التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ نَجَّيْنَٰكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
٤٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وإِذ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آل فِرْعَوْنَ }: معطوف على { نعمتى } أو على { أنى فضلتكم } المعطوف على نعمتى فهو أيضاً فى المعنى على هذا الوجه معطوف على نعمتى، والعطف عطف خاص على عام، أى اذكروا نعمتى وتفضيلى إياكم، ووقت تنجيتنا إياكم من آل فرعون. ويقدر مضاف أى من أيديهم أو من تملكهم أو من استخدامهم أو من عذابهم، وهو الذى يدل عليه ما بعده، وقرئ { أنجيناكم }، وقرئ{ أنجيتكم }، وقرئ { نجيتكم }، وأصل آل أهل عند سيبويه بدليل تصغيره على أهيل قلبت الهاء همزة فاجتمعت همزتان أولاهما مفتوحة وأخراهما ساكنة فقلبت الأخرى ألفاً، وإنما قلبت الهاء همزة مع أن الهمزة أثقل من الهاء، لأنها إذا قلبت همزة قلبت الهمزة ألفاً والألف أخف من الهاء، فلا يعترض بأن يقال كيف يبدل الخفيف بالثقيل، ولا بأن يقال الهاء لا تقلب ألفاً، ويبحث فى ذلك بأنا لا نسلم أن أهيلا تصغير آل، بل تصغير أهل، اللهم إلا أن يقال إن الأوائل قد سمعوا من العرب أن تصغير آل أهيل، أو يقول قائل: جاء آل، فيجيبه أحد من العرب ما أهيلك، تحقيراً لآله ونحو ذلك مما يعلم به أن تصغير آل، ولو فتحنا باب التعرض لأئمة النقل فى طلب تصحيح نقلهم لم يبق اعتماد على ما فى الكتب ولا التعويل عليهم، ولا يتعرض لذلك إلا الواجب يعارض، وإلا لم يفد فائدة، وقد قال الشيخ خالد: سمع تصغير آل على أهيل، وتصغير على أويل والأول أشهر وأكثر. وإن قلت: قد استبعدت إبدال الهاء همزة إلا لعلة صيرورتها إلى خفة بقلب الهمزة هاء، وقد أبدلت همزة وبقيت الهمزة فى ماء وشاء. قلت لما ضعف ماء وشاء بإعلال العين قويا بإبدال لامهما وهو هاء وهمزة باقية، لأن الهمزة أقوى، وإنما لم تقلب الهاء فى آل ألفاً من أول الأمر لأن الهاء لم يعهد قلبها ألفاً، وأما قول السعد: إنها هاء قلبت وهى ثقيلة ألفاً وهى خفيفة فحصل له النقص بهذا، فكان لا يوضع إلا الذى شرف جبراً لذلك النقص، فالمراد به ضرورة هائه ألفاً بواسطة صيرورتها همزة أولا، وقال الكسائى: أصل آل أول بفتح الواو وغير مشددة قلبت ألفاً وهو من آل يؤول إذا رجع إليه بقرابة أو بدين أو نحو ذلك، وإنما قلبت ألفاً لتحركها بعد فتحة، واستدل الكسائى بتصغيره على أويل، وسمع هو بعض العرب الفصحاء يقول: آل وأويل وأهل وأهيل، وأقول إذا تقرر أنه سمع تصغير آل على أهيل وعلى أويل كما مر عن الشيخ خالد جاز أن تقول له أصلان أهل وأول، فباعتبار الأول يصغر على أهيل، وباعتبار الثانى يصغر على أويل، وتقدم أن الأوائل نقلوا تصغيره على أهيل فحملناهم على أنهم علموا من كلام العرب بقرائن أنه ورد أهيل تصغير لآل، وإن قلت فى الاستدلال بالتصغير دور لأن المصغر فرع المكبر وقد توقف العلم بأصالة الواو أو الهاء المكبر على أصالته في المصغر، قلت: توقف فرعية ألف فى آل على الهاء أو الواو فى أهيل أو أويل توقف وجود، وتوقف أصالة الهاء أو الواو على ذلك توقف فاختلف جهة التوقف فانتفى الدور، وإن قلت كيف يكون أصل آل أهلا والأهل من معنى القرابة والآل لا يختص بها؟ قلت: قابل ذلك يقول معناهما واحد قيل أو أراد بالأهل الذى هو أصل آل لفظ الذى أهل الذى هاؤه عن واو من آل يؤول، قلبت واوه هاء لتقارب مخرجهما، ولا نسلم تقاربهما، ولا يضاف غالباً إلا إلى الظاهر جبراً للنقص الحاصل له بإبدال هائه ألفاً بواسطة إبدالها همزة، كما لا يضاف إلا لشريف لذلك سواء كان الشرف دينياً أو دنيوياً تحقيقاً أو ادعاء مطلقاً أو نسبياً، ولا ينافي تصغيره كونه للشريف لأن التصغير يكون للتعظيم كما للتحقير، ولأن التحقير بنسبة لا ينافى التعظيم بأخرى، لأن الشرف إنما هو للمضاف إليه ولا يلزم شرف المضاف بشرف المضاف إليه، بل إنما يلوح فى بعض المواضع إلى شرفه بشرف المضاف إليه تلويحاً لا لزوماً، وإنما يضاف إلى معرف مذكر عالم، وسمع الأخفش آل المدينة وآل البصرة ومما سمعوه آل البيت وآل الصليب وآل فلانة، وذلك شاذ. وفرعون لقب لكل من ملك مصر قبل الإسلام، وقيل لكل من ملك العمالقة. وقد يجمع بينهما بأنه سمى فرعون لكونه ملك العمالقة، ولما سمى بذلك وكان مليكاً فى مصر سمى باسمه كل من يخلفه فى ملك مصر، وقيل فرعون اسم موضوع من أول الأمر لا لقب. قال السعد: يشبه أن يكون مثل فرعون وقيصر وكسرى من علم الجنس، ولذا منع الصرف ولكن جمعهُ باعتبار الأفراد مثل الفراعنة، والقياصرة، والأكاسرة يدل على أنهُ علم شخص سمى به كل من يملك وضعاً ابتدائياً. وقال: العمالقة أولاد عمليق ابن لاود بن سام بن نوح، ولعتوّ ملوك العمالقة اشتق من لفظ فرعون المطلق على ملوكهم تفرعن الرجل بمعنى عتى قال قائل:

قد جاءه الموسى الكلوم فزاد فى أقصى تفرعته وفرط غرامه

وقيل إن فرعون موسى هو فرعون يوسف، عاش أكثر من أربعمائة عام، والصحيح أنهُ غيره، ويأتى كلام فى غير هذا الموضع ـ إن شاء الله ـ سبحانه والمشهور أنهُ كان دخيلا فى مصر فاتفق لهُ الملك لتنافس أهلها كما يأتى ـ إن شاء الله تعالى ـ قيل جاء من أهل اصطخر.
{ يَسُوُمُونَكُمْ }: يذيقونكم أو يكلفونكم أو يبغونكم أو يأخذونكم أو يلزمونكم أو يولونكم، يقال سامه خسفاً إذ أولاه ظلما. قال عمرو بن كلثوم:

إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقيم الخسف فينا

وأصله من سام السلعة إذا طلبها، وأصل السوم الذهاب فى طلب الشىء، والجملة حال من (واو) أنجيناكم، والرابط (كاف) يسومونكم أو من آل فرعون والرابط (واو) يسومونكم أو حال من (كاف) أنجيناكم وآل فرعون.
{ سُوءَ الْعَذَابِ }: أشنعه بالشدة، أو هو قبيح بالنسبة إلى سائر العذاب. وسوء، مصدر ساء وهو مفعول به ثان ليسوم، وسوء العذاب هو تفريق فرعون إياهم أصنافاً: صنفا يبنون ويزرعون، وصنفاً يخدمونه، ومن لم يكن فى عمل وضع عليه الجزية، وقال وهب بن منبه: الأقوياء ينحتون السوارى من الجبال حتى تقرحت أيديهم وأعناقهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها، وصنف ينقلون الحجارة والطين يبنون لهُ القصور، وصنف يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وصنف نجارون وحدادون، ومن ضعف وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم مقداراً معلوماً، فما غربت الشمس قبل أن يؤديها غلت يمينه إلى عنقه شهراً. والنساء يغزلن الكتان وينسجنه.
{ يُذَبِّحُونَ }: بالتشديد للمبالغة والتكثير، وقرأ الزهرى (بفتح المثناة وإسكان الذال وفتح الموحدة) وقرأ عبد الله بن مسعود يقتِّلون بالتشديد كذلك، والجملة حال ثانية أو حال من (كاف) يسومونكم أو من (واوه) أى يسومونكم حال كونهم:
{ يُذَبِّحُون أبْنَاءَكُمْ }: ويجوز أن يكون سوم العذاب هو الذبح للأبناء. واستحياء النساء المشار إليه بقوله تعالى:
{ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ }: أي يبقونهن على قيد الحياة وهن صغيرات لا يقتلونهن أو الحبالى المخرق بطونهن يعالجونهن ليحيين، وعلى كون التذبيح والاستحياء هما سوء العذاب تكون جملة يذبحون عطف بيان لجملة يسومونكم عند من أجاز عطف البيان فى الجمل. والأولى أن يقال مستأنفة للبيان، فإن المشهور هو مذهب الجمهور أن عطف البيان لا يكون فى الجمل، وإذا أطلق فى الجملة أنها بيان جمل على معنى البيان اللغوى، لا على العطف، ويجوز أن يكون بدل الشىء من الشىء، وإن قلت: قد عطفت فى سورة إبراهيم بالحرف، والعطف به يقتضى التغاير فكيف يصح أن يكون هنا عطف بيان، أو بدل الشئ من الشئ أو تفسيراً؟ قُلت: ما هنا من كلام الله تعالى فكانت الجملة نفس ما قبلها موضحة لها، وما هناك من كلام موسى عليه السلام وكان مأموراً بتعداد المجئ فى قوله:
{ { وذكرهم بأيام الله } فعدد المجئ عليهم فناسب العطف بالحرف، وبان ما هنا لصفات العذاب، وما هناك مبين أنهُ قد مسهم عذاب غير الذبح. وقرأ أبو عمرو بإسكان نون (يستحيون) وإدغامها فى (نون) نساءكم، ولو التقى ساكنان لأن الأول حرف مد، وإنما ذبح أبناءهم لأنهُ رأى فى منامه أن ناراً أقبلت وأحاطت بمصر وأحرقت كل شئ ولم تتعرض لبنى إسرائيل، وخربت بيوت مصر. وهاله ذلك، فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج ـ من هذا البلد الذى جاء بنو إسرائيل منه ـ رجل يكون هلاك مصر على يديه، وفى رواية سأل الكهنة وقالوا يولد غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك، فأمر فرعون بقتل كل غلام يولد فى بنى إسرائيل، ووكل بالقوابل من يراقبهم، حتى قتل فى طلب موسى اثنى عشر ألفاً، وقيل سبعين ألفاً، وأسرع الموت فى مشيخة بنى إسرائيل، فدخل رؤساء المصريين على فرعون وقالوا: إن الموت قد وقع فى بنى إسرائيل، يذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون فى السنة التى لا ذبح فيها وولد موسى فى سنة الذبح، فوضعته أمه فى تابوت وألقته فى البحر، فرباه فرعون بنفسه فلم يردَّ اجتهادهم من قدرة الله شيئاً. وذكر ابن عباس وابن اسحاق وغيرهما أن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون: قد أظلك زمان مولود من بنى إسرائيل تخرب ملكك.
{ وَفِى ذَلِكُم }: الإشارة إلى المذكور من سوم العذاب وذبح الأبناء.
{ بَلاَءٌ }: محنة، والمحنة الاختيار، وقد علم الله سبحانه أيصبرون أم لا يصبرون، لكن لما كانت صورة تسليط فرعون عليهم كصورة من أوقع أحداً فى أمر موجع، ليعلم أيصبر أم لا، سماها باسم الاختبار وهو البلاء. ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء من آل فرعون بواسطة موسى، فيكون البلاء بمعنى النعمة، لأن الاختبار يكون بالنعمة هل تشكر؟ كما يكون بالمكروه هل يصبر عليه؟ فجاز أن تسمى النعمة وهى الأنعام باسم الاختبار وهو البلاء. ويجوز أن تكون الإشارة إلى المذكور من سوم العذاب وذبح الأبناء والإنجاء. فيكون البلاء بمعنى الامتحان بالمكروه هل يصبرون عليه؟ وبالنعمة هل يشكرونها؟ فالآية مبهمة على وجوب شكر السار والصبر على الضار.
{ مِنْ رَبِّكُمْ }: نعت أول لبلاء والثانى قوله:
{ عَظيمٌ }: فهو من تقديم الوصف الجار والمجرور على الوصف المفرد.