهل النار يعملون قيل: ففيم العمل يا رسول الله قال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة فأدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار فأدخله النار" . ولما كان آدم يحرث على البقرة ضربها، فقالت له: لم ضربتنى؟ فقال: لعصيانك إياى، فقاتلت: قد عصيت الله - عز وجل - ولم يضربك. وأوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام - لما أراد أن يهبطه إلى الأرض: إنى متوليك أنت وذريتك بقطع ما تصلون، وتفريق ما تجمعون وخراب ما تبنون، وإماتة ما تلدون. قال الشعبى: أنزل الله - جل وعلا - عدوه إلى الأرض يشتمل الصماء عليه عمامة ليست تحت ذقنه منها شىء، أعور فى إحدى رجليه نعل. روى ابن المبارك عن حميد بن هلال: إنما كره الحضر فى الصلاة لأن إبليس هبط مختصراً، وهو وضع اليدين على الخاصرة، وروى عن عبد الله بن عمير إن إبليس قال: يا رب أخرجتنى من الجنة من أجل آدم، ولا أستطيعه إلا بسلطانك.. قال: وأنت مسلط عليه، قال: يا رب زدنى. قال: صدورهم منازلك، وتجرى منهم مجرى الدم. قال: يا رب زدنى. قال: { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم فى الأموال والأولاد وعدهم } قال آدم: يا رب قد سلطته على وأنا لا أمتنع منه إلا بك. قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال: يا رب زدنى، قال: حسنة بعشرة أمثالها وأزيدها، والسيئة بواحدة وأمحوها، قال: يا رب زدنى. قال: { يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } }. قال: يا رب زدنى، يا رب اغفر لنا، قال: أغفر ولا أبالى. قال حسبى. ويروى أن إبليس - أعاذنا الله منه - قال: يا رب لعنتنى وأخرجتنى من الجنة، وجعلتنى شيطاناً مريدا مذموما مدحورا، وبعثت فى بنى آدم الرسل، وأنزلت عليهم الوحى والكتاب، فما رسلى؟ قال: رسلك الكهنة، قال: فما كتبى؟ قال: كتبك الوشم. قال: فما حديثى؟ قال: حديثك الكذب. قال: فما قراءتى؟ قال: قراءتك الشعر. قال: فما مؤذنى؟ قال: مؤذنك المزمار. قال: فما مسجدى؟ قال: مسجدك السوق. قال: فما بيتى؟ قال: بيتك الحمام. وقال: فما طعامى؟ قال: طعامك ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما شرابى؟ قال: شرابك كل مسكر. قال: فما مصائدى؟ قال: مصائدك النساء. وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس: أن إبليس لما خرج من الجنة ألقى الله عليه الحكة والحرقة، فنكح نفسه فباض أربع بيضات، فمنها ذريته. ويروى أن إبليس لعنه الله لقى آدم - عليه السلام - فلامه على صنيعه، وقال: يا ملعون، أى شىء هذا الذى أحللت بى وبذريتى، وعزرتنى وأخرجتنى من الجنة، وفعلت ما فعلت؟ قال: فبكى إبليس فقال إنى فعلت بك ما تقول وأنزلتك هذه المنزلة. ويروى أن إبليس تصور لفرعون فى صورة الآدمين بمصر فى الحمام، فأنكره فرعون. فقال إبليس: ويحك أما تعرفنى؟ قال: لا..قال: فكيف وأنت خلقتنى؟ ألست تقول: وأنا ربكم الأعلى؟.. ويروى أن سليمان بن داود - عليهما السلام - سأل إبليس فقال: أى الأعمال أحب إليك وأبغض إلى الله؟ قال: لا شىء أبغض إلى الله وأحب إلى، من استغناء الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، يعنى اللواط والسحاق. ويروى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من آدمى إلا وقد عمل خطيئة أو هم بها، غير يحيى بن زكريا - عليهما السلام -" ولقد قال: يا رب ابعث إلى إبليس كما هو واعزم عليه ألا يكتمنى شيئاً أسأله عنه، فأوحى الله - عز وجل - إلى إبليس أن آت عبدى يحيى بن زكريا كما أهبطت إلى الأرض، ولا تكتمه شيئا يسأل عنه. فأتاه فقال ليحيى: أنا إبليس أمرنى ربى أن آتيك كما هبطت إلى الأرض، فإذا على رأسه خطا طيف، وفى رجليه خلاخيل، فقال: ما هذه الخطاطيف التى تطير على رأسك؟ قال: أخطف بها عقول الرجال. قال: فما بال هذه الخلاخيل التى فى رجلك؟ قال: أحركها لبنى آدم يغنى أو يغنى له. قال: فأية ساعة أنت على حاجتك من بنى آدم أقدر؟ قال: حين يمتلئ شبعا وريا. قال: فهل وجدت على نفسى شيئاً؟ قال: لا إلا مرة قدم إليك طعامك ذات ليلية، وكنت صمت، فأشهيته لك حتى أكلت أكثر من عادتك، فنمت عن وردك وعبادتك. فقال: لا جرم، إنى لا أشبع أبدا. قال إبليس: إنى لا أنصح أبداً. وقيل: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذوا فى جهازه، وخرج الناس وخلا الموضع، قال ابن عباس، قال على: لما وضعته على المغسل إذا بهاتف يهتف بى من وراء البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمدا فإنه طاهر مطهر. قال: فوقع فى قلبى شىء من ذلك، فقلت: ويحك من أنت؟ فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بهذا وهذه سنته، وإذا بهاتف آخر يهتف بأعلى صوته، فاغسله فإن الهاتف الأول كان إبليس اللعين. حسد محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل ويدخل قبره مسغولا، قال على: جزاك الله خيراً قد أخبرتنى أنه إبليس فمن أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويروى أن قوماً من بنى إسرائيل تراءى لهم إبليس فقالوا له: قف موقفك بين يدى الله تعالى، حسبما كنت تقف قبل أن عصيت ربك، قال إنك لا تطيقون رؤية ذلك، فألحوا عليه فوقف وقفة، فلما نظروا إليه وإلى خشوعه وخضوعه ماتوا عن آخرهم. ويروى أن رجلا كان يلعن إبليس كل يوم ألف مرة، فبينما هو ذات يوم نائم إذ أتاه شخص فأيقظه، فقال: قم إن الجدار يريد أن يسقط، قال من أنت الذى أشفقت على هذه الشفقة؟ قال: أنا إبليس. قال: فكيف هذا وأنا ألعنك كل يوم ألف مرة؟ قال: إنما عملت هذا لما علمت من محل الشهداء عند الله تعالى، فخشيت أن تكون منهم فتنال ما ينالون.