التفاسير

< >
عرض

فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَٰتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
٣٧
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَات }: تلقى تفعل من اللقاء، ألهمه الله سبحانه كلمات فى قلبه بلا وحى، فكان قد لقيهن وحضر معهن وأخذهن وقبلهن وفهمهن وعمل بهن إذ ذكرهن ودعا بهن. فلو لم يقبلهن وأعرض عنهن لكان كمن لم يلق شيئاً. وقيل التلقى التعلم والتلقن، وذلك واحد، كقولك: تلقيت المسافر. وقرأ ابن كثير: بنصب آدم، ورفع كلمات، لأن المتلاقيين كل منهما لقى الآخر. فالكلمات جئن إلى آدم واستقبلنه حتى وصلنه. تقول تلقيت المسافر وتلقانى. والتلقى: استقبال من جاء من بعد واستعماله فى آدم على قراءة الجمهور. وفى الكلمات على قراءة ابن كثير مجاز. وما ذكرته أولى من حمل قراءة ابن كثير على القلب. قال ابن عباس وسعيد بن المسيب والحسن بن على ومجاهد وعكرمة: تلك الكلمات هى ما حكى الله سبحانه وتعالى عنه: { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وعن ابن عباس فى رواية: هن ما روى أن آدم عليه السلام قال: يا رب ألم تخلقنى بيدك؟ قال: بلى؛ قال ألم تكن أسكنتنى الجنة؟ قال بلى، قال: فلم أخرجتنى منها؟ قال بخطيئتك، قال: يا رب أأنا أتيت شيئاً ابتدعته من تلقاء نفسى، أو شيئاً قدرته على قبل أن تخلقنى؟ قال: بل قدرته عليك قبل أن أخلقك، قال: يا رب كما قدرته على فاغفر لى. وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس أن آدم قال: يا رب ألم تخلقنى بيدك؟ قال: بلى، قال: يا رب ألم تنفخ فى الروح من روحك؟ قال بلى، قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال بلى، قال: ألم تسكنى جنتك؟ قال بلى، قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعى أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. وراجعى: اسم فاعل من رجع المتعدى ومضاف إليه هو المفعول مبتدأ أنت فاعل أغنى عن الخبر لاعتماده على الاستفهام أو خبر وأنت مبتدأ. وذكر الشيخ هودرحمه الله أنه قال: يا رب أرأيت إن تبت وأصلحت؟ قال: أرجعك إلى الجنة. وقال محمد بن كعب القرظى: هى قوله سبحانك لا إله إلا أنت سبحانك، وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسى فارحمنى، إنك أنت أرحم الراحمين. وقيل لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، رب عملت سوءاً وظلمت نفسى، فاغفر لى فإنك أنت الغفور الرحيم. لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربى علمت سوءاً وظلمت نفسى فارحمى إنك أنت أرحم الراحمين. وقيل: سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسى فاغفر لى، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقالت طائفة: إن آدم رأى مكتوباً على ساق العرش، محمد رسول الله، فتشفع به فهى الكلمات. وسئل بعض السلف عما يقول المذنب، فقال ما قاله أبواه: { ربنا ظلما أنفسنا... } الآية. وما قاله موسى: { رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى } وما قاله يونس: { لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين } . } وقيل: إن الله تعالى أمر آدم بالحج وعلمه أركانه، فطاف بالبيت سبعاً، وهو يومئذ ربوة حمراء، ثم صلى ركعتين، ثم استقبل البيت، وقال: اللهم إنك تعلم سرى وعلانيتى، فاقبل معذرتى. وتعلم حاجتى فأعطنى سؤلى، وتعلم ما فى نفسى فاغفر لى ذنوبى. فأوحى الله إليه: يا آدم قد غفرت لك ذنوبك. وقيل: إن الله تعالى أنزل ياقوتة من ياقوت الجنة، ووضعها على موضع البيت على قدر الكعبة، لها بابان: باب شرقى، وباب غربى. وفيها قناديل من نور، ثم أوحى الله تعالى إليه: إن لى حرما بحيال عرشى، فأته فطف به كام طاف حول عرشى. وصل عنده كما يصلى عند عرشى، فهناك أستجيب دعاك، فانطلق آدم من أرض الهند إلى أرض مكة لزيارة بيت الله، وقيض الله تعالى له ملكا يرشده، فكان كلما نزل موضعا وضع عليه قدمه صار عمرانا، وما تعداه صار مفاوز وقفارا، فلما وقف بعرفة وكانت حواء تطلبه وقصدته من جدة، فالتقيا بعرفة يوم عرفات، فعرف كل منهما الآخر فسمى عرفات. فلما انصرف إلى منى قال لآدم تمن، قال. أتمنى المغفرة والرحمة، فسمى ذلك الموضع منى، وغفر ذنبهما. وقبل توبتهما ثم انصرفا إلى الهند. قال مجاهد: حدثنا ابن عباس أن آدم عليه السلام حج من الهند أربعين حجة على قدميه، فقيل لمجاهد: يا أبا الحجاج ألا كان يركب قال: وأى شئ كان يحمله، فوالله إن خطوته مسيرة ثلاث أيام. وهذا قبل أن يقصر إلى ستين ذراعا فى قامته. وقال ابن عمر: لما حج آدم - عليه السلام - البيت وقضى المناسك كلها، تلقته الملائكة يهنئونه بالحج وقبول التوبة، فقال: برحجك الله يا آدم، فدخله من ذلك شىء، فلما رأت الملائكة ذلك منه، قالوا يا آدم: لقد حججنا هذا البيت قبلك بألف عام، فتقاصرت إلى آدم نفسه. وقيل الكلمات ثلاثة أشياء: الحياء والدعاء والبكاء. وأصل الكلمة الكلم: [بفتح الكاف وإسكان اللام] وهو التأثير بالمعنى المصدرى الذى يدرك بالسمع ما يتحصل عنه، وهو نفس الصوت الملفوظ به، ويدرك بالعين ما يتحصل منه، كالجرح [بضم الجيم] وهو موضع الضرر الحاصل من الجرح [بفتحها].
{ فَتَابَ عَلَيْهِ }: رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة بسبب تلقيه الكلمات. كما دلت عليه الفاء، وذلك أنهن كلمات تضمن الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على عدم العود إليه، لما رأى من ضرره وحجبه عن الله، والتوبة: الرجوع، فتوبة الله على عبده: رجوعه عليه بالرحمة، وقبول ندمه، وتوبة العبد: رجوعه عن الذنب والندم عليه، والعزم على عدم العود إليه. وحواء مشاركة لآدم فى التوبة والتلقى بالإجماع، وخصه بالذكر فى التلقى والتوبة لأنه المخاطب فى أول القصة، فكملت القصة بذكره وحده، ولأن المرأة حرمة مستورة، فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها بالمعصية فى قوله:
{ وعصى آدم ربه } ولأن حواء تبع له فى الحكم، ولهذا طوى ذكر النساء فى أكثر القرآن والسنة.
{ إِنَّهُ هُو التَّوَّابُ }: كثير الرجوع وعظيمه على عباده بالرحمة، وقبول ندمهم عن الذنب والمغفرة، وترك العقاب والإعانة عن الندم والتوفيق إليه.
{ الرَّحِيمُ }: كثير الإنعام وعظيمه عليهم، وفى الجمع بين التوبة والرحمة بصيغة التأكيد: وعد عظيم للتائب بالإحسان والعفو، وإشارة إلى أن التوبة على العبد نعمة من الله - تعالى - لئلا يعجب بتوبته كما أن سائر طاعته نعمة من الله تعالى، بل الواجب عليه الشكر.